الخميس، يوليو 02، 2009

لقاء...

بلا تاريخ (حلب)
.
كنتُ قافلاً أعودُ من حفلةٍ دعاني إليها أحدُ الأصدقاء، ولذّة شرابها ما زالت تضربُ في رأسي، مثلما بقيتْ تضربُ فيها أنغامُ مغنٍّ شابٍّ، أعادني إلى أيّامِ الرّشيدِ ومغنّيه إبراهيم الموصلي، وشتّان ما بيني والرّشيد وما بين الموصلي وذاك الفتى الحلبيّ الذي راحَ طوال المساء يضرب العودَ بأنامله ويصدحُ ويقول:
بـروحي فــتـاةٌ بالـعفافِ تجمّلتْ ..... وفي خَدِّها حبٌّ من المِسكِ قَدْ نَبَتْ
وقَد ضاعَ عقلي وقد ضاعَ رُشدي ..... ولمـّا طلبـتُ الوصلَ منها تمنّعـتْ
فقالـتْ: أمـا تَخشى وأنتَ إمامُ ..... أتزعمُ أنَّ الرّيقَ مـدامٌ والمدامُ حرامُ؟
فكنّا نتمايلُ حاملينَ كؤوسَنا، هاتفينَ معه: أعدْها علينا أعادك اللهُ إلى منزلِك سالماً غانماً... وآخرُ يصيحُ: لا باركَ اللهُ في شرعٍ حرّمَ المدامَ... من لم يذق طعمَ الرّيقِ ما ذاقَ، واللهِ، شيئا... وقسْ على مثل تلك الأقوال! وما إن بدتْ على القوم دلائلُ السّكرِ في تمايلاتهم كالرّيح تعبثُ بالغصون الطريئة، وفي أقوالِهم وقد ضربت الخمرةُ البيضاءُ منهم ما ضربت؛ حتّى نهضتُ وسلّمتُ على صاحب الدّعوة وغادرتُ المكان لا ألوي على شيءٍ.
.
هكذا تركتُ الحفلَ وجمعَ الغناء والمدامَ كما تركتُ الفتاةَ المجمّلةَ بالعفاف وإمامَها سكرانَ الهوى، واخترتُ طريقي في زقاقٍ قديمٍ من أزقّة حيّ "الجديدة" لا شيء فيه إلا الظلمة والسّكون. مددتُ يدي إلى جيبي وأعدتُها محمّلةً بهاتفي الصّغير واخترتُ اسماً ثمَّ ضربتُ الاتّصالَ وانتظرتُ... ألو، مساءُ الخير... كيفَ حالُك؟... أينَ أنتَ؟... أنا في "الجْدَيدِه"، ما رأيُك لو نلتقي بالقربِ من "مستشفى سلّوم"؟... اتّفقنا إذاً! وأنهيتُ الاتّصال.
.
ورحتُ منذ تلك اللحظة أرسمُ في مخيّلتي صوراً لصاحبٍ عرفتُه دون لقاء! وكيفَ تجمعنُا الأيّامُ بأناسٍ لقاؤهم يتركُ أثراً في النّفسِ لا يُمّحى. كنتُ قد تجادلتُ معهُ يوماً حولَ إحدى مقطوعاتِه الشعريّة الفلسفيّة على صفحات منتدىً شبابيّ إلكترونيّ، ومنذ ذلك الحين بتنا نقتربُ خطوةً تلو الخطوة ونلتقي في أفكارٍ تبادلناها تدرسُ هذا الكون الواسع والإنسان الذي يُفسدُ فيه والمظالمَ والقيودَ وكلَّ ما خطرَ لنا على بال. ثمَّ تزاملنا وأدركنا الكثيرَ، كلٌّ عن الآخر، وقد لا يكونُ هذا الكثير في عيني إلا القليل في عينِه... من يدري! كنتُ أمشي مقترباً من مكانِ الموعد ورأسي تلتفتُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال تُحدّق في القلائل الذين ما زالوا ساهرين يقطعونَ الشّوارعَ، فهذا عائدٌ من لقاءٍ غراميٍّ، وذاكَ قافلٌ إلى بيتِه بعدَما أضناه السّهر، وهناكَ رجلٌ وامرأته يمارسان المشيَ بعيداً عن ضأضاء الأولاد وهمومهم الكثيرة، وهنالك من كانَ مثلي يبحثُ عن لقاء. ورحتُ أحدّق بكلِّ بشرٍ أسائلُ النّفسَ في من عساه يكونُ الصّاحب!
.
قلتُ: دعني أسيرُ على الرّصيفِ المُقابل لئلا يُدركني قبلَ أن أعرفَه، وما إن أصبحتُ في مواجهةِ بابِ المشفى وإذ بشابٍّ طويلٍ أشقر بعينين تبرقانِ يبحثُ عن شيءٍ – كمن أضاعَ شيئاً - في وجوه البشرِ من حولِه! كانَ يجتازُ الشّارعَ نحوَ الرّصيف الذي شغلتُه متطلّعاً إليَّ فالتقت النظراتُ وتساءلت العيونُ، عبرتُ خطوتين متعمّداً السّيرَ، باحثاً فيهِ عنهُ، مداوماً على التحديق في تلك العينين اليقظتين، متفرّساً في هيئته؛ حتّى وقفتُ فأقبلَ وقلتُ: نوّار؟! فانفردَت شفتيه عن ابتسامةٍ عريضةٍ تعجُّ بها الحياةُ بشتّى الألوانِ ومعه ابتسمَ المكانُ، ثمَّ مدَّ يده مُصافحاً فتصافحنا تلتها قبلُ المودّة. وبينما راحت العينُ تصافحه مرحّبةً تحوّلت الأخرى إلى يسراه ترقبُها وترقبُ الأشياءَ التي حملتها بكفٍّ لا مراءَ فيها وكانت علبة دخانٍ من نوع الـ"لوكي سترايك" وولاعةً وكتاباً عرفتُ لاحقاً أنّه من يدِ الفيلسوف الألمانيّ الشّهير فريدريك نيتشه، هذا الكتاب الذي أزهقَ جبرانُ اللبنانيُّ في قراءته والتأمّل فيه شطرَ حياته الأكبر، وكانَ من ذلك أن أخرجَ مثلَه في قالبٍ يُشبهه إلى حدٍّ بعيدٍ وسمّاه "النبيّ" مثلما سمّى نيتشه كتابَه "هكذا تكلّم زرادَشْت"! أوَ لم يكن باعثُ الرمزيّة في الأدب العربيّ على حقٍّ في مثل هذا التقليد الشّكليّ؟! أوَ ليسَ لكلٍّ منّا نبيٌّ يرى الحياةَ والموتَ في صورٍ وأشكالٍ تختلفُ عن الآخر؟! ومن ثمَّ ألسنا ننظرُ إلى الوقائع والأحداث والإنسان والحيوان والطّبيعة والمدنيّة والشّرائع والأديان نظرةً تتفاوت بين الخيرِ والشرِّ، بين النّقص والكمال؟!
.
قلتُ لنوّار: خذ بنا حيثُ نجلس بسكينةٍ بعيداً عن صخبِ الشّهباء التي لا تعرفُ من الحياة إلا قشورَها ومدنيّتها البائسة المنحصرة في الاسمنت والمعدن! وفي مقهىً قريبٍ ساكنٍ جلسنا حول طاولةٍ منعزلة تُحدّث بعزلتنا قبلَ اللقاء. اختارَ صاحبي القهوةَ التركيّة واخترتُ الغربيّة، ثمَّ قدّم لي من لفافات تبغه فأحرقناها الواحدة تلوَ الأخرى، والأحاديثُ تطولُ وتأبى أن تنتهي، حتّى أتينا على العلبة الأولى. ورأيتُه يُخرجُ من جيبِه علبةً أخرى محليّة الصّنع من نوع "الحمراء" الطّويلة وهكذا لم نشعر بمضيّ الوقت، وعدّتنا نفدت، ولم ننهِ إلا القليل القليل ممّا أردنا الكلامَ فيه حول الأصدقاء والإنسان والدّين والماضي والحاضر والمستقبل، ثمَّ المطامح والمخيّلات، وكيفَ لصديقين يلتقيا أوّلَ مرّةٍ أن يذكرانَ مثل تلك المسائل في ساعات من الزّمن؟! غبتُ قليلاً لقضاءِ حاجةٍ وعندما عُدتُ وجدتُه قد دفعَ الحسابَ فشكرتُه. وهكذا نهضنا وعُدنا من حيث أتينا، وهمَّ في المغادرة فسألتُه: ما رأيك لو اغتنمناها فرصةً فالتقينا أبا طوني؟ فوافقَ باشّاً! وهكذا تركنا الأقدامَ تسيرُ بنا في طريقٍ جديدٍ بعيد، ورحنا نعبرُ الشّوارعَ والأزقّة، ومن حارةٍ إلى أخرى حتّى بلغنا المكانَ، فبادرتُه: نوّار، أنا لا أعرفُ المنزلَ، ومن الأفضل أن أتّصلَ به! نظرتُ الهاتفَ فإذا السّاعةُ هي الثّانية من صباحِ يومٍ جديد، اتّصلتُ فرنَّ هاتفُه وكنتُ أسمعُ التونَ مخيفةً تبدّدُ سكونَ الليلِ ووحشته...
- ألو، صباحُ الخير
- صباحُ النّور
- هل أنتَ في البيت؟
- نعم، ومن أنت؟
- اخرج وستعرف، أنتظرُك في الشّارع
- لن أخرجَ إن لم تخبرني من المتكلّم
- حسناً... أنا نوّار (قلتُها كاذباً).
- لحظة واحدة وأكون عندَك (صاحَ على الفور).
.
حينَ رأيتُه قادماً كنتُ واقفاً أتطلّعُ إلى السّماء وفي يدي سيجارةٌ تحترق، بينما انزوى نوّار في مقهى للإنترنت وفتحَ بريده وراحَ يُحادثُ أصدقاءَه، ناديتُه: نوّار تعالَ فقد جاءَ! أقبلَ من بعيد ضاحكاً متكلّماً مسلّماً بحيويّة الشبّان وحماستهم. كانَ شابّاً في مُقتبل العمر، يبدو عليه الجوعُ إلى الحياة، والعطش إلى عيشِها بكلّ ما فيها من فرحٍ وحزنٍ، من فشلٍ ونجاح، من يأسٍ ورجاء! هادا أنت؟! قالها بدهشة، ثمَّ تابعَ: واللهِ لم أميّز صوتَك، واعتقدتُ بأنّك نوّار مصدِّقاً كلامَك... يا لكَ من ماكر!
.
كانَ الكلامُ أكثرَ بكثيرٍ من أن يسعه وقتٌ محصورٌ بين غروبِ شمسٍ وشروقِ شمسٍ جديدة، ولهذا وبعدَ زمنٍ قصيرٍ امتلأ بحديثِ الصّديقين، اعتذرَ الصّاحبُ وفارقنا بعدَ أن وعدنا بلقاءٍ آخر في وقتٍ أفضل! وهكذا بقيتُ وحدي مع هذا الجبرائيل رسول الإله "سعدو" الشّهير، ومن مثل جبرائيل الملاك لقادر على إبلاغ البشر شرائع "سعدو" المعظّم وحكمه المكتوبة منذ أزل الآزال على لوحٍ محفوظٍ في قلبِ قلبِ قصرِ الدّهور؟! ولم نلبث أن سِرنا في طريقٍ طويلٍ هدَّ رجليَّ بعدَ مسيرٍ ووقوفٍ طوال النّهار، حتّى أوقفنا العيسَ وضربنا الخيامَ في زاويةٍ من إحدى الحارات الواسعة، وطابَ لنا أن نكثر من القيل والقال عن الأخويّة مجمع الشّبيبة، ومحفل الفكرِ والتسلية... وشيئاً فشيئاً كانَ سوسُ النّورِ ينخرُ في رداءِ الليلِ حتى أحالَ النسيجَ شبكةً ما لبثت أن صارت رقعاً وخيوط الفجرِ تأتي على ما تبقّى منه... وصاحتِ العصافيرُ وأعلنَ اليمامُ بدءَ يومٍ جديد، والشّمسُ ترتقي جبال العتمات التي لفّت مدينة حلب وتطردُ منها النّومَ والرّقادَ وتحيلها إلى قفيرِ نحلٍ لا تملُّ عذراواته من العملِ، ولا تكلُّ من البحث عن الرّحيق وصنع العسل.ودّعتُ الصّديقَ أبا طوني وذهبتُ إلى نزلي وبعدَ بضع ساعات لملمتُ المضاربَ وهمزتُ الخيلَ معلناً رحلةً جديدة في أرضٍ صديقة.