قبلَ فترة وجيزة وفي العشرين من أيّار هذا العام رحلَ الشّاعر العراقيّ الكبير مظفّر النوّاب في إمارة الشّارقة مخلّفًا وراءَه إرثًا أدبيًّا قيّمًا وأثرًا ثوريًّا في وجه الطّغيان والطّغاة. وليست هذه العجالة في صددِ الكتابة عن النوّاب فقد سبقني إلى ذلك الكثيرون، بل هي لمعالجة مسألة نصٍّ اُشتهر بين العامّة مؤخّرًا منسوبًا إلى شاعرنا النوّاب وهو ليسَ له، وقد نحلته العامّة إليه لشبهٍ وقع في النصّ المنحول ببعض المفردات النّابية في قصيدته "القدسُ عروسُ عروبتنا".
بدأت الحكاية حين نشرَ فادي عزّام، وهو كاتب وروائيّ سوريّ (مواليد 1973 السّويداء)، نصًّا عن دمشق تحت عنوان "إنّها دمشق يا أولاد القحبة"، في العدد الواحد والعشرين من مجلّة أوكسجين الإلكترونيّة بتاريخ 6 تشرين الثّاني 2005. ولا يُعرف بالضّبط متى ومَن بدأ بنحلِ النصّ إلى مظفّر النوّاب. لكن من المؤكّد أنّ مَن فعلَ ذلك (ومَن ما يزال يفعله) ربطَ بين نصّ عزّام والشاعر النوّاب بسبب "يا أولاد القحبة" التي وردت في عنوان النصّ عند عزّام نقلًا عن قصيدة النوّاب الشّهيرة التي مطلعها "القدسُ عروسُ عروبتكم". و"أولادُ القحبة" أصبحت ماركة مُسجّلة باسم النوّاب، يعرفه العامّة بها، وهي ما جعلهم ينسبون إليه كل ما يندرج تحت هذا التّعبير، وقد يكون من المخجل على قرّاء الأدب أن يعرفوا شاعرًا بأبخس ما لديه. لكنّ شتيمة كهذه من العيار الثّقيل تُصبح بركةً عند شعوب ضاقت بطغاتها وأنّت تحت نير استعباد القمع والتنكيل، وهي تعبيرٌ صريحٌ جدًّا ينفّس قليلًا عمّا في صدور جماهير مكبوتة لا تجرؤ حتّى على التنفّس بصوتٍ عالٍ.
أشهرُ المُساهمين في هذا اللغط، ولعلّه أوّلهم، كان الكاتب العراقيّ جمال محمّد تقيّ حين نشرَ النصّ في الحوار المتمدّن في 8 أيلول 2009 منسوبًا إلى النوّاب. لكنّه عاد وبعد أكثر من شهر لينشر مقالًا في الموقع عينه ينفي نسب القصيدة إلى الشّاعر العراقيّ ويعتذر إلى كاتبها الأصليّ عزّام. لكنّ المارد خرج من القُمقم ولم تعد محاولات استرجاعه تُجدي ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهكذا تلقّف جمهور القرّاء والنّاشرين "إنّها دمشقُ" مظفّريّةً وتتالى النشر وتتابع حتّى عمّ الشّبكة العنكبوتيّة فاختلط عزّام بالنوّاب متراجعًا أمامَ اسمه الكبير، وامتزجت دمشقُ "بأولاد القحبة".
لم يقف عزّام مكتوفَ اليدين يُشاهد نصّه يُسرق منه، فبدأ المواجهة حين نشرَ النصّ ورقيًّا مطبوعًا عن دار ميريت في القاهرة سنة 2010 ضمن مجموعة من ثلاث وعشرين نصًّا بعنوان "تحتانيّات". كما نشرَ عدّة توضيحات حول المسألة في عدّة مواقع وصفحات إلكترونيّة منها "صفحات سوريّة" لحسين الشّيخ في شباط 2010، كما نُشر التّوضيح ورقيًّا في القدس العربي في العام عينه. وأعاد العزّام نشر توضيحات أخرى في سنوات لاحقة وعلى صفحات جديدة. فأمّا أشهر مَن كتبَ عن ذلك في مقالٍ نقديّ رصين فهي بتول الحصريّ العراقيّة في مقالها "إنّها دمشقُ يا أولاد"، تسخرُ من تلك الذّائقة الشّعريّة التي ما عادت تميّز الشّعراءَ وأدبهم، وتنفي عن النوّاب النصَّ.
وبالرّغم من نشرِ النصّ ورقيًّا باسم عزّام، ونفي الحصريّ النصّ عن النوّاب، إلّا أنّ هذا لم يمنع محمّد سعيد الطّريحي من نشرِه ورقيًّا منسوبًا إلى النوّاب في الطّبعة الثّانية من كتابِه "الهيام بين العراق والشّام: دمشق في الشّعر العراقيّ" بتقديم كل من الدكتور علاء الجوادي (السفير العراقيّ في سوريا آنذاك) والدكتور مازن يوسف صبّاغ، عن دار الموسم للإعلام، في هولندا سنة 2011 (الصفحة 199).
تتالت الرّدود في سيرة النصّ بين نسبٍ ونفيٍ فقد قامت الفضائيّة الإخباريّة السّوريّة سنة 2013 بنشره مصوّرًا ملحّنًا منسوبًا إلى النوّاب تحت اسم "أوبريت إنّها دمشق". ولم تلبث نسرين طرابلسي أن كتبت ردًّا سياسيًّا قاسيًا على الإخباريّة السّوريّة نُشر في جريدة القدس العربي من العام نفسه. فأمّا همام السيّد فقد لخّص المسألة برمّتها في مقال مقتضب سنة 2014 "إنها دمشق التي ضاعت بين القبائل"، نشره على موقع العربي الجديد.
وبالرّغم من ضراوة الرّدود في وجه نحل النصّ إلى النوّاب إلّا أنّ تدافع النّشر وتواصله لم يتوقّفان وخاصّة ضمن الصّحف السّوريّة الرّسميّة. ففي 25 أيلول 2017 كتبَ إسماعيل مروة مقالًا في صحيفة الوطن السّوريّة عنونه "دمشق امرأة بسبعة مستحيلات" ويحكي قصّةً عن صديقٍ دبلوماسيّ إماراتي أرسلَ إليه النصّ باسمِ النوّاب. وهكذا فعلَ أحمد عسّاف في مقاله "هي الشّام أميرة العواصم" الذي نشره في صحيفة البعث السوريّة في 28 كانون الأوّل 2017. فأمّا آخر جرائم النّحل والنّسب فقد كان على يد الرّافد وهي صحيفة اللجنة المركزيّة لحزب اليسار الدّيمقراطيّ السّوريّ في عددها 1218 الصّادر في 31 كانون الأوّل 2021، وليسَ جديدًا أنّهم وضعوا عنوانًا آخرَ للنصّ (القصيدة) "هل تعرف مَن هي أو ما هي دمشق" مذيّلًا باسم النوّاب. وعلى غرارهم أجمعين نعت صحيفة الثّورة السّوريّة الشّاعر مظفّر النّوّاب في 20 أيّار 2022 بعنوانٍ عريض "مظفّر النواب: دمشق لا تقبل القسمة على اثنين" ونشرت نصّ عزّام بتوقيع النوّاب من جديد.
تحضرني السّاعة مسألة بدويّ الجبل وقصيدته التي لم يقلها أبدًا، وملخّص ذلك أنّ العامّة تتداول قصّةً يُقال فيها كيفَ دُعي الشّاعر السّوري إلى إلقاء قصيدةٍ في الجامع الأزهر لكنّ القصيدة سُرقت منه أو ضاعت وحين اعتلى المنبر ارتجلَ قائلًا: "آهٍ على سكرةٍ في الأزهرِ ... مِن خمرة اللهِ لا من خمرة البشرِ". والقصّة خياليّة طبعًا بما فيها بيت الشّعر المكسورِ. إلّا أنّ الجماهير المُقبلة على شعرِه ترفض تصديق النّفي، حتّى إن جاء الشاعر نفسه وحلف الأيمان المغلّظة فلن يُصدّقه أحد.