الثلاثاء، يونيو 16، 2009

رسالة (1)

ديانا الحبيبة
.
ها إنَّ نفسي مغمورةٌ بعطف الطّبيعة وهي تقف على شرفة جبلٍ من جبالِ كسروانَ، ترى بيروتَ - وقد مدّت ساقيها على شاطئ المتوسّط - ومضت تسترقُ السّمعَ إلى هنهنات العصافير وتنهّدات الحمام، خشية أن تقطعَ عليها خلوتها في أحضان البلّوط وسكينة الكروم، بيدَ أنَّ أصواتَ المدنيّة لا تني تكسرُ بضوضائها سكينتنا، فتسمعين بين الحين والآخر أبواق السيّارات المُزعجة كلّ إزعاج، وصراخات البشر حينَ يتحدّثون، وكأنّهم صمٌّ لا يسمعون، وفي غمرة هذا النّزاع بين طهارة الطّبيعة وبراءتها وسكينتها وبين المدنيّة وإنسانها الغارق في الجهل والأنانيّة؛ أقفُ لا أدري أيَّ الطّريقين أسلك... فالطّبيعة الأم لا تكلّ من العطفِ على ابنها الإنسان وأبنائها الآخرين من الأحياء، ولا تملّ من العطاء بسخاءٍ لا مثيل له ودون مقابل؛ بينما المدنيّة المـُصطنعة وإنسانُ يومها هذا خاليان من الجمال والعطاء ومن كلّ فضيلة تجدينها بين الأفنانِ وفي أكناف الطّيور وشرائع الغاب!
.
باللهِ عليكِ يا رفيقةَ روحي ألا تمدّي ليَ يدَ العون فتخبريني أيَّ الطّريقين يقودُ إلى منابع الحياة وبساتين الخلود؟! باللهِ عليكِ ألا يحتار المرءُ إذ يجدُ عالمه بعيداً كلَّ البعد عن عالم الإنسان وترّهاته وسفاسفه ومظالمه وأطماعه وعن كلّ ما اعتمر به قلبُ إنسانٍ من رذيلة؟! كيفَ لي وقد بلغتُ الحادية والثّلاثين فملأتني أدرانُ العالمِ وسلبتني تلك الطّهارة التي وسمتني أيّام الطّفولة والفتوّة... كيفَ لي أن أعودَ إلى أمّنا الطّبيعة وأحملَ إلى أحضانها ما أخذتُه عن العالمِ من قذارة ورذالة؟! حريٌّ بي أن أصمتَ فلا أنطق حرفاً، وأحشو أذنيَّ فلا أسمع صوتاً، وأن أعمي عينيَّ فلا أرى صورةً أو مشهداً؛ عسى سنوات أصرفها بجسدٍ لا حسَّ فيه أن تغسلَ فيَّ هذا العار الصّارخ بكلّ شياطينِه!
.
أريدُ أن أكتبَ إليكِ أكثرَ وأكثرَ وأن أحملَ إليكِ صورةً تبلّغك عن حالي، فاليومَ وحيُ القلم يدفعُ فيَّ كلَّ حماسة، ويمدّني بذخائر الكلم والأفكار، ويهبني أن أكونَ واحداً من أبنائه الكثر؛ إلا أنّي لم أذق طعاماً منذ مساء الأمس، وها قد مضت السّاعات الثمانية عشر ومعدتي تنتحبُ وتصرخُ وتبكّتني قائلةً: ما أشدّ ظلمك يا حجّاج الطّعام، وما أبعدك عن أن تكونَ راعياً تحمل القطيعَ حيث المراعي الخصبة، وما كثرة إهمالك إلا دليلاً على بُعدك عن هذه الحياة الدنيا بكلّ ما فيها من شرٍّ وخير، من قبحٍ وجمال، من نقصٍ وكمال!
.
ومثلما وقفتُ بين الطّبيعة والمدنيّة حائراً في اختيار الصّراط الأقوم، أجدُ نفسي حائراً أيضاً بين القلم الذي لا يرغبُ أن يغادرَ الصّفحة إلا وقد أفضى بكلّ ما في جعبته، وبين الجوع الذي يناديني بأعلى الأصوات، ويحجبُ عنّي بضأضائه الكثيرِ كلَّ وحيٍ وجمال... فماذا تريني فاعلاً السّاعة؟! كلُّ ما في الوجود يبعثُ على الحيرة، فهل للإنسانِ وأطماعِه أن يتخلّى عن شيءٍ مقابلَ شيءٍ أسمى؟! وهل المدنيّة أسمى من الطّبيعة؟! لا وألف لا، فشتّان بين تلك الأعالي تحلّق فيها النّسور، وبين الحضيض تملأه الشياطين! وهل الطّعام أسمى من الكلمة؟! لا وألف لا، إلا اللهمَّ ما كان منه يسدّ الرمقَ ويدفع الجوعَ ويُبقي الحياةَ تسير بوقعها الرّتيب في نفسِ صاحبها! فالكلمة لغة الأرواح ولسان الفكر وحبرُ بناتِه، ومن دونها لا معنى للإنسان بإزاء إنسان آخر، ولا معنى له بإزاء هذا الكون الفسيح، ولا معنى له ولا لوجوده إذا ما عرفَ أنَّ له عقلاً وأنَّ له حواسّاً خمسة تبحثُ فيه قبلَ أن تبحثَ في أيِّ شيءٍ آخر.
.
لكنَّ العالمَ ومدنيّته البائسة وقد قلبت المفاهيم، وقضّت مضاجعَ الفكرِ، وحمّمت برمادها وثفلها كلَّ جمال؛ جعلتِ الطّعام والمالَ والجسدَ أسمى من الكلمة والرّوح، وهذا لعمري بدء المخاض! لستُ أقولُ مثلَ أصحاب المدينة الفاضلة والمثل التي تبقى في أطرها مثلاً بعيدة عن واقع الإنسان ومصائبه التي تسحُّ من غيومِ مدنيّته الثقيلة، لكنّي أسأله أن يرأفَ بروحِه وأن يردَّ الجميلَ إلى أمّه الطّبيعة التي غمرته وتغمره بكلّ عطفٍ وسخاء؛ ولا أجدُ منه إلا النكران فما أشدّ غيّك أيّها الإنسان، وما أبعدك عن ردّ المعروف يا إنسان اليوم، وما أحلك ظلمتك يا بشرَ المدنيّة الضالّة! ألعلّك تكره ما فيكَ وتجدُ أنَّ الصّورة التي وُهبتها بشعة إلى حدّ أردتَ فيه أن تنزعها عنك وترسم لك ولأرضِ وجودك صوراً أخرى من صنعِك ومن بنات أفكارِك؟! أم تُراكَ خرجتَ من هذا العالم مثلما خرجَ منه الشّيطانُ الأكبر؟ لكنَّ الفرقَ بينَك وبينه أنّك عبدُ الشّياطين وهو سيّدهم، أنّك خرجتَ منه بما تصنع وجسدُك عالقٌ فيه، وهو خارجٌ عنه بكلّ ما فيه... بروحِه وشرورِه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
.
هل لي أن أسألَك يا بشرَ اليوم عمّا تريد وأين تريد أن تبلغ؟! هل لكَ أن تبدي لي مأثرةً تبقيكَ إنساناً وُلد من الطّبيعة وهو منها وإليها يعود؟! أفي هذه المقابر التي تدفن فيها زبالة استهلاكك عديم النّفعِ؟! أم في تلك المصانع التي تُخرج منها ما يفتُك بالأرواح قبلَ الأجساد؟! أم في الصّناعة التي حشيتها من سموم الجحيم وأخرجتها طعاماً يُباعُ في الأسواق؟! أم في الرّذيلة تنشرُها في كلّ مقروءٍ ومسموع، أمام الصّغار قبلَ الكبار؟! لا يسع لساني وصفَ الحضيض القابع أنتَ فيه، ولا عدَّ قباحاتك، ولا حتّى الكلام بعدُ عنك وعن هذا التبدّل الطارئ في عالم الخير وعالم الشرّ، في عالم الحقّ والجمال وعالم العنت والقبح... هذه الصّورة تمثّلك يا إنسانَ المدنيّة المهترئة، أيّها السّاعي إلى حتفه بجدٍّ ونشاط، يا فاقد العقل والوجدان، يا معدوم الضّمير.
.
عزيزتي ديانا
.
يبدو أنّي أسكتُّ حتّى اللحظة صراخات بطني لكنّي لن أقوى على الصّمود أكثر من ذلك... أُعلمُكِ بأنّي الآنَ في لبنان أسرّح الطّرفَ بجمالِه وبشاعة تمزّقه، بلغتُه صباح الاثنين الماضي وكما تعلمين قد أبقى فيه لأشهرٍ لا أعلمُ كثرتها السّاعة! وأرجو أن أسمعَ عنكِ وعن أخبارِك التي قطعتِها وكأنَّ مسَّ المدنيّة بدأ يحومُ حول بيتك فيبعدك أكثر في تلك اللجّة سحيقة الغور وسودائه!
.
أبعثُ إليكِ هذا التعليق الذي جاءَ على مقالتك المُحكمة "أنا سوري... آه يا نيّالي"، وكلّي أمل أن تنشريه، وهذا يعودُ إليك ِقطعاً! وأنتِ تعلمين أنَّ واجبَ الكاتبِ هو في نشرِ الثّناء والمديح والنّقد والتجريح ليعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فأمّا القرار فلكِ.
.
لتبقى المحبّة عامرةً في قلبِك والصّفاءُ في فكرِكِ، ودمتِ لمُحبّك...