الثلاثاء، مارس 17، 2009

الزّواجُ المختلط في السينما والتلفيزيون

شاهدنا في الأشهر القليلة الماضية، تجارب فنية في الدراما العربية، على شكل موجة من الأفلام والمسلسلات اليومية، ظهرت أمامنا على شاشات التلفزيون تباعاً في إطارٍ فنيٍ سائغ، وطرحت قضايا عن الإرهاب؛ فاستحوذت على تفكير الناس من مختلف فئات المجتمع. ثمَّ ما لبثت هذه الموجةُ أنِ انحسرت بعد مضيّ تلك الأشهر القليلة، لتعقبها موجة جديدة، حملت إلينا قضية قديمة جديدة، هي قضية: "العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في المجتمع العربي الواحد".
.
وربما كانت الأحداث التي شهدناها في الفترة الأخيرة: كالتوتّر الطائفي المستعر، وحمّى حوار الأديان التي اجتاحت المنطقة؛ هي التي دفعت بعض المخرجين والكتّاب، إلى أن يقوموا برصد هذه القضايا والأحداث، ثم صوغها في قالب أدبي- فني خاص، أرادوا له أن يكون جذّاباً ينقلها من حيّز نشرات الأخبار المملّة، إلى عالم السينما والتلفيزيون الواسع الممتع، الذي يدخله الناس في بلادنا من جميع الأعمار بشغف واهتمام.
.
وقد أظهرت هذه التجارب الفنية جرأة غير مسبوقة في تناول هذه القضية التي تتمتع بحساسية مرهفة، أمام المشاهد العربي. إلا أنّها -مع الأسف- فشلت في فهم الأسباب التي أدت إلى ظهور وتفاقم المشكلة، ووقفت وكأنها عاجزة عن فهم طبيعة الصراع الديني القائم في الشرق العربي، وعن تفسير الدوافع التي تحرك الناس هناك إلى التشدد والتعصب والتطرف.
.
ولعلّ السبب في هذا الفشل، يعود إلى سببين رئيسين، أولهما: الخوف من الخوض في عمق أعماق قضية الصراع الديني الملتهب أو الخامد في واقع عربي تسيطر عليه أنظمة سياسية، لا تسمح لأهل الفن والكتاب عادة بتخطي الحدود التي ترسمها لهم، ولا سيما الحدود التي يمكن أن تسيء في نظرها إلى ما يسمى بالوحدة الوطنية. أضف إلى هذا الخوف من رجال الدين وعامة الناس الذين لا يتورعون عن إباحة دم كل من يقترب من (الخطوط الحمراء) للدين. وثانيهما: قد يعود إلى انحياز المؤلفين والمخرجين و المنتجين -وأغلبهم، إن لم يكن جميعهم، من المسلمين- إلى جذورهم الدينية، وإلى تعلقهم بتراثهم الثقافي والتاريخي، بحيث يشقُّ عليهم أن يروا الخلل والعيب في دينهم، أو أن يروا هذا الدين في قفص الاتهام. فلا غرو في أن يمضوا إلى معالجة القضية معالجة سطحية ضمن قوالب مسبقة الصنع متحيزة ، تفتقر غالباً إلى الموضوعية ، والصدق، وصحة الطرح.
.
فيلم "حسن ومرقص" الشهير -على سبيل المثال- كان آخر هذه التجارب السينمائية، التي أثارت مسألة الطائفية المستشرية في المجتمع المصري. وهو فيلم -إن شئنا الإنصاف– يخالف الدعاية التي تنفي وجود التمييز الطائفي في مصر، ويأتي بما يعاكسها، وقد أظهر بشكل واضح أنّ المصريّين منقسمون إلى فئتين؛ تحمل كل فئة منهما للأخرى في قلبها أحقاداً دفينةً ، ومواجد قابلة للانفجار في أيّة لحظة -وما الأحداث التي شهدتها مدينة الاسكندرية، إلا برهان ومثالٌ حيٌّ على وجود هذه الأحقاد- كما أظهر أنّ رجالَ الدين من كلا الطرفين (المسلم والمسيحي) لا يسعون إلى اجتثاث المشكلة الطائفية من جذورها، وإنما يسعون إلى التهدئة، ويكتفون بتقديم المسكّنات الكلامية المعسولة علاجاً لها.
.
وكان الفيلم في كلِّ هذا صادقاً، كما كان صادقاً أيضاً حين اعترف –ولو على مضض- بأنّ الأقباط يتجرّعون مرارة التمييز والاضطهاد والكراهية، من يد المسلمين شركائهم في الأرض والوطن، ويتعرضون منهم للإرهاب الفكري والجسدي معاً. ولكنه لم يكن صادقاً، حين جعل من الأقباط -وهم الضحية- جناة متساوين في الجناية مع المسلمين الذين هم أصل البلاء. فكأني به هنا يقصد أن يخلق انطباعاً مضللاً عند المشاهد، يوهمه بأن الطرفين متورطان بصورة متوازنة في الإثم، لينأى بنفسه عن الاعتراضات، والمساءلات، والاتهامات، ومواجهة الحقائق من جهة، وليخفف من ثقل الجرائم التي يرتكبها المسلمون تحت تأثير دينهم، الذي يروّج العنف في وضح النهار من جهة ثانية.
.
ولا بُدَّ لنا في هذا السياق، سياق التوتّر الديني الذي تعانيه المجتمعات العربيّة، من الحديث بشكل مركّز عن مسألة الزواج المختلط بين أتباع الديانتين؛ لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بجملة العوامل التي تشحن المجتمع العربي بالعنصرية الدينية والطائفية. ولكي أتمكن من شرح وجهة نظري بأيسر الطرق، سأطرح فيما يلي مثالاً حديث العهد؛ هو مسلسل "ليس سراباً" لفادي قوشقجي (كتابةً) والمثنى صبح (إخراجاً) بوصفه واحداً من النماذج، التي نالت حظوةً كبيرةً في أعين المشاهدين؛ بفضل القضية المحورية التي عالجها، وهي قضية: العلاقة بين المسيحيين والمسلمين في المجتمع السوري عامة، وقضية الزواج المختلط خاصة، ولا ننسى فضل النخبة المحبوبة من نجوم الشاشة الفضيّة المشهود لها بالإبداع .
.
(حنان وجلال): امرأة مسيحيةٌ، ورجل مسلم، جمعتهما قصةُ حبّ متبادل. وكان كلاهما فيما مضى قد خاض تجربة زواج فاشلة. (جلال) الصحفي والكاتب العلمانيّ، يمثّل فئة الليبيراليين التنويريين، واحدٌ من أولئك الذين يتصدون بشجاعة للمدّ الإسلاميّ (المغالي) في التطرّف. وحنان المرأة الشابة الجميلة التي تعيش وطفلتها -بعد انفصالها عن زوجها- في أحضان عائلتها المتعصّبة لمسيحيتها، عائلتِها المكوّنة من أبيها (الغاضب المتجهّم دوماً) وأمّها (البائسة الخانعة). وهذه المرأة الشابة ستحاول جاهدة في هذا الجوّ المكفهر، أن تخترق الحواجز الشائكة، وأن تنشِّئ ابنتها على حبّ واحترام الآخر المخالف لها في العقيدة والثقافة.
.
وكان مَثَلُ هذا المسلسل كمثل فيلم (حسن ومرقص) فإنّه مع كلّ ما حصد من الجوائز وما نال من الترشيحات والألقاب (أفضل نصّ، أفضل ممثل، أفضل ممثلة) لم ينجُ من الثغرات والأخطاء التي ارتكبت فيه عمداً أو سهواً. ولسوف تساهم هذه الأخطاء والثغرات في سقوطه بلا ريب إلى مرتبة "الفقاعة الدرامية" التي يزول أثرها من نفس المتلقّي، حالما تهبط شارة النهاية.
. ومن أبرز هذه الأخطاء التي وقع فيها كاتب المسلسل الشهير، والتي لا بُدَّ من ذكرها لتوضيح عناصر اللوحة الفكرية للمسلسل؛ أنه قام بنفس المحاولة الرخيصة الماكرة، التي قام بها من قبله كاتب قصة فيلم "حسن ومرقص" حين عمد إلى تزييف حقيقة ما يجري بين الطرفين، بأن أوحى للمشاهد بأن المسيحيين طرف فاعل في صراع طائفي صامت مع المسلمين، وأنهم يتساوون معهم في الذنب، وفي المسؤولية الاجتماعية والدينية عما يتفجر من التناقضات داخل المجتمع.
وهي تسوية جائرة بلا شك، مبنية على خطأ ربما كان مقصوداً. إذ لا يعقل أن يكون المسيحيون -وهم أقلية- متساوين في "الذنب" مع أكثرية مسلمة تطغى بقوانينها وشرائعها وأحكامها وسلوك أفرادها. وهي تفرض عقيدتها فرضاً على جميع مناحي الحياة وأنشطة الناس.
.
ويحوي المسلسل مشاهد مفتعلة غير صحيحة عن الحياة الاجتماعية للمسيحيين، دلت على جهل الكاتب بالعادات والتقاليد الخاصة بهم، وبطرائق تفكيرهم. ففي أحد المشاهد -على سبيل المثال لا الحصر- يظهر خال حنان، ويحاول أن يقنعها بالزواج من ابنه، بحجّة أنّه يريد"الستر عليها لكونها مطلّقة"! وهذا -كما لايخفى- تعبير مأخوذ من البيئة الإسلامية، وليس مألوفاً عند المسيحيين أو وارداً في معاجمهم.
.
فإذا عدنا الآن إلى مسألة الزواج المختلط، التي سبقت الإشارة إليها (وهي الطامة الكبرى في هذا المسلسل) وجدناها وقد تمّت معالجتها بطريقة ملتوية خبيثة، وبعقلية إسلامية لا ترى الوجود إلا بعينها، ولا تسمع الأصوات إلا بأذنها، ولا تتذوق الطعوم إلا بلسانها، ولا تشم الروائح إلا بمنخرها. قد ابتلاها الله بالغرور والتجبّر وضيق الأفق والسذاجة. فها هي تحاول في المسلسل أن تقنعنا -نحن الذين عايشنا هذا الواقع بجميع تفاصيله: المؤلمة والمفرحة، الصغيرة والكبيرة، الحلوة والمرة- أنّ العقبة التي تعترض الزواج المختلط، عقبة اجتماعية، مصدرها العادات والتقاليد، وأن الزواج المختلط خيار فردي لا يمسُّ بنتائجه سمعة العائلة، التي أقدم أحد أفرادها عليه، إلا لأن فيه خروجاً على المألوف من التقاليد فحسب، وأنّ تعصّب كلّ طرفٍ لدينه، ناشئ عن مؤثرات خارجيّة، أو ظروف اجتماعية، أو حالات فرديّة استثنائية لا صلة للدين بها.
.
وقد تجلّت في ردود الأفعال التي صدرت عن شخصيات المسلسل، عقب زواج بطليّ المسلسل، صورة واضحة لهذه الذهنية الإسلامية التي تزن الأشياء بغير ميزان العدل : فالشخصيّات (مسيحية كانت أم مسلمة) التي اتسمت ردود أفعالها بالهدوء والاتزان، وتقبلت فكرة الاختلاف، واحترام خيارات الآخرين، ستكون بالضرورة إيجابية خيّرة بعيدة عن التعصب، وعلى جانب عظيم من الوعي والانفتاح والثقافة والرقي، وأمّا الشخصيّات (والد حنان مثلاً) التي اتسمت ردود أفعالها بالهيجان والانفعال والغضب والثوران، ورفضت المساومة في هذا الشأن، ولم تبد شيئاً من التساهل والليونة والمرونة و التسامح، فستكون بالضرورة شخصيات سلبية مكروهة، لا تتمتع بخصال حميدة، وليس لديها وعي منفتح، ولا موقف سليم.
.
وهذا فرز للمواقف من خلال الشخصيات، ينطلق فيه الكاتب من نظرة أحادية الجانب، تتفق مع انتمائه الديني. وسوف يحاول تمويهها بقشور علمانية، ولكنها ستنكشف أمام الافتراض التالي: ماذا لو تغير المشهد هنا؟ وتغيرت عقيدة أبطاله الدينية، فصارت المرأة الشابة "حنان" مسلمة، وصار "جلال" المسلم مسيحياً؟ فهل كان الكاتب سيجرؤ حينئذ على تصوير المشهد هذا بمثل ما صور به المشهدَ السابق؟ هل كان سينظر إلى زواج المسلمة هذه النظرة المتسامحة الرضية المتعاطفة المتفهمة المشجعة؟؟ لا، لا نظن الكاتب يجرؤ على أن يُقدِم عليهما. ولذا إنّ من حقنا كمسيحيين أن نتساءل باستنكار: لماذا يحق للمسلم ما لا يحق للمسيحي؟ ومن حقنا كمتفرجين أن نتساءل: لماذا لا نشاهد في الفضائيات مسلسلات وأفلاماً، تعالج زواج المسلمة من المسيحي أو من غيره؟ ومن حقنا كنساء أن نتساءل أيضاً: لماذا يحق للرجل المسلم أن يتزوج في غير دينه، ولا يحق للمرأة المسلمة أن تتزوج في غير دينها؟ أين العدل؟ أين المساواة؟ أين حقوق الانسان؟ أليس من حقنا في النهاية كمواطنين ورعايا في بلدان دينها الإسلام، أن نحمي أنفسنا من عنصريته وتجبّره علينا بشرائعه التي تخالف مبادئ الأخلاق الانسانية المتحضرة؟ فنرفض الزواج المختلط من طرف واحد. لا لأنه يؤذي مشاعرنا الدينية، بل لأنه يؤذي كرامتنا قبل كل شيء. فالجار الذي يحلُّ لنفسه من مال جاره وممتلكاته وحرماته، ثم يمنع عليه ما أحله لنفسه من ماله وممتلكاته وحرماته، هو رجل متجبّر، مستكبر، يحتقر المجاورَ له ويزدريه، ويطعن في شرفه وكرامته. وإلا، فإنْ رضينا، فإننا نكون بهذا الرضا، أقررنا بصحة قانون الأحوال الشخصية الخاص بالمسلمين، وفضلناه على غيره من القوانين، فأسهمنا في تعزيز مكانته، ودوام سلطته.