حكمتْ "نكتةٌ" بحقِّ الزَّعيم على رجلٍ بريءٍ بالسّجنِ أكثر من ثلاثة عشر عامًا! حكمت عليهِ بالعذابِ والموتِ طوالَ تلك المدّة، لا بل أبعدَ منها وأعمقَ بكثير!
تبدأ قصّةُ المتلصِّصُ (بطل الرّواية) في مطارِ أورلي-باريسَ في العشرين من نيسانَ، ثُمَّ تمتدُّ على جسدِ ونفسِ إنسانٍ معذّبٍ مرذولٍ مهانٍ منتهكٍ بشتّى أساليب الانتهاك الجسديّ والنفسيّ طوالَ ثلاثة عشر عامًا وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا، مرورًا بلحظةٍ خاطفةٍ من حريّةٍ جسديّة على رصيفٍ مبلّلٍ بدموع السّماء أمام باب أحد الفروع الأمنيّة في العاصمة الدمشقيّة، دون أن تنتهيَ في تاريخٍ معيّن! فتوغّلُ القمعِ الوحشيِّ طبعَ هذا المتلصِّصَ بآثار تبرزُ في كلِّ لحظةٍ ممّا تبقّى من لحظاتِ حياتِه، وتأوّن إطارَ السّجن بكلّ ما فيه من شراسةٍ وبربريّة.
كتابٌ في مأساة يرويها لنا الكاتبُ تبيّنَ لنا بطشَ الأجهزة الأمنيّة إبّان حكمِ الرّئيسِ الرّاحلِ حافظ الأسد، وخاصّةً في أثناء أحداث الأخوان المسلمين وما بعدها في العقد التّاسعِ من القرنِ العشرين.
إنَّ التفاصيلَ التي يستعرضها الكاتبُ بكلِّ دقّةٍ لا تفسّرُ أيًّا من الأسبابِ التي دفعت العناصرَ الأمنيّة والعسكريّة إلى معاملة المتّهمين والمحكومين بأفظع وسائل التعذيب وأرهب أشكال الذلّ، وبصورٍ استقاها الكاتبُ من واقعٍ حدثَ ليست توجدُ في عالمِ الحيوان. يصفُ على سبيلِ المثال، وبتفصيلٍ مأساويّ مليءٍ بالرّعب، يومَه الأوّل في السّجنِ الصحراويِّ حيثُ يصلُ بدفعةٍ من واحدٍ وتسعين سجينًا، قُتلَ منهم ثلاثةٌ في ساحةِ التعذيب فورَ الوصول، وماتَ عشرة منهم لاحقًا متأثّرين بالجروح والإصابات البليغةِ جرّاء المعاملة الوحشيّة، اثنان منهم أصيبا بالشّلل، وواحدٌ بالعمى.
ما يلفتُ انتباه القارئ ضمن أحداث السّجنِ الصحراويِّ وغيرِه من السّجون هو هذا التعاضد المتين، والفداء العاجل المجانيّ بين جماعات التيّارات الإسلاميّة، ونذكرُ منها خاصّةً جماعة الأخوان المسلمين. أتساءلُ: لو استطاعَ المسلمُ المنتمي إلى تلك التيّارات أن يخرجَ من قوقعةِ انتمائِه الضيّق نحو أفق الإنسانيّة الأرحب، وأن يمارسَ هذا الفداء عينَه تجاه كلِّ ذي بشر؛ ألن تصبحَ بلادُ المسلمين مثالًا حيًّا على الاشتراكيّة الرّوحيّة، وتتحوّلَ صورةُ مجتمعاتنا القاتمة القذرة إلى صفحةٍ نقيّةٍ تضمّ جميعَ الأطياف والألوان والمذاهب، وتشتركَ هذه الجماعات عينها في صلبِ رسالة المسيح وجوهر فدائه؟!
أنشأت جماعةُ الأخوان المسلمين ما عُرفَ "بالفرقة الفدائيّة"، ولكلِّ مهجعٍ من مهاجع السّجن فرقتُه، وهي تضمُّ خيرة الشّباب ذوي البنية المتينة والجسدِ القادرِ على احتمال جميع أصناف العذاب. وقد تطوّع أفرادُ الفرقةِ الفدائيّة للقيامِ بالمهامّ الخطرة والعاجلة، كإحضار الطّعام تحت وقع السّياط والكابلات العنيف، والنّيابة عن المرضى والشّيوخ في تلقّي الجلد والعقاب. لستُ في معرضِ البحثِ في دوافع هذا الفداء أطمعًا كانَ في ملكٍ سماويٍّ أم إرضاءَ حاجةٍ دينيّة أم إيمانًا عميقًا في جهادٍ أرضيٍّ أم شهادةً حيّةً على الدّينِ... إلخ، إلا أنّي لا أستطيعُ الصّمتَ حيال رغبةٍ تجتاحني في أن ينطلقَ هذا الفداء بدافعِ المحبّة الخالصة المتجرّدة عن كلّ وهمٍ، محبّة الذّات والآخر وصولًا إلى محبّة الله.
كانَ المتلصّصُ مسيحيًّا غيرَ مؤمن وهو الوحيدُ كذلك في مهجعٍ يضمُّ حوالي ثلاثمئة مسلمٍ يتوزّعون بين جماعات مختلفة متفاوتة بين التشدّد والاعتدال! كانَ موقفُ هؤلاء منهُ مختلفًا تراوحَ بين تطرّفٍ وصلَ مرّةً حدَّ محاولة القتل، وبين تعاطفٍ وتآخٍ بلغَ عمقَ الصّداقة كفي حالة نسيم.
إنّ الشّراكة التي يتحسّسها القارئُ مع بطلِ المأساة، لا بُدَّ من أن تحرّك شيئًا من مشاعرِه كما حدث معي عدّة مرّاتٍ إلى درجةٍ قادتني انفعالاتي فيها مع الأحداث إلى البكاء، أذكرُ من تلك الصّور: موت الشّيخ محمود، هذا الإنسان الذي وقفَ في وجهِ المتشدّدين حين عزموا على قتلِ المسيحيِّ الكافرِ الوحيدِ في المهجع! ومشاركتي الشّعورَ بالذلّ حينَ بصقَ أحدُ الضبّاط مخاطَه في فمِ أحد السّجناء وأرغمه على بلعِه. لم أستطعْ كبتَ بكائي مجدّدًا عندما بكى رجالُ المهجع قاطبةً بعد صدورِ حكم الإعدام بأخوة ثلاثة أمام عينيّ والدهم السبعينيّ. فأمّا تفجّعي فكانَ حين التقاء المتلصّص السّجين بأخيهِ بعد 19 عامًا من الفراق وهكذا كانَ أمامَ حادثة انتحارِ نسيم.
أعادت يوميّاتُ المتلصّصِ إلى ذاكرتي الصورَ التي رسمها اليهوديُّ الإيطاليّ بريمو ليفي في كتابِه Se questo è un uomo مؤرّخًا يوميّاته والحوادث التي وقعت له في معسكرات الاعتقال النازيّة، وبرغمِ كلّ ما جاءَ فيها من عذابٍ وذلّ، فإنّ ما حدثَ في السّجن الصحراويّ (في رواية القوقعة) لا يوصف ولا يُقارن بأيّ عذابٍ آخر، لا بل إنّه قد يفوق قصص عذاب القبر الذي تصفه بتفصيلٍ مرعبٍ كتبُ الإسكاتولوجيّا الإسلاميّة.
لستُ راغبًا في سردِ أحداث الرّواية، أو حتّى إيجازها، بل أجده كافيًا ما جاء أعلاه من تمهيدٍ وعرضٍ موجز لأهمّ ما ارتأيتُ الإشارة إليه. باختصار، فإنّ "القوقعة" كتاب يعرض لواقعةٍ حدثت ومنها ما زالَ يحدث، موضوعها الكاتبُ عينُه، يفصّلها بدقّة وبرسمٍ متقن ومؤثّر، ويطرح على قارئها (قارئه) بين الحين والآخر مجموعة من التساؤلات تنفذ إلى أعماق النّفس الإنسانيّة وتدعوه إلى اختبار إنسانيّته مرّاتٍ ومرّات، ثُمَّ تتركه في حالة ذهولٍ وجمود أمام نماذج إنسانيّة عاشت واستمرّت وما زالت. "القوقعة" رواية لمصطفى خليفة لا تُقرأ سوى مرّةٍ واحدة، ليسَ لضعفها أو هشاشتها أو برودة أسلوبها، بل لأنّك لن تجرؤ على أن تفعلَ ذلك مرّةً أخرى.