الجمعة، نوفمبر 11، 2011

هكذا خُلقَ الإنسانُ ذكرًا وأنثى في التقاليد الإبراهيميّة الثلاثة


هذا المقال مُهدى إلى الصديقة إيمان عادل

"لِنصنع الإنسانَ على صورتِنا كمثالِنا... فخلقَ اللهُ الإنسانَ على صورتِه، ذكرًا وأنثى خلقهم" (تكوين 1: 26-27). بهذه الكلمات تنقل إلينا التوراة اليهوديّة في فصلِها الأوّل قصّة خلق الإنسان في اليوم السّادس والأخير من أيّام الخلقِ قبل أن يستريح اللهُ الخالق في السّابع منها. وبحسب التقليد اليهوديّ فإنّ التوراة دُوّنت موحاةً من الله على عهدِ النبيّ موسى، بيدَ أنّ الدارسين يُجمعون على تدوينها في عصر الملكيّة اليهوديّة الأوّل. ولم تحمل التوراةُ في طيّاتها تقليدًا واحدًا، هذا ما دفعَ المتأخّرين إلى دمجِ التقاليد في سفرٍ واحد تضاربتْ فيه الرّوايات أحيانًا وتكرّرت أحيانًا أخرى. بالعودة إلى رواية الخلق، تفصّل التوراة خلقَ الإنسان في الفصلِ الثّاني بصورةٍ ماديّةٍ عمليّة: "وجبلَ الربُّ الإله الإنسانَ ترابًا من الأرض، ونفخَ في أنفه نسمة حياة، فصارَ الإنسانُ نفسًا حيّةً" (تكوين 2: 7). إنّ الإنسان في عرف التوراة العبريّ يُدعى "آدم" عامّةً، قبلَ أن يقتصر هذا الاسم على الذّكر دون الأنثى. فآدمُ لم يكن اسمَ علمٍ كما هو اليوم بل اسمًا يحمله الإنسانُ يميّزه في إنسانيّته عن بقيّة الخلائق. فأمّا جعلُه اسمًا مخصَّصًا فكانَ في الرّواية الثّانية التي تخبّر عن الجبلة الترابيّة التي صُنعَ منها آدم قبلَ خلق أنثاه من جسدِه وضلعٍ من أضلاعه. إذ لم يقنع اللهُ الخالق ببقاء آدم - الإنسان وحيدًا بينما تجدُ كلُّ خليقةٍ أخرى شريكَها المقابل، فأوقعَ على آدم سباتًا عميقًا وأخذَ إحدى أضلاعِهِ وبرا منها المرأةَ وجاءَ بها الإنسانَ الذي دعاها امرأةً لأنّها من امرئٍ أُخذتْ (تكوين 2: 21-23). وتختمُ التوراة هذا الفصل بالتأكيد على هذه الوحدة الجسديّة، تقول: "ولذلك يترك الرّجلُ أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهمًا جسدًا واحدًا" (تكوين 2: 24)! وهي الآية عينها التي ردّدها المسيح في معرض حديثه عن الطّلاق، مرسّخًا الوحدة بينهما في إضافته: "فلا يكونان اثنين بعد ذلك، بل جسدًا واحدًا" (متى 19: 5-6). وبدورِه يقرّ بولس الرّسول بالمساواة التامّة بين الرّجل والمرأة كما وردت في رواية خلقِ الإنسان الأولى ذكرًا وأنثى، فيقول: "... وليس هناك ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (غلاطية 3: 28).

يحمل إلينا التقليد الإسلاميّ رواية خلق الإنسان في مواضع مختلفة من القرآن، فقد خلقه اللهُ ثُمَّ صوَّرهُ (الأعراف 11)، خلقه مِن قبلُ ولم يكُ شيئًا (مريم 67)، مِن ذَكَرٍ وأنثى (الحجرات 13)، مِن نفسٍ واحدةٍ خلقَ منها زوجَها (النساء 1، الأنعام 98، الأعراف 189، الزمر 6)، مِن عَجَلٍ (الأنبياء 37)، هَلوعًا (المعارج 19)، في كَبَدٍ (البلد 4)، في أحسن تقويمٍ (التين 4). كما يفصّل لنا القرآن المادّة التي منها صُنعَ الإنسانُ، إذ خُلِقَ من ترابٍ (آل عمران 59)، ومن طينٍ (آل عمران 12)، ومن صلصالٍ مِن حمإٍ مسنونٍ (الحجر 26، الرحمن 14) والصّلصالُ هو الطينُ اليابسُ لم تصبْه نارٌ، فإذا نقرته صلَّ فسُمعت له صَلصَلة، فأمّا الحمأ فجمعُ حمأة وهو الطينُ المتغيّر إلى السّوادِ، ووصف بالمسنونِ أي ما سُنَّ عليه أي مثاله الذي وضع عليهِ. كما أنّ الإنسانَ خُلقَ أيضًا مِن عَلَقٍ (العلق 2)، ومِن نُطفةٍ (النحل 4، يس 77)، ومن نطفةٍ أمشاجٍ (الإنسان 2)، والنُّطفةُ ماءُ الرّجلِ وماءُ المرأة، وهي كلُّ ماءٍ قليلٍ في وعاء، فأمّا الأمشاجُ فهي الأخلاطُ. وقُد خُلِقَ أيضًا من ماءٍ دافقٍ يخرج بين الصُّلبِ والترائبِ (الطارق 6-7)، أي من صُلبِ الرّجلِ وترائبِ المرأةِ ويعني بالترائب ما بين ثدييها. ولعلّ أشهرَ ما جاءَ في القرآن عن رواية خلق الإنسان وأكثره تفصيلًا، ما وقع في سورة "المؤمنون": "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14)". وفي سورة السّجدة: "الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)". من الملاحظ أنَّ القرآن أيضًا يذكر على غرار التوراة روايتين إحداهما تذكر الخلق إنسانًا ذكرًا وأنثى، من نطفةٍ وهي ماءُ الرّجلِ والمرأة، والأخرى تفصّل مادّة الخلق الطينيّة الترابيّة وتُسبّق الرّجل على زوجِه.

يعتقدُ آباءُ الكنائس الشرقيّة أنّ المادّة التي صُنِعَ منها الإنسان وهي التّراب الحقير كانت السّببَ الرئيس في سقوطِه في الخطيئة وفقدان حالة النعمة في الفردوس. فبحسب نرساي إنّ الإنسان خُلِقَ ضعيفًا ناقصًا بسبب مادّته الطينيّة، وهي التي سبَّبتْ له الشّقاء والعملَ والتّعبَ من أجلِ العيش. بيدَ أنّنا نجد في القرآن المادّة عينها تكونُ سببًا في حسد إبليس واعتراضه تفضيلَ الإنسان الترابيّ على جنسِه الناريّ، ممّا دعاه إلى التمرّد والعصيان، فالسّقوط والطرد من الجنّة بعد أن كانَ فيها وليًّا من أولياء الجان (تتضارب الروايات حول جنس إبليس!): "ولقد خلقناكم ثُمَّ صوّرناكم ثُمَّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلا إبليسَ لم يكن من السّاجدين. قالَ: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال: أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين" (الأعراف 11 - 12). وعلى عكسِ التقليد الكنسيّ الشرقيّ الذي يذمّ المادّة الطينيّة الضعيفة التي خُلق منها الإنسان، يلجأ بعضُ الـمُفسّرين المسلمين كالطبريّ والقرطبيّ وابن كثير إلى تبرير طلبِ الله إلى إبليس وهو من نار أن يسجد للإنسان وهو من طين حقير، فيفضّلوا هذا على تلك، إذ أنّ الطّينَ أنفع وخيرٌ من النار، ففيه الرّزانة والحلم والأناة والنموّ والحياء والتثبّت، ممّا جعلَ آدمَ يتوب بعد الخطيئة، والنار فيها الطّيشُ والخفّة والاضطراب والسرعة والإحراق، وهو ما أورثَ إبليس الاستكبار. كما يذكر الثعلبيّ أنّ الطّين الذي خُلقَ منه الإنسان صُنعَ من ترابٍ مأخوذٍ من زوايا الأرضِ الأربع، من تربةٍ بيضاء وحمراء وسوداء، وهو السّبب في اختلاف أبناء آدم لونًا وشكلًا.

تذكر التوراة خلقَ المرأة من خلال قصّة سباتٍ أوقع اللهُ آدمَ فيه، واستلَّ من أضلاعِه واحدةً ملأ مكانها لحمًا، ومنها كوّن المرأة التي قُدِّمتْ إلى آدم – الإنسان (تكوين 2: 21-22). رواية الخلق التوراتيّة الأولى لا تُحدّد جنسَ الإنسان الأوّل بدايةً، وهو ما يؤكّده الاسم "آدم" الذي أُطلق عليه لتمييزه عن سائر المخلوقات الحيوانيّة التي خُلِقَت قبلَه في اليوم الخامس (تكوين 1: 24-25) ، أي أنّ اسمَه "آدم" كان اسمَ جنسٍ لا اسمَ علم. بيدَ أنّ الرّواية الثّانية تُسبّق خلق الإنسان على بقيّة الحيوانات والطيور التي خُلِقَت من الأرض (التراب) عينِها التي خُلِقَ منها آدم (تكوين 2: 19). واسمُه "آدم" مشتقٌّ من المادّة التي صُنِعَ منها أي أديم الأرض، فأمّا المرأة فإنّها دُعيَتْ كذلك لأنّها من امرئٍ أُخِذتْ، وسُمّيَتْ "حوّاء" لأنّها أمّ كلِّ حيّ (تكوين 3: 20)، بيدَ أنّ التقليد الإسلاميّ ينسبُ اسمها "حوّاء" إلى أنّها خُلِقَتْ من شيءٍ حيّ. وفي كلا الحالين تمتازُ حوّاء بالمادّة الحيّة التي صُنِعَتْ منها كما تمتاز بأمومتها للحياة.

لا يذكر القرآنُ شيئًا عن قصّة خلق المرأة كما وردتْ في التوراة، ولسدّ هذا النّقص يلجأ علماءُ المسلمين في التفسيرِ وقصص الأنبياء إلى الاستعانةِ بما سبقَ من كتبٍ وتقاليد وحديثٍ منسوبٍ إلى النبيّ محمّد، فيذكر البعضُ أنّها خُلِقَتْ من ضلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم، وهو يوافق ما جاءَ في الصحيحين عن النبيّ قوله: "استوصوا بالنّساء خيرًا، فإنّ المرأة خُلقتْ مِن ضلعٍ، وإنّ أعوج شيءٍ في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيرًا". ويسمّي الكسائيُّ هذه الضّلع "القصيرى" وهي ضلع عوجاء تلي السراسيف من الجنبِ الأيسر. كما يفاضل الثعلبيّ بين المادّتين اللتين خُلِقَ منهما الرّجلُ والمرأة، فيفضّل مادّة الرّجل الطّين، على مادّة المرأة اللحم، فالرّجلُ يزدادُ على مرِّ الأيّام والأعوام حسنًا وجمالًا لأنّه خُلِقَ من تراب والطّينُ يزداد مع الزّمنِ حدّةً وجمالًا، والمرأةُ تزدادُ على مرِّ الأيّام قبحًا، لأنّها خُلقتْ من اللحم، وهذا يفسدُ بمرور الزّمن.

قبلَ الختام ننقل قصّةً طريفة حدثت مع القدّيس أفرام السريانيّ مفادها أنّه جازَ ذات يوم ببعضِ النسوة يستقين عندَ النّهر، نظرَ فأبصرَ بينهنّ امرأةً تُمعن التحديق فيه، فغضبَ وقالَ لها: يا قليلة الحياء أخفضي نظرَك عنّي، فأجابته المرأة: أنتَ من يجبُ أن يخفضَ النظرَ إلى الأرضِ لأنّك منها خُلِقتَ، وأنا أرفعُ النظرَ إليك لأنّي منك خُلِقتُ.

تمتازُ الرّوايتان في كلٍّ من التوراة والقرآن ببعدين اثنين: أوّلهما يكمن في الرواية الأولى التي خُلِقَ فيها الإنسان منذ البدء ذكرًا وأنثى دون تفصيلٍ أو تفضيل، وهو ما يردُ عندَ المسيح يسوع ورسولِه بولس في الإشارة إلى هذه الوحدة الجسديّة في ثنائيّة الجنس. وثانيهما يقع في الرّواية الثانية التي تسهب في تفصيل عمليّة خلق الرّجل والمرأة والمادّة الأصل التي اُستعملتْ فيها. وفي هذه الرواية نجدُ الترابَ – الأرضَ (جامد) مصدرَ الرّجلِ، والرّجلَ – اللحم (حيّ) مصدرَ المرأة. إذا كانَ العلماء المسلمون استعانوا بالتوراة في الإشارة إلى خلق المرأة، فإنّهم أضفوا الضّعف والقصر والاعوجاج على "الضّلع" التي استلّت من آدم ومنها كُوّنت المرأة. وفي رأيي تعود هذه الإضافة إلى العقليّة الاجتماعيّة – الدينيّة السّائدة في ذلك الوقت. وإلا فما معنى تفضيل الترابِ الحقير مادّة الرّجل على اللحم الحيّ مادّة المرأة؟! فهل يُعقل تفضيل الجمادِ على الحياة؟! إنّ المرأة التي خُلِقَت من مادّةٍ حيّة فيها روح الله، وحملت اسمًا يدلّ على مادّتها الحيّة وعلى أمومتها للحياة في الوقت عينه، هي مِن بين كلا الجنسين مَن يحمل الحياةَ في حشاها تغذّيها وتسقيها وتنفخُ فيها نسائمها لتلدها للوجود فيستمرّ بفضلها بقاءُ الجنس البشريّ، وهذا لَعمري كان فعل الخالق منذ البدء، وبه تفوق المرأةُ الرّجلَ وتكون يدَ الخالق الفاعلة الحيّة في جنس الإنسان، ودليلًا حيًّا على عمليّة الخلق الدّائمة.

الأحد، أكتوبر 23، 2011

خريطة دولة إسرائيل!

احتفلت الدّولةُ الإيطاليّة هذا العام بذكرى مرور مئة وخمسين عامًا على وحدتها بعدَ أن كانت عدّة دويلات متفرّقة متنازعة، فأقيمت المهرجانات والألعاب الرياضيّة والمؤتمرات والفعاليات الثقافيّة والفنيّة، وأضحت عاصمتها روما شعلة هذه الاحتفالات. وضمن إطار هذه الذّكرى قامت المنظّمة الوطنيّة العبريّة للبيئة بتقديم شجرة زيتون معمّرة إلى الدّولة الإيطاليّة عربونًا للعلاقة الوديّة التي تجمعهما، وهذا ليسَ غريبًا البتّة، إنّما الغريبُ الـمُستنكَر ما جاء في اللوحة الرخاميّة التي نُقشت عليها كلمات الإهداء:


النصّ بالإيطاليّة:
Ulivo Centenario,
simbolo di pace e fratellanza,
dono dello Stato d’Israele e del KKL
Keren Kayemeth LeIsrael
-Fondo Nazionale Ebraico per l’Ambiente-
all’Italia e alla città di Roma Capitale,
in occasione dei 150 anni dell’unità d’Italia.

وبالعربيّة:
شجرة زيتون مئويّة (عمرها مئة عام)،
رمزُ سلامٍ وأخوّة،
هديّة دولة إسرائيل وك ك ل.
قيرين قايميث لِـيـِسرايل
-المنظّمة الوطنيّة العبريّة للبيئة-
إلى إيطاليا وإلى مدينة روما العاصمة،
بمناسبة مرور مئة وخمسين عامًا على وحدة إيطاليا.

بالتأكيد لاحظ معنا القارئ أنَّ النصَّ جميل يعبّر عن رابط الصّداقة الذي يشدّ إيطاليا بإسرائيل، كما لاحظ معنا حتمًا خريطة إيطاليا إلى يمين النصّ وخريطة إسرائيل إلى يساره، وهي بيتُ القصيد!

جاءت خريطة إسرائيل بحسب هذه المنظّمة لتشمل جميع أراضي الدولة الفلسطينيّة بما فيها الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة! وهذا يعني أنَّ المنظّمة عينها لا تعترف ولا حتّى بشبرٍ واحد لفلسطين والفلسطينيّين. وعدم الاعتراف هذا يسري حتمًا على الدولة الإيطاليّة التي قبلت تلك الهديّة فأوعزت إلى بلديّة روما لنصبها متألّقة أمام أعين السيّاح في فيا (شارع) دي فوري إيمبيريالي الذي يربط ساحة فينيتسيا (صرح الجنديّ المجهول) بالكولوسّيوم أشهر آثار المدينة.

وأمام هذا المشهد يرتسمُ في الأذهان سؤالٌ: تُرى هل ينجح مشروع الدولة الفلسطينيّة في هيئة الأمم المتّحدة؟!

الاثنين، أغسطس 01، 2011

سيريانيوز واللغة العربيّة!


كلَّ يومٍ، وفي كلّ خبر أو مقال، يستبيح موقع سيريانيوز الإخباريّ، والكثير من المواقع غيره، اللغةَ العربيّة، فينتهك عرضَها انتهاكًا مخزيًا يدلّ إلى حال الثقافة العربيّة المريض الذي وصلنا إليه! كنتُ أقرأ يومًا في صفحة المنوّعات، فوقع نظري على مقالٍ يتناول المشاهير في صورٍ يفضح نظراتهم المختلسة إلى النّساء. ولكثرة ما انتهكَ الكاتبُ لغتَه العربيّة نسيتُ المقال ومضمون المقال، ورحتُ أضربُ كفًّا بكفّ أسفًا على هذه الحال.

عنوان المقال "بالصور.. فضائح "بصبصة" المشاهير للفتيات السياسيين و الرياضيين أكثرهم مغازلة من رونالدو إلى أوباما"! يا لجزالة الكاتب ويا لفصاحة قلمه! "المكتوب مْبَيّن من عنوانو" كما يقولُ المثلُ المصريّ. إنَّ لفظة "بَصْبَصَة" بمعنى اختلاسِ النّظرِ عاميّةٌ، وفي الفصحى تعني التحريك والتلويح بشيء، فيُقال: بصبصَ الكلبُ إذا حرّكَ الذّنبَ، وبصبص بالسّيف إذا لوّحَ بهِ. وقد تأتي أيضًا بمعنى الفتح والإضاءة، فيُقال: بصبص الجروُ فتحَ عينيه... إلخ. نغضُّ الطّرفَ عن استخدام العاميّة لحسناتها، لكن، كم كنتُ أودُّ لو أتعبَ الكاتبُ نفسَه فعامل الفعل "بصبص" معاملة الفعل "نظر" فعدّاه تعديته إمّا مباشرةً أو باستخدام حرف الجرّ "إلى"، وقال: "بصبصة إلى" لا "بصبصة لـ" فالعربُ تقول: نظره ونظرَ إليه. ثُمَّ من أيّة حذاقة استلهم الكاتبُ لفظة "فتيات"؟! ألعلّه يضعُ على عينيه نظّارة الشّباب الدائم فرأى تلك النّساء في الصّور فتياتٍ؟! لا حولَ ولا حيلة إلا باللهِ العليّ العظيم! نترك العنوانَ لكثرة شرورِه وننتقل بكم أعزّائي القرّاء إلى حلبة المقال حيثُ نشهد بالأدلّة والبراهين تعرّض العربيّة للكماتٍ لا عدَّ لها ولا حصر ما شاء الله.

يقول الكاتبُ النحرير "سخرت الصحف الإسبانية من... كريستيانو ورنالدو لتمعّنه النظر (بصبصة) لمشجعة أمريكية شقراء، ليعيد إلى الواجهة... ". هل أنتَ أعجميٌّ يا عزيزي الكاتب؟! كيفَ استطعتَ أن تجمعَ في سطرٍ ونصف السّطر ثلاث لامات، الواحدة تفسّر الأخرى؟! بارك اللهُ فيكَ وفي همّتك ووفرة استعمالاتك! نقبلُ، مجازًا وتعاطفًا وتسويةً، بإحلال فعل "تمعّن" مكان الفعل "أمعنَ"، لكن بأيّة حيلة سنجيز لكَ تعدية الفعل باللام؟! هاتِ يا عزيزي الوسيلةَ التي تريد ونحن "شبّيك لبّيك"، نحنُ بين يديك! اسأل الكوفيّين والبصريّين، لا بل اسأل المتنبّي واحصل لنا من شواردِ كلماته عمّا يبيح لك هذه الجريمة! غفرنا لك استخدامًا جديدًا، وعفونا عن لامات ثلاث ركيكة لا محلَّ لها ولا مكانَ لا في اللغة ولا في السياق، ولا في الإعرابِ إن أردت، لكن أن ندعك تقول "تمعّنَ النّظرَ لَهُ" بدلًا من "إليه" فلا، واللهِ وباللهِ وتاللهِ لا!

يُكملُ المحرّرُ الزمخشريُّ في موضعٍ آخر، فيقول: "قبل لقاء الفريق الودي أمام نادي لوس أنجلوس... ". إنّ "لقاء" مصدر الفعل "لقي" وهو فعلٌ يتعدّى إلى مفعوله مباشرةً دون أيّ وسيط. وجملتُك يا عزيزي المحرّر تعني أنّ فريقَ رونالدو لقيَ فريقًا (لم يُذكر) أمام نادي لوس أنجلوس، أي أنّ هذا النادي حضرَ لقاءً جمعَ فريقين: أحدهما فريق رونالدو! أين المفعول بهِ؟! لو أردتَه "نادي لوس أنجلوس" لقلت: "قبلَ لقاء الفريق الودّي ناديَ لوس أنجلوس" فتنصب "نادي" على أنّه مفعول المصدر "لقاء"، أو: "قبل اللقاء الودّي الذي جمعَ فريقَه بنادي لوس أنجلوس"...

نقتبسُ مثالًا أخيرًا، لتجنّب الإطالة والملل، جملةً اشتهرَ بكتابتها فصحاء العربيّة وبلاغتها، وهي لا تمتُّ إلى العربيّة بصلة! يقول الكاتب: "فيبدو أنّ هذا الأمر معتاد عليه"! ياه... ليتَ مجامع اللغة العربيّة من المحيط إلى الخليج تستعيرُ نحتك وفنّك وتجديدك لغتنا، فتضيف استخداماتك إلى كتبِ النّحو والمعاجم، فتثرى بك اللغةُ ونشعر بأنّها، قولًا وفعلًا، أضحت لغةً عصريّةً لا عيبَ فيها ولا غضن! لا يحتاجُ الفعل "اعتادَ"، يا عزيزي، إلى حرفِ تعديةٍ، فلا يُقال "اعتادَ على الأمر" بل "اعتادَ الأمرَ" أي وظبَ عليه. ألم يكن أيسر قولك: "فيبدو أنّ هذا الأمر عادة"؟! لا يسعنا، لكثرة الهفوات طولًا وعرضًا، أن نعرضَها جميعًا. نكتفي بالشذرات منها!


ونختمُ بطرفة، من باب المزاح، قرأناها في إعلانات سيريانيوز:
"IPAD one 16 GigaByte with WIFI مُستعمل لمدّة شهر بالكرتونة"!!
فتأمّل يا رعاكَ الله!
***

الخميس، يوليو 21، 2011

قراءة في رواية "القوقعة"


حكمتْ "نكتةٌ" بحقِّ الزَّعيم على رجلٍ بريءٍ بالسّجنِ أكثر من ثلاثة عشر عامًا! حكمت عليهِ بالعذابِ والموتِ طوالَ تلك المدّة، لا بل أبعدَ منها وأعمقَ بكثير!

تبدأ قصّةُ المتلصِّصُ (بطل الرّواية) في مطارِ أورلي-باريسَ في العشرين من نيسانَ، ثُمَّ تمتدُّ على جسدِ ونفسِ إنسانٍ معذّبٍ مرذولٍ مهانٍ منتهكٍ بشتّى أساليب الانتهاك الجسديّ والنفسيّ طوالَ ثلاثة عشر عامًا وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا، مرورًا بلحظةٍ خاطفةٍ من حريّةٍ جسديّة على رصيفٍ مبلّلٍ بدموع السّماء أمام باب أحد الفروع الأمنيّة في العاصمة الدمشقيّة، دون أن تنتهيَ في تاريخٍ معيّن! فتوغّلُ القمعِ الوحشيِّ طبعَ هذا المتلصِّصَ بآثار تبرزُ في كلِّ لحظةٍ ممّا تبقّى من لحظاتِ حياتِه، وتأوّن إطارَ السّجن بكلّ ما فيه من شراسةٍ وبربريّة.

كتابٌ في مأساة يرويها لنا الكاتبُ تبيّنَ لنا بطشَ الأجهزة الأمنيّة إبّان حكمِ الرّئيسِ الرّاحلِ حافظ الأسد، وخاصّةً في أثناء أحداث الأخوان المسلمين وما بعدها في العقد التّاسعِ من القرنِ العشرين.

إنَّ التفاصيلَ التي يستعرضها الكاتبُ بكلِّ دقّةٍ لا تفسّرُ أيًّا من الأسبابِ التي دفعت العناصرَ الأمنيّة والعسكريّة إلى معاملة المتّهمين والمحكومين بأفظع وسائل التعذيب وأرهب أشكال الذلّ، وبصورٍ استقاها الكاتبُ من واقعٍ حدثَ ليست توجدُ في عالمِ الحيوان. يصفُ على سبيلِ المثال، وبتفصيلٍ مأساويّ مليءٍ بالرّعب، يومَه الأوّل في السّجنِ الصحراويِّ حيثُ يصلُ بدفعةٍ من واحدٍ وتسعين سجينًا، قُتلَ منهم ثلاثةٌ في ساحةِ التعذيب فورَ الوصول، وماتَ عشرة منهم لاحقًا متأثّرين بالجروح والإصابات البليغةِ جرّاء المعاملة الوحشيّة، اثنان منهم أصيبا بالشّلل، وواحدٌ بالعمى.

ما يلفتُ انتباه القارئ ضمن أحداث السّجنِ الصحراويِّ وغيرِه من السّجون هو هذا التعاضد المتين، والفداء العاجل المجانيّ بين جماعات التيّارات الإسلاميّة، ونذكرُ منها خاصّةً جماعة الأخوان المسلمين. أتساءلُ: لو استطاعَ المسلمُ المنتمي إلى تلك التيّارات أن يخرجَ من قوقعةِ انتمائِه الضيّق نحو أفق الإنسانيّة الأرحب، وأن يمارسَ هذا الفداء عينَه تجاه كلِّ ذي بشر؛ ألن تصبحَ بلادُ المسلمين مثالًا حيًّا على الاشتراكيّة الرّوحيّة، وتتحوّلَ صورةُ مجتمعاتنا القاتمة القذرة إلى صفحةٍ نقيّةٍ تضمّ جميعَ الأطياف والألوان والمذاهب، وتشتركَ هذه الجماعات عينها في صلبِ رسالة المسيح وجوهر فدائه؟!

أنشأت جماعةُ الأخوان المسلمين ما عُرفَ "بالفرقة الفدائيّة"، ولكلِّ مهجعٍ من مهاجع السّجن فرقتُه، وهي تضمُّ خيرة الشّباب ذوي البنية المتينة والجسدِ القادرِ على احتمال جميع أصناف العذاب. وقد تطوّع أفرادُ الفرقةِ الفدائيّة للقيامِ بالمهامّ الخطرة والعاجلة، كإحضار الطّعام تحت وقع السّياط والكابلات العنيف، والنّيابة عن المرضى والشّيوخ في تلقّي الجلد والعقاب. لستُ في معرضِ البحثِ في دوافع هذا الفداء أطمعًا كانَ في ملكٍ سماويٍّ أم إرضاءَ حاجةٍ دينيّة أم إيمانًا عميقًا في جهادٍ أرضيٍّ أم شهادةً حيّةً على الدّينِ... إلخ، إلا أنّي لا أستطيعُ الصّمتَ حيال رغبةٍ تجتاحني في أن ينطلقَ هذا الفداء بدافعِ المحبّة الخالصة المتجرّدة عن كلّ وهمٍ، محبّة الذّات والآخر وصولًا إلى محبّة الله.

كانَ المتلصّصُ مسيحيًّا غيرَ مؤمن وهو الوحيدُ كذلك في مهجعٍ يضمُّ حوالي ثلاثمئة مسلمٍ يتوزّعون بين جماعات مختلفة متفاوتة بين التشدّد والاعتدال! كانَ موقفُ هؤلاء منهُ مختلفًا تراوحَ بين تطرّفٍ وصلَ مرّةً حدَّ محاولة القتل، وبين تعاطفٍ وتآخٍ بلغَ عمقَ الصّداقة كفي حالة نسيم.

إنّ الشّراكة التي يتحسّسها القارئُ مع بطلِ المأساة، لا بُدَّ من أن تحرّك شيئًا من مشاعرِه كما حدث معي عدّة مرّاتٍ إلى درجةٍ قادتني انفعالاتي فيها مع الأحداث إلى البكاء، أذكرُ من تلك الصّور: موت الشّيخ محمود، هذا الإنسان الذي وقفَ في وجهِ المتشدّدين حين عزموا على قتلِ المسيحيِّ الكافرِ الوحيدِ في المهجع! ومشاركتي الشّعورَ بالذلّ حينَ بصقَ أحدُ الضبّاط مخاطَه في فمِ أحد السّجناء وأرغمه على بلعِه. لم أستطعْ كبتَ بكائي مجدّدًا عندما بكى رجالُ المهجع قاطبةً بعد صدورِ حكم الإعدام بأخوة ثلاثة أمام عينيّ والدهم السبعينيّ. فأمّا تفجّعي فكانَ حين التقاء المتلصّص السّجين بأخيهِ بعد 19 عامًا من الفراق وهكذا كانَ أمامَ حادثة انتحارِ نسيم.

أعادت يوميّاتُ المتلصّصِ إلى ذاكرتي الصورَ التي رسمها اليهوديُّ الإيطاليّ بريمو ليفي في كتابِه Se questo è un uomo مؤرّخًا يوميّاته والحوادث التي وقعت له في معسكرات الاعتقال النازيّة، وبرغمِ كلّ ما جاءَ فيها من عذابٍ وذلّ، فإنّ ما حدثَ في السّجن الصحراويّ (في رواية القوقعة) لا يوصف ولا يُقارن بأيّ عذابٍ آخر، لا بل إنّه قد يفوق قصص عذاب القبر الذي تصفه بتفصيلٍ مرعبٍ كتبُ الإسكاتولوجيّا الإسلاميّة.

لستُ راغبًا في سردِ أحداث الرّواية، أو حتّى إيجازها، بل أجده كافيًا ما جاء أعلاه من تمهيدٍ وعرضٍ موجز لأهمّ ما ارتأيتُ الإشارة إليه. باختصار، فإنّ "القوقعة" كتاب يعرض لواقعةٍ حدثت ومنها ما زالَ يحدث، موضوعها الكاتبُ عينُه، يفصّلها بدقّة وبرسمٍ متقن ومؤثّر، ويطرح على قارئها (قارئه) بين الحين والآخر مجموعة من التساؤلات تنفذ إلى أعماق النّفس الإنسانيّة وتدعوه إلى اختبار إنسانيّته مرّاتٍ ومرّات، ثُمَّ تتركه في حالة ذهولٍ وجمود أمام نماذج إنسانيّة عاشت واستمرّت وما زالت. "القوقعة" رواية لمصطفى خليفة لا تُقرأ سوى مرّةٍ واحدة، ليسَ لضعفها أو هشاشتها أو برودة أسلوبها، بل لأنّك لن تجرؤ على أن تفعلَ ذلك مرّةً أخرى.

الاثنين، يوليو 18، 2011

طائرُ النّار وحكايات شعبيّة من الأدب الروسيّ

(هذه العجالة مهداة إلى الصّديق المستنير ضياء ابن نوفل).


فرسٌ نجيبة، ودنيا رحيبة، وذئبٌ أغبر، وطائرٌ ناريٌّ في قفصٍ ذهبيّ... بهذه التعابير تحدّثنا حكاية "طائر النار" إحدى حكايات الأدب الروسيّ الشعبيّة عن إيفان ابنِ القيصرِ بيرندي، بطلِ الحكاية الذي كاد أن يقبضَ على طائر النار سارق التفّاح الذهبيّ! وفي رحلةِ البحثِ عن الطائرِ الهارب يفوزُ إيفان، بمساعدة الذّئب الأغبر، بجميع المكافآت التي وُعدَ بها!

في الحكاية أربعة قياصِرة، بيرندي والدُ إيفان بطل الحكايات الشعبيّة، وصاحب شجرة التفّاح الذهبيّ، وافرون صاحب طائر النّار والقفص الذهبيّ، وكوسمان صاحب الفرس ذات العرف الذهبيّ واللجام الذهبيّ المرصّع بالحجارة الكريمة، ودالمات والدُ يلينا ستّ الحسن والدلال. لكلِّ قيصر في الذّاكرة الشعبيّة ميزة وكنز يميّزانه عن غيره، وإيفان هنا ينجح في الحصول على جميع تلك الكنوز.

أوصى بيرندي أولادَه الثّلاثة بالقبضِ على سارقِ التفّاح الذهبيّ ليلًا، وفي نوبتيهما ينامُ الأخوان الأكبران، ويسهرُ إيفان في نوبتِه لا شجاعةً ولا امتثالًا لوصيّة والدِه في القبضِ على السارق، بل خوفًا من النّومِ على الأرض. هذه هي حياة القصور، لم يتعلّم فيها ابنُ القيصر كيف يواجه خشونة الحياة، بل اكتفى برغد العيش ورفاهية الغنى، والطريف أنّه في نهاية الحكاية يزداد غنىً فوق غنىً. ويعمدُ إيفان، لطردِ النّومِ عن عينيه، إلى الاغتسالِ بندى العشب. يتردّد ذكرُ النّدى في الأدب الروسيّ كثيرًا، فهو سمة من سماتِه لشديد التصاق هذا الأدب بالطّبيعة ووصفِ تقلّباتها بين صيفٍ وشتاء، ربيعٍ وخريف. نذكر في هذا المجال صاحب الدّون الهادئ ميخائيل شولوخوف وكم من مرّة جاءَ على ذكرِ "النّدى" وقطراته في روايته "أرضنا البكر".

يمثّل الذّئب الأغبر في هذه الحكاية الملاك الحارس، والمعين الدائم، وشيخ النصائح في مختلف ثقافات الشّعوب. إلا أنّ إيفان لطمعه في امتلاكِ كلِّ شيء ثمين، ينسى نصائح الذّئب الأغبر مرّتين فيقع في الأسرِ على أثرها مرّتين أيضًايضًا، ولهذا يهمله الذّئب الأغبر في المهمّة الأخيرة، ويقوم بنفسِه بها فيختطف يلينا ابنة القيصر دالمات، ذات الحسن والدلال. إنّ الوصيّة في الحكايات الشعبيّة ونسيانها أسلوبٌ تعليميٌّ يعلّم الأطفالَ ألا ينسوا الوصايا لئلّا يخسروا الامتيازات أو المكافآت الموعودة. على علم النّفس ههنا أن يجيب على سؤالٍ أطرحه في جدوى ربط الوصايا بالمكافآت والجوائز!

هل يجبُ على البطلِ في كلّ حكاية أن يحصلَ على جميع الكنوز والامتيازات بالرّغم من الوسائل غير الشرعيّة كخداع القياصرة في هذه الحكاية؟! أليسَ الأمرُ دغدغةً لمشاعر الأرستقراطيّة والإقطاعيّة (في صورة القيصريّة) في مزيدٍ من الكسب مهما انحطّت الوسيلة المتّبعة في الوصول إلى هذه الغاية؟! وممّا يجدر ذكره كلمة خاطبَ بها القيصرُ كوسمانُ إيفانَ حين أقدمَ على سرقةِ الفرس ذات العرف الذهبيّ: "حتّى الفلّاح البسيطُ لا يُقدمُ على ذلك". وبهذا يجعل القيصر "الفلّاح البسيط" في أدنى طبقات المجتمع في روسيا القيصريّة.

يعود إيفان محمّلًا بالجوائز والكنوز فيلتقي، قبلَ أن يصلَ قصرَ أبيه، بأخويه العائدَين بخفّي حُنين! يحسدُه أخواه ويتآمران عليه ويقتلانه. لهذه الرّواية مصدرٌ دينيّ نجده في قصّة قايين وهابيلَ التوراتيّة، وكيفَ حسدَ الأوّلُ الثاني فقتله (تكوين 4: 1-16). إلا أنّها تنطبقُ أكثر وبصورة أبين على قصّة يوسف البارّ وأخوته، هؤلاء أيضًا حسدوه لكثيرٍ من الأسباب وتآمروا على قتلِه وأخيرًا اتّفقوا على بيعِه عبدًا (تكوين 37: 2-36). فأمّا الغرابُ، الذي يجلبُ ماء الموتِ وماء الحياة إلى الّذئب الأغبر لإعادة إيفان إلى الحياة، فهو رمزٌ ثريّ في التقاليد الدينيّة، نعثرُ عليه حين يرسله اللهُ في القرآن (5: 31) ليعلّم قايينَ (قابيلَ) كيف يدفن أخاه بعد قتله، وحين أرسلَه نوح بعد الطوفان فأخذَ يتردّدُ حتّى جفّت المياه على الأرض (تكوين 8: 7).

في الكتابِ أيضًا أربع حكاياتٍ أخرى، منها "الملكة الضفدعة"، ملخّصها أنَّ إيفانَ ابنَ القيصر يتزوّج بأميرة تُدعى فاسيليسا مسحورة في شكلِ ضفدع، تعود إلى طبيعتها وشكلها عندَ الليل. وفي إحدى الليالي يحرقُ إيفان جلدَ الضفدع فتختفي أميرته بحسبِ شروط السّحر وتصبح أسيرةً في قصرِ السّاحر كوتشي الأزليّ. وكي يعيدَ أميرته إليه وجبَ عليه أن يقتلَ كوتشي. تعينه على هذا الساحرة بابا-ياغا التي تخبره أنّ منيّة كوتشي الأزليّ على رأسِ إبرة، والإبرة في بيضة، والبيضة في جوفِ بطّة، والبطّة في جوف أرنب، وذاك الأرنب قاعد في صندوق حجريّ، وذلك الصندوق الحجريّ فوق شجرة بلّوط عالية. يُذكّرنا هذا النصّ بأغنية شعبيّة تلقى على مسمع الأطفال، جاءَ فيها: "لَيْمونِة يا لَيْمونِة، بابا جَبْلي لَيْمونِة، أَشَّرْتا وأَكَلْتا، وما طَعْميْت لَـحَّدْ منّا، واللي رايح عَ المكتب، جبلي شَأّوفة كَعْكِة، والكَعْكِة في الصَّنْدوء، والصَّنْدوء ما لو مفتاح، والمفتاح عند الحدّاد، والحدّاد فــ الطّاحونِة، والطّاحونِة مْساكْرَة، فيّا مَيّ مْعاكْرَة، هون مْأَصّ، وهون مْأَصّ، فيّا عروس ترأص رَأْص". تنتهي الحكاية بمقتل كوتشي واسترداد فاسيليسا والعيش معًا بسعادة وهناء.

الحكايتان الثّالثة "الفرسُ سيفكا بوركا"، والرّابعة "باسمِ السّمكة السحريّة" طريفتان، بطلاهما كسولان لكن طيّبان! تعلّماننا أنَّ الطّيبة وخدمة الآخرين لا بُدَّ من أن تُردّان إليك، والعملُ الدؤوب المتواصل بلا حظّ لا نفعَ لهُ، بيدَ أنّ المحظوظ ناجحٌ رابح بلا جهدٍ ولا عمل! تعيد هاتان الحكايتان على ذاكرتي المثل المتداول بين أبناء الجزيرة السوريّة "الـــْ ما لو حَظ لا يتْعَبْ ولا يشْقَى"! يختم الرّاوي الحكاية الرّابعة بجملةٍ ألفتْ سماعُها الآذانُ العربيّة، يقول: "وهنا تنتهي الحِكاية، ومَن سمعها ربحَ الرّاية". وهو أسلوبٌ سجعيّ تُختم به عادةً القصائد والحكايات في الأدب العربيّ الشعبيّ، كحكايات "ألف ليلة وليلة" وختامها الشّهير "وأدرك شهرزاد الصّباح فسكتت عن الكلام المباح"، وختام حكايات العامّة "وتوتِة توتِة خلْصتْ الحَتّوتِة". أذكرُ حين كنّا أطفالًا وكنّا نردّد قصائد الشّاعر السوريّ سليمان العيسى، كنّا نقول: "سليمان العيسى ياكلْ هَريْسَة". وأطفال حلب يقولون: "سليمان العيسى بيّاع الكوسا"!

نقتطفُ، ختامًا، من الحكاية الخامسة والأخيرة "فاسيليسا الفاتنة" وصفًا فريدًا لأوقات اليوم الثّلاثة: فالفارسُ الأبيضُ فارسُ الفجر (المطلع)، والأحمرُ فارسُ الشّمس (المشرق)، والأسودُ فارسُ الليلِ (المنتهى).

تتشابهُ أغلبُ الحكايات بوجودِ ثلاثة أبناء أضعفهم هو الأصغر لكنّه الأكثر حظًّا، وغالبًا ما تتّخذ الرّوايات الدينيّة الابن الأصغر للحصول على البركة ولتسلّم مقاليد الـمُلك والسّلطة كيعقوب أمام عيسو، وداود أمام إخوته. كما تتشارك الحكايات في استخدام اسم "إيفان" بطلًا عامًّا وهذا دليلٌ على انتشار الاسم وكثرة استعماله في تلك الحقبة الزمنيّة.

السبت، يوليو 09، 2011

حريّة افتراضيّة

تهربُ من الدّلف لتقع تحت المزراب!

هذه هي قاعدة الحياة اليوم وأساس العلاقات في هذا العالم الإنسانيّ الفقير المريض، وللالتفاتِ على مثل هذه القاعدة، وتخطّي هذا الأساس؛ وجب أن تكون منافقًا بامتياز، أو سياسيًّا من الدرجة الأولى (اخترْ درجتَك)، أو ديبلوماسيًّا صاحبَ تقيّة! وهي صفاتٌ متفاوتة الدّرجات والمراتب في بني البشر، تنبع من العقل والفكر والإرادة الحرّة لتحقيق بعض الرغبات والأهداف. جدير بالذكر أنّ عالمَ الحيوان خلوٌّ منها.

هل أنتَ حرٌّ في عالمك الصّغير أو الكبير، أو في واقعك ومحيطك؟! هل تجرّأت على قياس حريّتك والتعرّف بحدودها كما تقيس الحرارة بميزان من الزئبق الأحمر؟! ما جدوى طلب العيش حرًّا في عالمٍ يخلو من الحريّة؟! أم أنّك ترى يا عزيزي أنّ الحريّة هي قدرتك على ممارسة الأهواء والقيام بالمغامرات وإشباع الغرائز من أكلٍ وشربٍ ونومٍ وجنس؟! ألا ترى معي أنّ الحريّة ترتبط أشدّ الارتباط بالكرامة؟! ما نفع حياتك وإنسانيّتك بلا كرامةٍ وبدون حريّة التعبير والتفكير؟! هل تكتفي بما قُدّم إليكَ من وجبات فكريّة كما يكتفي الحمارُ بما يُقدّم إليه من برسيم؟!

إنّ القواعد التي فرضها عليّ محيطي في الصّغر أثقلتني وأنهكتني، ولم أشعرْ يومًا بالحريّة، ولم أذق لحظةً طعم الكرامة دون الخضوع لشروط البشر المذكورة أعلاه! حريّتك وكرامتك هي في نفاقك، وهذا ينقض جوهر الحريّة ولبّ الكرامة. إذًا لا مجالَ لك إلا أن تخدع نفسَك بعيش هذه والشّعور بتلك! في سورية، وفي منطقتي النائية عن قلبِ الله ومركز التمدّن، اختبرتُ مرارة الواقع الدينيّ، وفساد العقل الاجتماعيّ، ورداءة الممارسة السياسيّة، وسوء القمع والتنكيل والاضطهاد! وفُرضَ عليّ أن أكون واحدًا من المستعبدين، يقتات من نفاقِه طعامَ يومه وشرابه. في لبنان شعرتُ أوّل مرّةٍ بطعم الحريّة وقيمة الإنسان ككيان مستقلّ فريد، وهذا الشّعور الجزئيّ القليل أشعلَ في قلبي شرارة التوق الأبديّ إلى ملء حياة من الحريّة والكرامة. لم يكن ذلك في لبنان عامّةً، بل خاصّةً، وخاصّةً جدًّا: على مقاعد الدراسة الجامعيّة، وفي قلب المحاضرات! خارجها قليلٌ منه لا يُذكَر...

في الواقع، وفي أغلب بلدان العالم، إن لم نقل جميعها؛ لا وجود لحريّة تامّة ولا لكرامة مطلقة. كلاهما محدودان ضمن أطر ثقافيّة قانونيّة اجتماعيّة دينيّة تختصّ بكلّ بيئةٍ وبلد! هذا ما يدفع المرء كثيرًا أو قليلًا إلى البحث عن واقعٍ بديل للتنفيس عمّا أغلقَ عليه، وللتعبير عن غير المباح في الواقع الأوّل. أُطلقَ الافتراض مع إطلاق الإنترنت، والافتراضُ يعني الظلّ والرمز والتصوّر والخيال مفصولًا بأجزاءٍ تكثر أو تقلّ عن الواقع. فالواقع هو أنت جسدًا ومَلكات، والافتراض هو أنت (أكبر وأكثر وأوضح) في الإنترنت لكن بصورةٍ خياليّة. وهو يعاكس عالمَ أفلاطون هذا الفيلسوف الذي صوّر واقع البشر (واقع الجسد) بالظلّ والخيال، وأشار إلى الحقيقة بالافتراض (نفس دون جسد)! فإن كان بحثي عن أقصى درجات الحريّة وأسمى مراتب الكرامة لم يتحقّق في واقع الأجساد، لكثرة الحدود والقواعد والأطر والتحديدات والموانع؛ فهذا ما يدفعني إلى البحث عن هذين القيمتين وعيشهما في الواقع البديل (الافتراضيّ). ولأنّه افتراضيٌّ أي رمزٌ وخيال للواقع، فمن السّهل أن تجد فيه ما تبحث عنه مهما ارتقى موضوع البحث على واقعك الجسديّ. اختباري خلال السّنوات الأخيرة أثبت لي أنّ هذا الافتراض محدودٌ أيضًا ومقموع بالاقتصاد أبي السّياسة والإعلام والإيديولوجيّات... إلخ! واقعٌ محدود مكبَّل ومُكبِّل وافتراضٌ محدود مقيَّد ومقيِّد، فهل ثمّة بديل آخر؟!

قبلَ عدّة أيّام وعلى صفحات الفيسبوك كتبتُ تعليقًا صغيرَ الحجم بسيط الفكرِ والكلم حول مظاهرة الأوكرانيّات عاريات الصّدر أمام السّفارة السعوديّة في كييف دعمًا للمرأة السعوديّة نحو عيش حقوقها كاملةً دون انتقاص واحدٍ منها. ووضعتُ صورةً واحدةً تبيّن شكلَ المظاهرة وإحدى لافتاتها. كما ختمتُ التعليق بتساؤلات دينيّة - فكريّة موجّهة إلى الإنسان عامّةً والرّجل خاصّةً (يُمكن القراءة والمشاهدة في هذه المدوّنة تحت عنوان "إقصاء المرأة: النموذج السعوديّ"). اليوم التالي قامَ الفيسبوك بحذفها أصلًا وجذرًا مع تنبيهٍ أوّل! هدّدني الفيسبوك في حالِ العودة إلى "خرق" قواعده "الأخلاقيّة" بإغلاق حسابي، لأنّه يعتبر البشر يتنفّسون من منخره، ويشربون ويأكلون من بلعومه ومعدته! ومراعاةً للأصول ساعدتني صديقتي على كتابة رسالة مطوّلة بالإنجليزيّة شديدة اللهجة أطلب فيها توضيحًا للحذف وإشارةً إلى مكامن خرق "القواعد الأخلاقيّة والقانونيّة"! لا جوابَ حتّى اليوم، وقد لا يصل أيُّ جواب... لا بُدَّ إذًا من واقعٍ بديلٍ آخر، أظنّني اقتربتُ من الكشفِ عنه، حينها سأطلّق الفيسبوك الديكتاتور وزبانيّته من كتبة التقارير والمخبرين والمتقوقعين والمرضى الفاسدين هؤلاء الذين أودوا بموضوعي الصّغير وحصلوا لي من محكمة الأمن الفيسبوكيّة على تنبيهٍ أوّل قد يؤدّي مع سبق الإصرار على ارتكاب الفحشاء في الأديان والسّياسة والجنس إلى سجنٍ مؤبّد أو نفيٍ لا عودة فيه!

السبت، يونيو 25، 2011

إقصاء المرأة: النّموذج السعوديّ

سجّلت المرأة الأوكرانيّة هدفًا في المرمى السّعوديّ الخائب، بعدما شاركت المرأة السعوديّة مطالبتها بحقّ بديهيّ في قيادة السيّارة. ففي العاصمة الأوكرانيّة كييف قامت قبل حوالي أسبوع مجموعة من النساء الناشطات عاريات الصّدور بمظاهرة أمام السّفارة السعوديّة، ارتدين خلالها البرقع الأسود وحملن لافتات كتبن عليها عبارات تستنكر هذا الاضطهاد الذكوريّ السّعوديّ، منها" "السيّارات للنساء والجمال للرجال"، "لا لديكتاتوريّة الرّجال"، "أخلاقٌ بريّة"... إلخ! واكتفت المرأة العربيّة بمشاركات خجولة جدًّا تندّد بمواقف هذه الدولة الوحيدة في العالم التي لا تسمح للمرأة حتى اليوم بقيادة السيّارة.

ما الذي دفعَ الناشطات الأوكرانيّات إلى مناصرة امرأة لا تشاركهم في شيءٍ سوى الجنس؟! أليسَ شعورها بالقهر والاضطهاد في عالمٍ ما زالَ فيه الذّكرُ منتصبًا كالمسلّات المصريّة في ساحات روما؟! بين البرقع الدينيّ والصّدر العاري بونٌ شاسع، ولعلّ إظهار هذين النقيضين في مظاهرة نسائيّة تناصر حقًّا طبيعيًّا من حقوق المرأة، إشارة إلى نظرة الرّجال نحو المرأة، هذه النظرة الدونيّة التي ليسَ فيها سوى "الدين" (العرض والحرام) و"الجنس" (اللذّة والمتاع).

تُعتبر المرأة في الثقافة الدينيّة "حرامًا"، ومنه جاءت "الحرمة" اسمًا للمرأة وجمعها "الحريم"، ومن هذه اشتقّت التسمية التركيّة "الحرملك" إشارةً إلى القسم المخصّص للنساء في المنازل الإسلاميّة قديمًا (ما زالَ حيًّا في بعض المناطق والأحياء من مختلف البلدان العربيّة). والحرامُ مفهومٌ عامّ أُطلق على المقدّس والمدنّس على السّواء، فارتكابُ الإثم حرامٌ، والمقدّسات حرامٌ... وبين هذا وذاك على أيّ طرفٍ تقع "المرأة"؟! فإذا كانت من "المقدّس" أُعطيت صفة التقديس ففاقت الرّجلَ مرتبةً، وإذا كانت من "المدنّس" فأيّة خليقةٍ مدنّسة صنعتها يدُ الله؟! الإجابة برهنِ الرّجال!


الأربعاء، يونيو 08، 2011

بَيْن تضليل النظام ونفاق المعارضة السوريّة!

دأبتُ منذ بدء المظاهرات السوريّة، التي تهدف إلى إسقاط النّظام البعثيّ المتمثّل في حكم الأسد من خلال سيطرة الحزب الواحد على جميع مفاصل الدولة السوريّة؛ على اتّهام القسم الأكبر من المعارضين وخاصّة المنتمين إلى الأحزاب القوميّة والدينيّة بالنّفاق! وعرضتُ يومًا بعدَ يوم براهينَ كثيرة تثبت نفاقهم وتلوّناتهم السياسيّة الخدّاعة بحسب الظروف، ما من شأنه خداع المواطن السوريّ لجرّه إلى تأييد المظاهرات برفعِ شعارات نبيلة كالمطالبة بالحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة... إلخ! وفي الواقع لم يثبت القسمُ الأكبر من المعارضات المختلفة تجسيد هذه المثل لا في أحزابِهم ولا في دساتيرها ولا حتّى في تاريخهم الممتدّ منذ القرن الماضي حتّى اليوم.

اتّهام المعارضة السوريّة بالزّيف لا يعني إطلاقًا تمجيد النّظام الحاكم في سورية، لا بل يعني العكسَ تمامًا، أي أنّ هذه المعارضة (ليست جميعها لكن غالبيّتها العظمى) تمثّل وجهًا آخر من أوجه النّظام الديكتاتوريّة. فالنّظام كانَ وما زالَ حتّى اليوم نظامًا أمنيًّا عسكريًّا لا يُمكن الحياة السياسيّة الفعليّة أن تنمو في مثل محيطه هذا: المادّة الثّامنة من الدستور السّوري التي تقضي بسيطرة حزب البعث على كامل الإدارة السياسيّة، وقرار قيادته القطريّة هو قرارٌ سياسيّ يعلو أيّ قرار آخر في الدولة بأكملها! بالإضافة إلى سيطرة المخابرات في فروعها المتعدّدة الأشكال على المواطن السوريّ وإخضاعه لسلطتها قسرًا وقهرًا دون لينٍ أو رحمة. مجلسٌ برلمانيّ شكليّ أشبه ببيوت الضيافة حيث العزف على الرّبابة وتوزيع قهوة الدلالي ليسَ له أن يحلَّ أو يربطَ شيئًا، نوّابُه مزوّرون يتنعّمون بكرسيّهم عدّة سنوات ثُمَّ مع السّلامة. كلّ هذه الأشكال إنّما هي أشكال أوتوقراطيّة تتّجه إلى تأليهِ شخصٍ أو عشيرة أو مذهب أو عقيدة على حساب مجتمع كامل!

على كلِّ حال نعودُ إلى المعارضات السوريّة التي أصدرت قبلَ عدّة أيّام بيانًا عن مؤتمرها في أنطاليا التركيّة يدعو الرّئيس الأسد إلى الاستقالة ويؤكّد عزمه على مواصلة الاحتجاجات نحو إسقاط النّظام. جاءَ فيه أنّ الانتفاضة الشعبيّة سلميّة وهذا أوّل الغيث! إن كانت الانتفاضةُ سلميّةً فعلامَ ترويع الأهالي والسّكان، وحرق المباني الحكوميّة وتخريبها، وتشكيل العصابات وقطع الطّرق والتمييز بين هذا وذاك وفق انتمائه الدينيّ والمذهبيّ؟! علامَ إذًا تلك الشّعارات البغيضة التي حملتموها في جبلة وبانياس، تلك المليئة بالحقد الطائفيّ والكره الدينيّ؟! علام إشهار السّلاح الثّقيل ومواجهة القوى الأمنيّة والجيش؟! إذا كانت بكل هذا العنف والقتل والدّمار سلميّةً فكيف لو كانت عسكريّة؟! إنّ التضليل الإعلاميّ الذي يُتّهم به النّظام تُتّهم به المعارضة أيضًا فتلك التسجيلات الكاذبة والافتراءات أين ذهبت؟! ولو كانت صحيحة فلماذا إذًا تقدّمَ عددٌ من وسائل الإعلام العالميّ باعتذارٍ رسميّ إلى الحكومة السوريّة؟ ثُمَّ وإن كانت انتفاضةً شعبيّة لماذا لا نرى بين عناصر المتظاهرين سوى طيفٍ دينيٍّ مذهبيٍّ واحد؟! ألا يعني هذا لكلّ من يعاين الأحداث أنّ الصّراعَ صراعٌ طائفيّ يهدف إلى الاستئثار بالسّلطة كما استأثر بها طيفٌ مذهبيٌّ واحد منذ حوالي نصف قرن؟! تخرجُ المظاهرات من دور العبادة وتهتفُ بشعاراتٍ دينيّة إلى جانب شعاراتها الإنسانيّة، ونسأل: كيفَ لمواطنٍ من انتماءٍ دينيٍّ آخر أيًّا كان تعلّم من تاريخه دروسًا لا تُنسى أن يُصدّق حريّةً وديمقراطيّةً تخرج من دور العبادة؟! إنّ هذه الدور دينيّة بحت لا سياسيّة وهذا الخلط المتعمّد بين الدّين والسّياسة خلطٌ مقرف ما زالت سورية تعاني من استبدادِه، أيُّ عاقلٍ يُناصرُ استبدادًا على حسابِ استبدادٍ آخر؟!

طرح مؤتمر أنطاليا بيانًا ضبابيًّا لا يُمكن فهمه إلا من خلال فهم شرائح المعارضة نفسها وخصوصًا الدينيّة! والجدلُ الذي حدث في جلسة المؤتمر الصباحيّة حول تضمين البيان أو عدم تضمينه دعوة صريحة وواضحة إلى "فصل الدّين عن الدّولة"، والانتهاء بصيغة توفيقيّة تدعو إلى دولةٍ مدنيّةٍ تقوم على ركائز نظام برلمانيّ متعدّد؛ هو الدّليل الأوّل والأكبر على الضبابيّة التي نشير إليها! لماذا يُصار إلى اختيار صيغة توافقيّة غير واضحة المعالم، ووحدَه فصل الدّين عن الدّولة لقادرٌ على إرساء المواطنة العادلة والسّليمة والمساواة بين جميع المواطنين السوريّين بغضّ النّظر عن أيّ انتماءٍ دينيّ أو عرقيّ؟! لماذا يُستبعد هذا الفصل بين الدّين والدّولة وهو وحدَه القادر على إحياء مجتمع مدنيّ ديمقراطيّ حرّ يكفل العدالة لجميع أفراده دون النّظر إلى مذهبٍ أو مشرب؟!

ثُمَّ لننظر قليلاً في الصّيغة التوافقيّة التي وردت في البيان: "دولة مدنيّة بنظام برلمانيّ متعدّد"! ما هي الدولة المدنيّة؟! وما هي أسس بنائها؟! وما هو النظام البرلمانيّ المتعدّد؟! ولماذا يصرّ المعارضون مرارًا وتكرارًا على الاحتكام إلى صناديق الاقتراع؟ أتُؤكل الحلاوة في عقول السذّج بهذه الصّيغة؟ إنّ الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والدولة القائمة على البرلمانيّة أو الديمقراطيّة التعدّديّة دون "فصل الدّين عن الدّولة" مجرّد فقاعات في مهبّ الرّيح، فصندوق الاقتراع والديمقراطيّة التعدّديّة في مجتمعٍ متديّن كالمجتمع السوريّ دون الفصل المذكور إنّما يدمّران أسس الحريّة والديمقراطيّة الحقيقيّة، لأنّهما يمثّلان واقعًا رأي الأكثريّة التي تطغى من جديد على آراء الأقليّات فنعود من حيث أتينا. والتعدّد هو مفهومٌ غامض لأنّه يجزّء المواطنة إلى أجزاء منها ما هو أكثر ومنها ما هو أقلّ، وهذا التجزيء يتمّ نظرًا إلى صفةٍ دينيّة بحت! إذ ما الذي يدعونا إلى إطلاق صفة الأكثريّة على الجماعة الفلانيّة والأقليّة على الجماعة العلتانيّة؟! أليسَ الدّين أو العرق؟ فهو إذًا مفهومٌ تجزيئيّ لا يُمكنه أن يكفل حقّ الجميع بمساواة مطلقة عادلة. ونعود لنكرّر أنّ كلّ هذا يُمكنه أن يبني مواطنةً واحدةً سليمة في حالةٍ واحدة يُفصَل فيها الدّين عن الدّولة، وبما أنّ المعارضة أصرّت في بيانها على تجنّب هذا الفصل واعتماد صيغة ضبابيّة شرّحناها قبل قليل، فهي معارضة منافقة تهدف إلى إسقاط نظامٍ قمعيٍّ شرس لتحلّ محلّه بثوبٍ قمعيٍّ جديد. (تحيّة قلبيّة إلى "ائتلاف القوى العلمانيّة السوريّة" الذي يصرّ على تضمين الدستور مبدأ فصل الدّين عن الدولة).

إنّ الأطياف التي اجتمعت في أنطاليا غلبت عليها الأحزاب العرقيّة والدينيّة، وكلُّ حزبٍ قوميّ ضمن نطاق الدولة الواحدة حزبٌ فاشل من شأنه أن يرسّخ في صفوفِ أعضائه والمنتمين إليه تنظيمًا أو تعاطفًا أفكارًا انفصاليّة لا يُمكنها أن تسير نحو وحدة تقدّميّة كما أنّ الأحزاب العقائديّة الشموليّة كالأحزاب الدينيّة أحزابٌ فاشلة بسبب هذا التباين الجليّ بين العقيدة والواقع كما ثبتَ على مرّ التاريخ والعصور. فمن السّذاجة إذًا الحديث عن تجارب حزبيّة جديدة دون النظر إلى التجارب السّابقة!

وبعد كل هذا العرض أليسَت كلُّ تلك الأدلّة برهانًا كافيًا على نفاق معارضةٍ كهذه؟! سؤالٌ يحتاجُ إلى إجابة ضميريّة إنسانيّة.

(نُشِرَتْ في جريدة "النهار" اللبنانيّة، الأحد 12 حزيران 2011، السنة 78، العدد 24416، في صفحة "منبر").
...

الجمعة، مايو 27، 2011

حَدا يْجيْـبْ الدّب عَ كَرْمو؟!

أرسلَ إليَّ الصّديق إيهاب جبر مقالاً أعدّه بنفسِه حول المثل الشعبيّ السّائر "حَدا يْجيْـبْ الدّب عَ كَرْمو؟!"، وعلّق عليه بأسىً يقول: من المؤسف ألا تلاقي مثل هذه المقالات طريقَها إلى النّشر! ألعلّني أخطأتُ في شيءٍ ما؟! أم إنّ النّاسَ لا تستهويها هذه الأنماط؟!

وفي الحقيقة إنّ دراسة تراثات الشّعوب وما تعلّق بها من تراكمات وتبدّلات وتحويرات لهي القاعدة الأساسيّة لدراسة المجتمعات وتطوّراتها وتقلّباتها منذ الأمس وحتّى اليوم. وتندرج في أكثر من علمٍ ومعرفة منها "علم الاجتماع" و"الفلكلور" و"علم الإنسان" و"الآداب"... إلخ!

وأعجبني أن يبذلَ صديقي هذا الجهد لدراسة مثلٍ واحدٍ اشتهرَ في سورية على اختلاف مناطقها وثقافاتها، فثمّنتُ فيه هذا الاندفاع وراقَ لي أن أنشرَ مقالَه على هذه الصّفحات بعد أن طلبتُ منه أن يمهرَ لي الإذنَ بالنّشر، وبعد أن أعلمته بأنّ النّشر سيكون مرفقًا بنقدٍ مختصرٍ سريع لأسلوبه في معالجة المثل.

كتبَ إيهاب:
"حدا بيجيب الدب ع كرمو؟!
كبداية خلينا نعدّد كم نوع من أنواع الدّببة مثلا:

الدب القطبي: هو نوع من أنواع الدببة يتواجد في منطقة القطب الشمالي الممتدة عبر شمالي الاسكا، كندا، روسيا، النرويج، وجرينلاند وما حولها. يعتبر الدب القطبي أكبر ثدييات اليابسة اللاحمة حاليا، ويصل في طوله لما بين 2.4 و3 أمتار.
الدب الأسمر أو الدب البني: هو نوع من الدببة، منتشر في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية. يُمكن أن يزن من 300 إلى 780 كغ.
الدب السوري: هو إحدى سلالات الدب البني وأصغرها جميعا، وهو حيوان قارت (آكل لكل شيء)، فهو يقتات على اللحوم والأعشاب والفاكهة والحشرات وغيرها. يبلغ ارتفاع الدب البني السوري 140 سنتيمترا عند الكتفين، ويتراوح لونه من المصفر إلى البني القاتم. كانت الدببة البنية السورية وافرة العدد قديمًا في أوائل فترة انتشار المسيحية وما قبلها في بلاد الشام، وفي القرن التاسع عشر كان هذا الدب مألوفا في سوريا وشمال فلسطين والجولان بشكل خاص حيث كان يشكل خطرا مستمرا على قطعان الماعز والخرفان المستأنسة التي يرعاها أصحابها في الخلاء. وتمت رؤية آخر دب بني سوري عام 1917 جنوبي جبل الشيخ أو جبل حرمون في جنوب سوريا، لكنه بقي موجودا في الغابات السورية الشمالية والغربية.

بالعودة الى المثل "حدا بيجيب الدب عَ كرمو" خلينا نوضح فكرة أول شي: أنو الدب هوّي حيوان لاحم، والدب السوري (آكل لكل شيء)، يعني ممكن أنو ياكل عنب! بس خلينا نتخيل مثلا دب قدامو سلة سمك وسلة عنب، يعني مثلا معقول يقعد ياكل سمك مع عنب؟ أو أنو بيفضل يتسلى بعنقود عنب؟ يعني شو هالطعمة؟ يعني واحد بيقلك: أنت جبت الدب ع كرمك؟ لك إي، وشو بدو يعمل؟ بدو ياكل الكرم؟ معقول هالدب يحط راسو ويبلش بالكرم؟ طيب وبلكي طلعلو شي دبور؟ هلق إذا الدب بياكل عسل وبيعرف النحل، معقول بيعرف الدبابير؟ وما بتفرق معو اذا لبظو (قرصو) شي دبور؟ أكيد المثل بدو تصحيح وإصلاح وتغيير وخلينا نقول مثلا: "حدا بيجيب الدب عَ البايكة؟! (البايكة: حظيرة الحيوانات) يعني أظبط باعتبار الدب حيوان لاحم بالدرجة الأولى بيصير التعبير أقوى. وطبعا هيك ما في تحديد لأنو أي دب هوي حيوان لاحم وبالتالي بيكون في منطق بالحكي. خليني أحكي بلسان الدب (الدب لي حاطط راسو بالكرم) أكيد رح يقول: ولك يا عيني لا تقنعني بالكرم، وتعذبني بالعنقود وحتى لو كان الكرم كلو عنب "صابيع عروس" (بتكون حبة العنب طويلة ومستقيمة، تشبُّهًا بجمال أصابع العروس) بفضّل آكل سمكة وحتى فقمة لك إي أريحلي من وجعة هالراس.

يعني لا تفيق الدب برمي الحجر وخصوصًا أنو الدب بينام وعندو سبات، يعني إذا كان شبعان ما بيقرب ع حدا وبلاها هالزلومية، لأنو إذا وقف الدب (ولو كان طولو 140 سم) ممكن يعملك صلاطة وإذا طلع ابن حلال بيعملك شقف مرتديلا.

المصادر: ويكبيديا العربية"

هُنا ينتهي مقال الصّديق إيهاب. سلمت يداه ودامَ قلمُه وإلى مزيدٍ من البحث والكتابة...
وليسمح لي كاتبُنا العزيز أن أشمّر عن ساعديّ لأحرثَ قليلاً في أرضِه الخصبة:

منهجيّة البحث لغةً جيّدة تراوحت بين استخدام الفصحى والعاميّة، وهذا حسنٌ في نظري فملامسة الفلكلور (المثل هنا) يتطلّب الكثيرَ من العناية، وخاصّة أنّه منقولٌ إلينا في غالبيّته العظمى باللهجات العربيّة السّائدة في بلداننا اليوم، وقد يُرغم الكاتبُ أحيانًا على التعبير عن أفكارِه بلهجة المثلِ ذاتِه زيادةً في الإيضاح وتبسيطًا في الشّرح. وفي الوقتِ عينِه يُرجى منه أن يحرّك بعض الكلمات المتداولة بين العامّة فالعربُ يشتركون بالفصحى لكنّهم يختلفون في المتداول لفظًا وكتابةً. فإن رامَ الكاتبُ توجيه حديثه إلى جميع الناطقين بهذه اللغة وُجبَ عليه ما ذكرنا في دقّة كتابة الألفاظ وشرحها أحيانًا، وهو ما نراه في متن المقال أحيانًا بين قوسين.

في ختام المقال لفتَ إيهاب نظرَ القارئ إلى المصدر الذي استقى منه معلوماته في كتابة المقال، وهو موقع إلكترونيّ شهير درج الكثيرون على العودة إليه في قراءة سريعة تفيد اختصار الوقت وعناء البحث الطويل: "ويكيبيديا العربيّة". وكانَ عليه ههنا أن يذكر المفردات التي شرحتها الموسوعة الإلكترونيّة، والتي استعملها لإغناء المقال. فكيفَ للقارئ أن يعرف ماذا استفادَ الكاتبُ من الويكيبيديا، وماذا كانَ عملاً خاصًّا به؟!

إنَّ تحليل المثل الذي قامَ به إيهاب لم يراعِ واقع المثل بالذّات، بل نهجَ في تفسيرِه واقعنا اليوم، وهو في الحقيقة نهجٌ لا يتناسبَ مع واقع الأمس، ويخالف أيضًا البيئة التي نشأ فيها المثل والأسباب التي دفعت العامّة إلى إطلاقِه. فانغماس الكاتب في تحليل مادّة "الكَرْم"، أي العنب، ومدى تلاؤمها كطعامٍ نافعٍ للدبّ لا يفيد في توضيح المثل الذي لم يتطرّق البتّة إلى "العنب" بل إلى "الكَرْم" وهو بيتُ القصيد.

يأتي المثل في صورةٍ مختصرة مكوّنة من أربع كلمات وحرف جرّ بلفظٍ عامّيّ: "حَدا يْجيْبْ الدبّ عَ كَرْمو؟" وبتحويله إلى الفصحى يُصبح "هل مِن أحدٍ يجلبُ الدبَّ إلى كَرْمِهِ؟"، مع ملاحظة استبدال حرف الجرّ "على" بـ"إلى" بما يوافق فعل "جلبَ"! ويقصدُ المثل في معناه: "هل من عاقلٍ يجلبُ الخرابَ إلى نفسِه"، وضمن هذا التفسير يتّضحُ عملُ الدبّ.

يرتادُ الكروم عددٌ من الحيوانات والطيور والحشرات أهمّها بنات آوى والثّعالب والأرانب والحجل وديكة البور والدبابير والنحل وغيرها الكثير... ومنها الدببة طبعًا، وإلا فلا معنى للمثل! وللإجابة على المنطق الذي اتّبعه إيهاب في تفسير المثل واستخلاص خطئه "منطقيًّا"، نتساءل: لماذا لم يخترْ أجدادُنا من بين كلّ تلك الحيوانات سوى الدبّ؟! لماذا لم يقولوا مثلاً: "حدا يجيب بنت آوى عَ كرمو؟" أو الثعلب أو الأرنب... ؟! مع أنّ بنات آوى على كثرتها تأكل من الأعناب ما يفوق أكل الدبّ منها بكثير. فهي لا تقتات منها لتشبع تمامًا كالدبّ الذي يأكل منها تلذّذًا بحلاوتها لا للشّبع، فجميع تلك الحيوانات والطيور لا تأكل العنبَ كوجبةٍ أساسيّة بل على أنّه "أنتيباستو" (ما يسبق الطّعام)، أو "ديسّيرت" أي ما يلي الوجبة الرئيسيّة. ويجب أن نذكرَ ههنا أنّها قد تلجأ إلى أكله كطبقٍ رئيسيٍّ إن لم يتوافر لها غيرُه. إذن، أين تكمن المشكلة في المثل؟! في الحقيقة لا توجد أيّة مشكلة في منطقيّة المثل ومفرداته، والمسألة التي ابتكرها الكاتب ليظهر المثلَ على أنّه مثلٌ ينقصه المنطق غير صحيحة لأنّها استندت في منهجيّة تحليلها إلى "العنب" وغفلت "الكرم"!

إنَّ الدبّ حيوانٌ ضخمٌ بطيء الحركة ثقيلها بالنسبة إلى بقيّة الحيوانات البريّة التي تصغره حجمًا، ولنتخيّل معًا حيوانين يدخلان الكرم أحدهما بنت آوى والآخر دبّ. تستطيع بنت آوى أن تتنقّل بحريّة بين أشجار الكَرْمِ، ويُمكنها أن ترتقي الأغصان الأولى دون أن تتسبّب بأيّ ضررٍ للكرمة (شجرة العنب)، فهل يفعل هذا الدبّ؟! بالطّبع لا، فإنّ الدبّ إذا ما حاول انتزاعَ العنب فإنّه ينتزع مع العنقود غصنَه، وإذا ما شاءَ أن يجلسَ ليتلذّذ بديسّيرته فقد يهشّم الكرمة بأكملها، ويكفينا أن نتصوّرَ دخولَ دبٍّ إلى كرمٍ يطأ أشجارَه وينتزع أغصانَه ويهشّم هذه وتلك، خرابٌ بعينِه! فإذا ما وصلنا بين هذا المعنى "الواقعيّ" والمعنى الذي يقصده المثل لتطابقا تمامًا. فأنت حين تضربُ هذا المثل فإنّك تعني: "هل من عاقلٍ يجلبُ الخرابَ إلى نفسِه ودارِه؟"!

وعلى إشارة من أحد الأصدقاء يعيد المرء طرحَ سؤال آخر: وما الذي يدفع الدبّ إلى ولوج الكرم؟! ألعلّه العنب؟! يذكر إيهاب أنّ الدبّ حيوانٌ لاحم وهذا صحيح، ويقتات أيضًا من العسل... ومَن يحيا في المناطق التي تنتشر فيها الكروم يعلم أنّ منازل أصحابها تقع في طرفها الأعلى، وبالقربِ منها تقع حظائر المواشي وأقنان الدواجن، بالإضافة إلى المناحل في الطّرف الآخر. فإذا ما رامَ الدبُّ وجبةَ شاة أو دجاج اجتازَ الكرمَ فأفسده وخطف ما يُريد، والأمر سيّان بالنسبة إلى العسل... وفي جميع الأحوال إنّ دخول الدبّ إلى الكرم يحيله إلى خرابٍ إن شاءً لحمًا أو تحليةً...

محاولةُ تفسير عادات الشّعوب وأقوالها، طريقٌ صعبٌ وشائك، يحتاجُ فيه المرءُ أوّلاً إلى فهمٍ كافٍ للمجتمع الذي نشأ فيه المثل، وإلى تصوّرٍ واضح للبيئة التي وُلِدَ فيها. إذ لا يُمكن تفسير مثل الأمس باستخدام أدوات اليوم فلكلّ زمانٍ أدواته ولكلّ بيئة وسائلها. وكما قدّمَ لكم صديقُنا الكاتب نصيحةً في ختام مقالِه، أنصحُ لكم أنا أيضًا بألا تحضروا إلى كرمِكم لا دبًّا ولا بنت آوى، فكلاهما عزيزان عليكم: الكرمُ والعنب!

.....

الجمعة، أبريل 29، 2011

بينَ الوطنِ والأمّ...

يتلفّظُ الصّغارُ في الشّرق أوّلَ لفظةٍ فينطقونَ باسمِ الأمِّ "أَمّا"، ويفتتحون مشوارَ لغتهم باسمها، وهم لا يدركون أنّهم يلفظون بلفظة "الأمّ" اسمَ الوطن "أمّة"! لا بل إنَّ لفظتهم الأولى هذه تسمُ لغتهم طوال حياتهم فيُقال عنها "اللغة الأمّ"...

في الثقافتين اليونانيّة واللاتينيّة الوطنُ ذكرٌ، واسمه منحوتٌ من الرّجل - الأب، فيدعونه وطنًا Patria، من Pater (أب). وذكوريّة الأوطان في تلك الثّقافات سادت مفاصل عوالمهم، وولدت الأنظمة البطريركيّة، وأصبح هذا النّظام يُطلق على كل تفصيلٍ ومفصل ولفظه مركّبٌ من لفظين يونانيّين: Pater وArkhi أي أبُ البدء! حتّى أنَّ الجمال في اليونان القديمة، والجنس عند الرّومان (بومباي)؛ تمثّلا في الرّجل (الذّكر)!

بيدَ أنّنا نحن الشرقيّين ألطف منهم بكثير، فوطننا لغةً هو "الأمّة"، وهي أمّ حنون اشتقّت من اسم الأمّ. وهو كذلك في اللغات الساميّة القديمة كالآراميّة فالوطنُ فيها "أومثا" (أمّة)، وفي لهجاتها "ماثا". وهذه الأمّة - الوطن هي التي تلدُ الأفرادَ من رحم واحدٍ يصلهم بها. وإذا كانت الأمّ تشرك أبناءَها بصلة الرحم الجسديّة، فالأمّة - الوطن تشركهم بصلة الرّحم الروحيّة والمعنويّة، بصلة العيش المشترك والغاية المشتركة وبكلّ ما يجمعهم بها من أرضٍ ولغةٍ وتاريخ...

الوطنُ في حقيقته ليسَ من وطنَ واستوطنَ فهو ليسَ مسكنًا تقيم فيه وترحل إلى غيره متى شئت، ولا يجمعك به غير الإقامة! بل هو أمّتك - أمّك، والأمّ لا تُفارَق ولا تنقطع الصّلة بها ما دامت الحياة. تحملك أمّك تسعة أشهر في رحمِ حشاها وتربطك إليها بحبلٍ يغذّيك ويدفع فيك الأنفاسَ وينمّيك ما دمتَ إليها مشدودًا به، وإن فارقتها خارجًا من رحمها تتبعك في أولى سنيك وتحرص عليك حتى اللحظة الأخيرة. وهكذا أمّتك - وطنك تحملك في أرضها ومنها تغذّيك وتدفع في رئتيك أنفاسها وعبيرها، وتشدّك إليها بكلّ جزءٍ فيك من شكلٍ ولونٍ ولغةٍ وتفكير... أنت مربوطٌ إليها في ذاتك وتكوينك وتفصيلك... وإن كنتَ تفارق رحمَ أمّك بعد تسعة أشهر لتخرج إلى النّور، فإنّك لا تستطيع أن تفارقَ رحمَ أمّتك - وطنك حتّى في موتك فإن كنتَ خرجتَ إلى أرضها ففي موتك تُدفن في الأرض ذاتها. وعدم قدرتك على مفارقتها ليس غصبًا أو قسرًا أو غير ذلك، هو لأنّك صرتَ جزءًا منها، لا بل أصبحت في ذاتك صورةً صغيرةً عنها، وأينما حللتَ وارتحلتَ فهي فيك. ولهذا فإنّ ابتعادَك عن أمّك - أمّتك يؤجّج عواطفك ويشعل حنينك ويشعرك وكأنَّ المشيمة التي تجمعك بها تراخت أو انقطعت ولا بُدَّ لك من لحمةٍ وتواصل يشبعان فيك هذا الانتماء.

كلُّ فردٍ مولودٍ من رحمِ هذه الأمّة - الوطن هو ابنٌ لها، وجميع مواليدها أخوة له وأخوات، فإن حاولَ هذا الفرد أن يفصلَ بين "الوطن" و"الأمّة" بحجّة أرحام مختلفة كالدّين أو المذهب أو الفكر أو العقيدة، أصبح قايينَ آخرَ (قابيلَ) لا همَّ له سوى قتل أخيه والطّواف في الأرض ضياعًا وتشرّدًا وهربًا من وجه أمّه - أمّته الوطن!

الثلاثاء، أبريل 26، 2011

أنا سوريٌّ وكفى!

اليومَ بتُّ أخشى الكتابةَ أوّلَ مرّةٍ...

إن أظهرتُ فساد النّظام واهتراء ثوبه ونهبه البلاد وقمعه العباد بلا انقطاع، اعتبروني خائنًا عميلا،
وإن بيّنتُ انحراف المعارضين وخطأ المتظاهرين واستغلال الخارجين، عدّوني مواليًا مخبرًا يقتات من فضلات الجلاد!

إن دعوت إلى السّلم والمحبّة قالوا فيَّ جبانًا رعديدا،
وإن دعوت إلى المصالحة والمسامحة قالوا فيَّ منافقًا خدّاعا!

إن ناديت بفصل الدّين عن الدّولة اعتبروني كافرًا زنديقًا،
وإن رفعت شعار احترام الأديان في معابدها صرت منظّرًا ملتحيًا!

إن صمتُّ أصبحتُ فاترًا لا أصلح إلا أن أكونَ قيئًا...

وإن حايدتُ صرتُ أعرجَ لا يدري على أيّ جنبٍ يستوي!

وإن قلتُ هذا حقٌّ وذاك باطل، قالوا: الآنَ تنطق؟!

وا عجبي ودهشتي، أليست هذه جميعها أشكالاً من العنف مختلفة اللون متباينة الشّكل والقناع؟!

...

السبت، أبريل 09، 2011

ماذا وراء الإسلاموفوبيا؟!

تحت هذا العنوان، كتبَ السيّد خالد القشطيني مقالاً في جريدة "الشّرق الأوسط" في الثّالث من نيسان الجاري 2011، يتحدّث فيه عن مفهوم "الإسلاموفوبيا" التي اجتاحت العالم الغربيّ ويعزوها إلى أسبابٍ سلوكيّة لا عقائديّة كما هو شائع عندَ النّاس! يقول:

"أثارت البارونيس سعيدة حسين وارثي، العضو في مجلس اللوردات ورئيس حزب المحافظين، ضجة في الأيام الأخيرة بقولها إن الجمهور البريطاني أصبح معتادا في كلامه على الإساءة إلى المسلمين. وجرت الضجة إلى التدقيق في موقف الأوروبيين عموما تجاه الإسلام والمسلمين. تبين أن معظم الأوروبيين أخذوا يتخوفون وينزعجون من المسلمين.

الموضوع في رأيي لا يتعلق بالإرهاب بقدر ما يتعلق بالسلوك. فنحن جئنا من عالم معتاد على الفوضى وتجاهل النظام والقانون وحقوق الآخرين. نتصرف من هذا المنطلق في محيط مختلف قائم على احترام النظام والقانون والآداب العامة وحقوق الآخرين. وبتصرفنا هكذا نزعج مضيفينا ونثيرهم ضدنا. أبسط مثال على ذلك، قيام بعضنا بقتل بناتهم أو ضربهن ضربا شديدا أو اضطهادهن لوقوعهن في حب أحد، ولو من ملتها.

أنا شخصيا احتجت لسنوات طويلة لأتأقلم على سلوك الغربيين. وما زلت أقع في كثير من الإساءات التي أرتكبها عفويا أو جهلا مني. ولكنني أصبحت أشارك هؤلاء القوم في انزعاجهم من سلوكياتنا. شعرت بهذا القرف في الأسبوع الماضي عند مراجعتي للعيادة الطبية المسجل لديها. كل أطبائها ومرضاها إنجليز. أنا العربي المسلم الوحيد بينهم. ولكن انضم إلي مؤخرا نفر من الآسيويين.

لهذه العيادة موقف مخصص لسيارات الأطباء والإسعاف. كلنا نعرف أنه موقف خاص فلا ندخله. والأطباء والإسعاف يحتاجونه لعملهم وخاصة للتحرك السريع عند الطوارئ. أنا أذهب بالبايسكل أو بالباص للعيادة. ودفعت غرامة كبيرة عندما جئت بسيارتي وتركتها في الشارع.

كنت جالسا في العيادة عندما رأيت نفرا من الآسيويين المسلمين يقتحمون الموقف الخاص، لا بسيارة واحدة وإنما بسيارتين؛ واحدة للمريض والأخرى للأصدقاء المشجعين! تركوا السيارتين في الموقف حتى انتهاء الفحص والمراجعة. سيلومني أحد إذا شعرت بالتقزز والتفتيش عن عيادة أخرى لا يوجد بين مراجعيها مسلمون آسيويون؟

هذه هي المشكلة السلوكية التي تجعل الغربيين يكرهوننا. والمطب هنا أن الإنجليز أيضا يتحملون مسؤوليتها. فأدبهم يمنعهم من تنبيه المقصر وتعليمه. »اسمع يا ولد، هذا مكان يحتاجه الأطباء والإسعاف لسياراتهم. و(يا غريب كن أديب)!». المغترب الآسيوي يأتي لأوروبا من دون أي أحد يوجهه ويعلمه. ويستقر ويتجنس من دون أي توجيه. ويستمر على سابق ما تعلمه من سلوك في وطنه الأصلي، ويجلب لنفسه ولقومه وملته الملامة ثم الكره ثم الاضطهاد. المفروض أنه بمرور الزمن يلاحظ كيف يسلك الآخرون ويتعلم منهم، عملا بالمثل اللاتيني: »في روما افعل ما يفعله الرومان!»، ولكن ذلك قلما يحصل. هذه هي الرسالة التي ينبغي أن يتلقاها المغترب المسلم من الوعاظ في المسجد، والمعلم في المدرسة، والموظف في سفارته.

الأدهى من كل ذلك، أن كثيرا من الدبلوماسيين العرب يقضون سنوات في الغربة ولا يتعلمون شيئا من سلوك الغرب، ويتصرفون كما لو كانوا في أحيائهم الشعبية في علاوي الحلة أو العجوزة، بل وأكثر من ذلك، يستغلون حصانتهم الدبلوماسية في تجاهلهم لكل الأنظمة والمتطلبات القانونية للبلد الذي يعملون فيه".

مصدر المقال.

نفتتحُ الإجابة على المسألة ونقول: لو كانَ الموضوع معلَّقًا بالسّلوك يا سيّدي، وبما سمّيتَه اعتياد الفوضى في محيطٍ لا يعرف النّظامَ والقانون ولا احترامَ الآخر وحقوقه؛ فما قولُك في الشرقيّين المسيحيّين القادمين من المحيط نفسِه والمعتادين هم أيضًا فوضى الشّرق؟! لماذا لا ينظرُ الغربُ والغربيّون إليهم ويعاملونهم كما ينظرون إلى المسلمين ويعاملونهم، ولا فرقَ بين هؤلاء وأولئك سوى اختلاف الدّين؟! لماذا يشعرُ الغربيُّ بالأمان مع شرقيٍّ مسيحيّ (أو حتّى لا دينيّ أو ملحد) ولا يشعر بذلك مع مسلمٍ أيًّا كان؟! إنَّ الإجابة على هذه الأسئلة تنسفُ نظريّتك القائمة على أنّ سلوك الأوروبيّين تجاه المسلمين اليوم هو نتيجةٌ لسلوك المسلمين (بسبب تنشئتهم)! فالواقع يثبت العكس.

راحَ الكاتبُ في مسألةٍ أخرى يشطح بعيدًا عن الواقع، ويلقي اللومَ بطريقةٍ غير مباشرة على الدّول الغربيّة التي تستقبلُ المهاجرين إليها "دون أيّ توجيهٍ أو تعليم"!! يا للعجب العجاب، هل سمعتم هذا الكلام؟! هل يُمكن أن ينطقَ بهذا رجلٌ يعيش في دولةٍ أوروبيّة منذ سنوات؟! أين تعيش يا عزيزي خالد، أفي بريطانيا أم في بلاد الواق واق؟! منذ أن تطأ قدما مهاجرٍ هذه البلاد فإنّهم يدفعونه دفعًا إلى مدارس "الغرباء" لتعلّم لغتهم وثقافتهم وحضارتهم وقوانينهم! والغريبُ المهاجر قد يشترك بدرسٍ أو اثنين ثُمَّ يتهرّب من التعليم فالعملُ "بالأسود" (بدون دفع الضّرائب) أهمُّ بكثير من صرفِ الوقت في مثل تفاهات الغربيّين هذه. لا بل ينتهزُ هذا الغريبُ الفرصَ للتحايل على القانون واللعب بالأنظمة، وهو يُدرك تمامًا ماذا يفعل! ولو لم يدرك هذا فكيفَ يلجأ إلى ابتكار كل تلك الحيل ومن أشهرها عدم ارتباط زوجين بعقدِ زواج للحصول على راتبين منفصلين، إخراج الأولاد من المنزل بعد بلوغهم الثّامنة عشر (على الورق فقط) للحصول على راتبٍ إضافيٍّ، العمل دون تسجيل أي دون دفع الضّرائب بالرّغم من حصول هذا العامل على راتب الضّمان الاجتماعيّ ومساعدات المؤسّسات!!

تحاول الأنظمة المتحضّرة مساعدة الغرباء على التعلّم والتأقلم في بلدهم الجديد بكلّ وسيلةٍ وأسلوب، حتّى أنَّ دولةً مثل السّويد تدفع لمواطنها سواء أسويديًّا أصيلاً كان أم غريبًا متجنّسًا راتبًا شهريًّا لقاء الدّراسة والتعليم. وبرغم كلّ ما تفعله هذه الدّول في سبيل تنمية الغرباء نجدُ كاتبًا كخالدٍ صاحب المقال يقول بكلّ وقاحة "المغترب الآسيوي يأتي لأوروبا من دون أي أحد يوجهه ويعلمه. ويستقر ويتجنس من دون أي توجيه". فيا للأسف، يا للأسف الشّديد!

ويلجأ الكاتبُ أيضًا إلى أفكارٍ غريبةٍ عجيبةٍ لربّما جاءَ بها من بلاد العجائب التي زارتها أليس، فيذكر لنا أنَّ أدبَ الأوروبيّين (يذكر الإنجليز مثالاً) يمنعهم عن "تنبيه المقصِّر وتعليمه". ويغفل أنَّ القانون في بريطانيا وغيرها فوق كلّ أدبٍ ولطفٍ ومجاملة. فإن أخطأ بريطانيٌّ أو مهاجرٌ يحمل الجنسيّة البريطانيّة فلا بُدَّ من أن يتحمّلَ نتيجة خطأه مهما كان! المثال الذي طرحه السيّد خالد هو قيام بعضِ الآسيويّين المسلمين بشغلِ موقفٍ خاصٍّ بسيّارتين اثنين دون أن ينبّههم أحد أو يتعرّض لهم بكلمة تعليم أو تأديب! يا الله! وأين القانون يا سيّدي الكريم؟! فلو مرَّ شرطيُّ سير في ذلك المكان لوضعَ مخالفةً على زجاج السيّارة تكفلُ أن تلقّن هؤلاء درسًا لن ينسوه أبدًا. والأوروبيُّ وخاصّة الألمانيّ لا يخجل من تنبيه الذين يخالفون الأنظمة عيانًا عن قصدٍ أو غير قصد، وأذكرُ أنّي في زيارتي مدينة شتوتجارت الألمانيّة منذ ثمانية أعوام (وكانت المرّة الأولى لي في أوروبّا) وقفتُ مرّةً مع جمع الواقفين على الرّصيف بانتظار لون الإشارة الأخضر، وبعدَ أن خلا الشّارعُ من السيّارات عبرتُ لمللي من الانتظار، فأشارَ لي البعضُ في الطّرف المقابل بسبّاباتهم مبدين استياءَهم ممّا فعلتُ، وسمعتُ بضع كلمات ألمانيّة تنمّ عن هذا الاستياء! وثمّة أمثلة عديدة تبيّن أنَّ الأوروبّي فردًا وجماعاتٍ ومؤسّسات يبذل الكثير في سبيل التوجيه والتعليم والإرشاد لكافّة المواطنين وخصوصًا المهاجرين الجدد، فكن منصفًا بحقّ من آواكَ يا سيّدي الكاتب النحرير!!
.
.