السبت، أبريل 25، 2009

بَعثرة بَشَر!

الاثنين 29 أيلول 2008 (دمشق)
.
كانَ شوقي يدفعُني إلى الإسراعِ إليه... إلى رؤيته والعبث بما يحتويه! سرتُ نحوَ جسرِ الرّئيس في العاصمةِ السوريّة لغايةٍ واحدةٍ فقط: رؤية المئات والآلاف من الكتبِ المتناثرة على الأرصفةِ والزّوايا الممتدّة بين الأعمدة. جلتُ بينها ولمحتُ سلسلةً أجهدُ في اقتناءِ أعدادها كانت تصدر من العاصمة الكويتيّة تحت اسم "المسرح العالميّ"، واليوم آلت إلى "إبداعات عالميّة" لتشملَ، إضافةً إلى المسرح، سائر الفنون الأدبيّة من شعرٍ وقصّةٍ ورواية... إلخ. اتّفقتُ مع البائع على شراء كافّة الأعداد الموجودة لديه، فرضي بخمسٍ وعشرين ليرة ثمناً للعدد الواحد. بلغتْ الأربعينَ فدفعتُ إليه ورقةً ماليّةً واحدة من فئة الألف! عجّلتُ في السّير بهذا الحملِ الثّقيل معنىً ومبنىً، وعندَ وصولي إلى صفّ المكتبات في الحلبوني، والكتب ترزحُ فوقَ الكتفِ الأيمن، وإذ بصديقٍ أعرفُه يمرّ بقربي فبادرتُه:
- أهذا أنت؟! أينَ كنتَ يا رجل؟!
- أهلاً أهلاً يا للمصادفة! لو تمنّينا اللقاءَ لما كانَ بهذا الشّكل!
- ألم تغادرْ البلدَ بعد؟
- اليومَ عصراً أسافر فبعد أسبوعٍ تبتدئ الدّروس.
- أنا جائع وأبحثُ عن مطعمٍ صغير أملأ فيه هذه المعدة الخاوية، هل تأكل معي؟!
- لا، اعذرني أرجوك فأنا صائم.
- أنا آسف... نسيتُ أنّنا في شهرِ الصّيام، حسناً ما دمتُ معك فلأبقَ صائماً!
.
أخذنا الطّريقَ في اتّجاه مؤسّسة البريد تاركين الحجازَ إلى الخلف وعرّجنا خلالَ أحاديثِنا الكثيرة السّريعة على "البونيّ" الذي اشتهرَ في التراث الإسلامي بالكتابة عن المعرفة والحكمة والسّحر، وأخبرتُه أنّي تعبتُ من البحث عن كتابِه "منبع أصولِ الحكمة" في القاهرة ولم أعثرْ عليه إلا في مكتبةٍ صغيرة بقرب "دار المعارف" المصريّة. أجابني: يا رجل هذا من أشهر الكتب في هذا الحقل وهو موجودٌ بكثرة في دمشقَ، لماذا لم تسألني؟ لم أكن أعرفُ ذلك فقد أُخبرتُ في العاصمة المصريّة أنّه من الكتب الممنوعة، واقتناؤه قد يعرّضني للسّجن، وبرغم ذلك حملتُ منهُ معي نسختين.
.
وصلنا أخيراً مكتبة "النوري" وسألتُ أحد الباعة فيها عن مؤلّفات الأديبِ اللبنانيّ الكبير ميخائيل نعيمة. قادني إلى مجموعة مطبوعة في "دار العلم للملايين" تضمُّ كافّة كتاباته بما فيها الرسائل وسيرته التي كتبها عندَ بلوغه السّبعين من العمر وسمّاها حينئذٍ "سبعون". بلغَ ثمنُها سبعة آلاف وثمانمئة ليرة سوريّة وهو ثمنٌ زهيدٌ جداً أمام قيمة المجموعة الكاملة. قلتُ للبائع: سأرسلُ إليكَ صديقاً يشتريها من أجلي إذ لا قدرة عندي بعد على حملِها بمجلّداتها التسعة. وقبلَ أن أخرج اشتريتُ كتابين أحدهما في علم الأديان المقارنة لعالمٍ ألمانيّ لا يحضرني اسمُه السّاعة، والآخر في علم التأويل وهو الترجمة العربيّة للهيرمينوطيقا يدورُ حول تاريخ هذا العلم الحديث والبحث في أهمّ أعلامه.
.
عندَ الباب ودّعتُ صديقي الدّومانيّ على أملِ لقاءٍ قريب في مثوى الدّراسة روما. أسرعتُ من هناك إلى مكتبٍ للشّحن أرسلتُ منه الكتبَ الأربعين التي هدّت منكبيَّ، ثمَّ أخذتُ طريق العودة إلى نزلي في حيّ القصور، حيثُ أكلتُ على عجلٍ وأصرَّ صديقي على أن يقلّني بسيّارته! كانَ جراجُ حرستا على عتبةِ ثورةٍ بشريّة فقد غصَّ بكلِّ شكلٍ ولون. اعتقدَ المسلمون أنَّ العيدَ يقع في يوم الغد فقد سبقتْ المملكة السعوديّة إلى الإعلان عن ظهور القمر، ولهذا غادرَ دمشقَ كلُّ غريبٍ وعابرُ طريقٍ بمن فيهم الطلبة والعساكر وأولئك الذين رغبوا في قضاء العيد بالقربِ من عوائلهم وأقربائهم في المدن والمحافظات الأخرى.
.
هرعتُ بدوري إلى المكاتبِ أبحثُ عن شاغرٍ في حافلة مسافرة إلى المنطقة الشرقيّة، لكن عبثاً بحثتُ، فقرّرتُ السّفرَ أوّلاً إلى حلب خوفاً من التخلّف والبقاء في العاصمة طوالَ أيّام العيد. بعدَ عناءٍ ومزاحمةٍ وتدافع بين العشرات عثرتُ على مكانٍ بعدَ ثلاث ساعات كانَ عليّ أن أقضيها بين هذا الرّكام جالساً أو سائراً أو متأمّلاً! جلستُ على مقعدٍ خشبيّ وقرأتُ قليلاً في رواية الماغوط "الأرجوحة"، ثمَّ دوّنتُ بضعة مشاهد مرّت في فكري وأمام بصري، وتكلّمتُ عبر الهاتف مع عددٍ من الأصدقاء، والوقتُ لا يمضي أو لا يُريدُ ذلك! التفاتة هنا وهناك تحدّثك عن العساكرِ بثيابِهم الخاكيّة وشعور رؤوسهم المحلوقة، والرّجال والنّساء والأطفال مبعثرون بانتظار أوقات الرّحيل، والذّبابُ المسافرُ هو الآخر عبر الأثير يتواثبُ على الوجوه والأجسادِ والقمامة! تتداخلُ اللهجاتُ والأصواتُ ثمَّ تختلطُ، وتغيبُ الأشياءَُ في عتمة الانتظار. طالَ المكوثُ فقمتُ وتبوّلتُ بخمس عشرة ليرةٍ سوريّة... وبعدَ ساعةٍ بالضّبط كرّرتُ ذلك ودفعتُ الليرات كالسّابق. أن تتبوّل في هذا الوطن الكبير عليكَ أن تدفعَ من مالِك... وأن تتغوّطَ عليكَ أن تدفعَ من جيبِك، وأن تمشيَ وأن تتنفّسَ عليكَ أن تدفعَ وجيبُك يخلو وكروشهم تُحشى! ضرائبُ الحياةِ في ازديادٍ مطّرد وفقرُ التّعساء في ازديادٍ مطّرد وكلُّ شيءٍ في ازدياد إلا الكرامة والشّرف في وطنٍ ضاقَ بأبنائه!
.
عُدتُ إلى جلستي المعهودة على مقعدٍ خشبيٍّ تلوّنَ بفعل الظّروف والبشر. وما أن حملتُ القلمَ من جديد حتّى عاودت تلك الرّؤوس حركتها فاشرأبّت الأعناقُ واتّسعت الأحداقُ بفضولٍ تنظرُ هذا الغريبَ الذي يكتبُ شيئاً ما! أن تكتبَ فأنت غريبٌ... أن تفكّرَ فأنت غريبٌ... والغرباءُ في وطني يتناقصون ويتضاءلونَ والأمكنة تضيقُ باحتوائهم، وأهلُ البيتِ يزدادونَ بغير حساب!
.
أصنافٌ من البشر تزدردُ الطّريقَ الممتدّة بين المكاتب وإن تجرّأتَ على دخولِ أحدها، فما عليك إلا المقامرة والمغامرة بأن تلقي جسدَك وحمله بين الصّفوف المتراصّة المتدافعة، فتنهالُ اللكماتُ والرّفساتُ... وأيادٍ تلعبُ بالمؤخّرات والجيوب الفارغة، ومسافرون يصيحونَ وأسماء المدن تتناقل بين المسامع بينما يصمتُ الموظّفون أمام السّائلين، وانتظارٌ ولا إجابة! أرجوكِ... يا آنسة أرجوكِ... مكاناً واحداً فقط إلى حمصَ... إلى حماةَ... إلى حلبَ... إلى دير الزّور!!! وأخيراً ينهالُ الغيثُ فتكسرُ موظّفةٌ حاجزَ الصّمت قائلةً: شاغرٌ واحد فقط إلى الميادين! فينفجرُ البركانُ و"هاتِه" تأتيها من كلِّ حدبٍ وصوب! تهتزُّ الأيادي في الهواء تحملُ البطاقات الشخصيّة وتتساقطُ النّقودُ على الأرض فتغيبُ بين الأقدام. السّائلون يصيحون والموظّفاتُ يصمتنَ. وفتاةٌ تجلسُ مشمأزّة بقميصٍ يضيقُ بصدرِها فتنشدُّ أطرافُه وتختنقُ الأزرار أمام تدافع نهديها الكبيرين المثيرين! بينما يصيحُ لونُ حمّالة ثديَيها تحت قماشٍ شفّافٍ: أسود! أسود! أسود!
.
ضأضاءٌ يرتفعُ وصمتٌ ينخفضُ لا بل ينكسرُ، وموسيقى بلديّة مشوّهة تشنّف الآذان والجموع تتزاحمُ والأرصفةُ تضيقُ والأماكنُ يحتجزها الواقفون والجالسون والمقرفصون والنّائمون... أفواهٌ تدخّنُ وأخرى تعلكُ وتمضغُ طعاماً وتشربُ شيئاً فتصعدُ الحناجرُ عندَ كلّ لقمةٍ وتهبط! حاويةُ قمامة مرميّة في وسط الطّريق وقذاراتها متناثرةٌ تحت يديها ورجليها، وأكياسٌ مملوءة وأخرى فارغة ومناديل ملوّثة بالمخاط والبصاق والدّماء وأحمر الشّفاه مدعوسةٌ بين الإسفلت والإسفلت! وأعقابُ السّجائر المرميّة المسطّحة تحت النّعال تبكي ذاك الماضي التليد بين الشّفاه، كما يبكي العربُ حضارةً لم تكن يوماً! فتياتٌ تروحُ وتجيء بأردافٍ تهتزٌّ مخنوقة وخدودٍ ترتجفُ بخجلٍ وبينهنّ كاعبٌ ناهدٌ تفترسها النّظرات من القدمين فالركبتين فما بين الفخذين حتّى النّهدين فالعنق فالشّفاه فالعينين، ثمَّ تعيد الكرّةَ نزولاً وصعوداً حتى تغيب عن البصر! فأمّا السّماء فمزرقّةٌ تتخلّلها غيومٌ تسيرُ ببطءٍ وتتحوّلُ من شكلٍ إلى آخر ساخرةً بأبناء البشر ورؤوسهم الفارغة من العقول المحشيّة بالنفايات وما تبقّى من رماد الغلاء!
.
وأنا مثلي مثل المئات أحلمُ بالمنزلِ حيث الدّفء والطّعام، هناك حيث لا جوع ولا عطش إلا في أيّام الرّقابة العمياء والسّرقات والفساد واللصوصيّة والسّطوة على كلّ شيء بما فيها العقول والأفكار والأقلام. تعبتُ مثلما تعبَ الكثيرون من الرّواح والمجيء وشتمتُ مثلهم آلاف المرّات ولعنتُ آلهة الوطن ومعابده المقفلة في حجرات القصور، وبصقَ العساكرُ لعابهم الأصفر بفضلِ أسنانٍ لوّثها الدّخانُ وامتزجتْ بها الأميّة العمياء! وراحَ الشبّانُ يلاحقونَ الأردافَ المهتزّة إلى اليمين فالشّمال أو الأمام والوراء، لا فرقَ في الاهتزاز إلا الشهوة والاتّجاه! وبينما راحوا يلاحقونها رحتُ أبحثُ عن مثوى ألقي فيه ما تبقّى مني من السّباب وحبّات العرق وأنفاسٍ تخيبُ عندَ كلّ مرأى. هناك إلى جانبِ شبّان من عرب الميادين وألبوكمال جلستُ، وأسمرٌ بقربي سحبَ سيجارةً من علبة "الحمراء" وانتظرَ، لا أدري ماذا انتظر! حتّى طلبتُ منه واحدةً فقالَ: لا ولاعة عندي. أخرجتُ ولاعتي وأشعلتُ لفافته ثمَّ لفافتي وصَمَتْنا حتى اكتمال الموعد!

السبت، أبريل 18، 2009

قراءة موجزة في أدب سيمون جرجي

كتبها النّاقد والأستاذ إيليّا
.
يتّسم أدب سيمون جرجي عامة بالحيوية والنشاط، وهما صفتان اكتسبهما غالباً من شخصيته التي تتمتع بهما حقاً. فهو أبداً في حلّ وترحال. يتنقل بين البلدان والقارات بخفة لا تعرف التعبَ. يعاين الأحداث في هذه البلدان، ويستجلي ظواهرها الفكرية والاجتماعية، ويصور للقارئ معالمها البارزة بريشةٍ فنان صنّاع.
.
ولأدبه مضامين فكرية ونفسية متعدّدة يمكنُ حصرها في النقاط التالية:
1- البوح بالمشاعر الذاتية، ومناجاة الروح بأسلوب شعري جميل مؤثر
2- التغني بحب الوطن، والأم ..
3- بث الشجون التي تولدها الغربة في نفسه، والشكوى من العسر المادي وضيق ذات اليد
4- تصوير مشاهد ومعالم ومواقف وشخصيات من البلدان التي يزورها الكاتب المولع بالرحلات، مع بيان آثارها في عقله ووجدانه
5- وصف شغفه بالكتب، والمكتبات
6- النظرة العميقة إلى الحياة والموت وما يتأرجح بينهما من الأفكار الفلسفية ذات الطابع اللاهوتي
كما يتضمن أشياءَ أخرى، منها ما هو طريف ممتع من مثل ميله إلى الأطعمة وعنايته بوصفها، وبوصف إقباله عليها وتذوقه لها، حتى ليذكرنا ببعض شخصيات الجاحظ المولعة بالمآكل. وقد استلفت نظرنا هذا الميل من الكاتب إلى الأطعمة والأشربة، فآثرنا أن نشير إليها حيثما وردت في تدويناته، لما فيها من الظرف والطرافة:
.
نقرأ في تدوينته الأخيرة "الجزار الأفريقي" -وهو عنوان استعاره الكاتب لنهر النيل، ولم يكن مع الأسف موفقاً فيه؛ لأن النيل كما هو معروف واهب للحياة، وليس كالجزار يقبض عليها للذبح - ما يلي:
"قرّرنا الخروجَ هذا المساء ونبذ اعتزالنا المنزليّ، فطرحَ صديقي مشروعَ العشاء على الطاولة وتلقّفته أيادينا وأعملنا فيه المشاورة بين أن نتعشّى هنا ونخرج، أم نتناوله خلال الطّريق! رجّحت الأصوات عشاءَ الطّريق، فاستعجلنا الترتيب والتوضيبَ وهرعنا إلى الخارج كطيرٍ أقامَ في قفصٍ أعواماً طوالا.."
.
ثم يتابع قائلاً:
"... بالقربِ من حيّنا الغمراويّ دخلنا مطعم "كوك دور" الذي اشتهرَ في مصر بوجباته السّريعة، وطلبنا صندويتشاً، وكانت حصّتي واحدة محشيّة بصدرِ دجاجٍ مشويّ. حملنا هذا الغداء وبلغنا به كورنيش النّيل ..".
.
وفي تدوينة "مجمع الأديان" ما يماثل هذا النهم إلى الطعام:
"كانَ الفطورُ دسماً هذه المرّة فقد ازدردتُ بيضتين و"عيشاً" (خبزاً) مصريّاً مع كأسٍ من الشّاي الثّقيل وتراوحت ملحقاتُ هذا الصَّبوح بين الجبنةِ واللبنةِ..".
.
وحين يكتب إلى صديقته رداً على رسالتها المنتظرة، لا يفوته أن يستمد من المائدة عناصر فكرته فيقول:
"ما يزالُ عندي وقتٌ طويل فحدّثتُ نفسي ودعوتُها إلى مائدة من موائد الأدبِ الرّوائي المصريّ ..".
.
وفيها أيضاً هذا الوصف المسهب الفكه للمأكل والمشرب، ولإحساس الكاتب بهما. وهو إحساس يكاد يقترب من إحساسه حين تبصر عينه إحدى المكتبات:
"سألتُ صديقي الذي أُلازم مسكنه عن الغداء فقال لي: "كُشَري"، ستأكل اليومَ طعاماً لذيذاً وستدعو لي من بعدها. خرجَ على أثرها وعادَ بعد قليل حاملاً الكشري الموعود وبضعة أقراص من الطعميّة وعلبتين من اللبن الزّبادي. نزلتُ إلى الميدان بكامل لباسي العسكريّ فمزّقتُ الصّحون والأقداح وجعلتُ منها عبرة لمن اعتبر ..".
.
وجاء في موضع آخر هذا الحديث العجيب الذي يشبه حديث النساء أو الطهاة:
"دخلنا هذا المركز التجاريّ العملاق وسارعنا إلى سوقِه حيث المؤونة والغذاء، وحملنا معنا ما يكفينا أسبوعاً وكانَ بينها باذنجان أبيض أراه لأوّل مرّة أخذناه لنصنعَ منه مع الكوسا والبندورة والفليفلة طعاماً نسمّيه "دولما" وهو "المحشيّ" عند البعض الآخر. بعدَ جولةٍ أخرى من التسوّق في هذا "المول" جلسنا في أحد مقاهيه وطلبتُ كأساً من الشوكولا المثلّجة، بينما اشتهى صديقي كأساً من الشّاي... عُدنا إلى البيت واقتصر العشاءُ على بقايا الغداء وملحقات السفرة الأخرى".
.
وفي تدوينته "في روما" سنقرأ حبه للأكل أيضاً ولكن في إطار شاكٍ حزين:
"ليس في جيبي إلا القليل القليل، بضع قطعٍ نقديّة معدنيّة تبلغُ 7 إِوْرو و67 سنتاً تمكّنني من الحصول على وجبة ونصف في مطاعم المَكْدونالدز الشّهيرة! غداً سيصلُ صديقي من بلدتي مُحَمَّلاً بوصيّتي الأخيرة التي تركتُها على الهاتف عندما جمعني بأمّي الحبيبة. سيحملُ لي كتباً وطعاماً ونقودا.. ".
.
ولن ينسى كاتبنا وهو يستعد للرحيل في تدوينته "في جنوب بلاد الغال" أن يتناول طعامه. فإن تناوله للطعام، طقس مقدس لا بُدَّ من ممارسته قبل الرحيل:
"غادرتُ بلدتي الحبيبة صباحَ الأربعاء في الثلاثين من الشّهرِ الماضي تمّوز لتناول الغداءَ في حلب والاستعداد للرّحيل .. ".
.
هذه بعضُ صورٍ للأطعمة رسمها لنا الكاتب في تدويناته بريشة متشهية. وجاءت لترسم في مخيلة القارئ ملامح كاتبٍ له ولعٌ خاص بالأطعمة والأشربة، ولتضعَه وجهاً لوجهٍ أمام رجل بطين، ضخم، ثقيل الحركة، تجحظ عيناه كلما وقعتا على صنفٍ يلذُّه منها. وهو في الواقع ليس كذلك...

الأربعاء، أبريل 15، 2009

مواطن غليظ

ها قد مضت عدّة أسابيع على اتخاذي قرار الالتزام بهذه المدونة الفتيّة، وكنتُ قد قطعتُ على نفسي عهداً بأن أقدّم مادةً فيها كلّ أسبوع على الأقل. من الواضح أنّي لم أستطع الوفاء بعهدي، إلا بنشر مقالة يتيمة كتبتُها منذ زمن بعيد جداً، والسبب بكلّ بساطة يعود إلى شحّ "المواد الأوّلية" للكتابة.
.
الموادّ الأوّلية اللازمة للكاتب، وأعني طبعاً الكاتب اللي متل حكايتي، الذي ليسَ لديه من الأبحاث والمعارف المفيدة إلا الشيء القليل، يحتاجُ إلى موادّ أولية يقوم بصياغتها ووضعها في قالبٍ ما، حتى تصبح صالحةً للعرض أمام القارئ. وتتمثّل المواد الأوليّة في مواقفَ يجدُ الكاتبُ نفسه متورّطاً فيها، وأحداثٍ يمرّ بها، وشخصيات يقابلها ويخوض معها في أحاديث وحوارات ونقاشات.
.
مرّت الأسابيع الماضية بأيّامها ولياليها، ويا للأسف الشديد، لم أتورّط خلالها في مواقفَ صعبة، ولم أمرّ بأحداث مثيرة، ولم أقابل أشخاصاً مهمّين لأخوض معهم في أحاديث تتناسب ودرجة أهميّتهم، واقتصرت مشاهداتي على نماذج من "المواطن الغليظ"، فاخترتها لتكون موضوع هذا اليوم باعتباري لم ألتقِ بغيرها.
.
ما الذي يجعلنا نلصق بمواطنٍ ما تهمة "الغلاظة"؟ أو بالأحرى ما هو التعريف الدقيق للمواطن الغليظ؟
.
باختصار، المواطن الغليظ هو ذاك القادر على تسويد عيشتك، وتسكير الأبواب المفتّحة في وجهك. وهو المخلوق الوحيد الذي يخرّب عليك سعادتك دون أن ينكشَه ضميرُه نكشة عذاب، لأنّه بكلّ بساطة غليظ!! ولا يوجد أيّ نصّ في القوانين والشرائع والأديان يجيز محاسبة الغليظين على غلاظتهم، كما أنّ الغليظ معذورٌ -ما بيتآخذ-، فهذه طبيعته التي لا يستطيع تغييرها.
.
والغليظون يُصنَّفون في أنواع وأنماط حسب درجة الضرر، فهناك الغليظ المحمول (القابل للتحمّل) من قبل الأشخاص غير الانفعاليين، وهناك الغليظ المتحوّل الذي يتحوّل من غليظ إلى قليل تهذيب أو من غليظ إلى حرامي أو نذل، أو من غليظ إلى نكبة أوعقبة أوعثرة أوإعاقة أو... وإليكم بعض الأمثلة:
.
تخيّل مواطنة زميلة لك في مكان عملك الذي لا تحبّه، ولا ينتابك الانبساط والانشراح عندما تدخله، تستقبلك صباحاً بوجه (مجلغم)، وأسنان ملوّثة بأحمر الشفاه كشفَتْها لك ضحكتُها البلهاء، فتردّ تحيّتها بانقباض وأنت تجلسُ على طاولتك وتبحث عن فنجانك (أبو أذن) المطبوعة عليه رسوماتك الكرتونية المفضّلة، تسألها عنه وتصفُ لها شخصيات الكرتون في محاولةٍ منك لإفهامها أنّ هذا الفنجان خاصّ بك ويعبّر عنك، فتتسعُ ضحكتها البلهاء إياها وتجيبك بأنّها "استعارته مؤقّتاً" لتضع فيه أقلامها الجافّة التي لم تستخدمها منذ سنة!! فتتحمّل وتستوعب الأمر باعتبار أنّ فنجانك ليس من ذهب ولا أهميّة قصوى لوجوده معك، وتستطيع –ولو على مضض- أن تستخدم سواه (غليظة محمولة). إلا أنّ رحابة صدرك ربّما لن يكتب لها الاستمرار عندما يصدح كومبيوتر زميلتك المواطنة الغليظة من صباحية ربّنا بأغاني الكراجات والسرافيس والملاهي الليلية، عندها فقط ستبدأ بالشعور بالغضب، وتستمرّ بالغضب تصاعدياً عندما تندمج الغليظة مع الموسيقا وتسترسلُ بالغناء بصوت... يشبه صوت احتكاك الأظافر بالحائط، وكلّ الأغاني تخرج من فمها بنغمٍ واحد، ولو مرّت صدفةً غنيّة حلوة وعزيزة عليك فلا تفرح، إذ أنّ زميلتك الغليظة موجودة لتفسدَ عليك متعة الاستماع، فتضارب على المغنّي بصوتها! (غليظة متحوّلة إلى قليلة تهذيب).
.
مثال آخر... تخيّل مواطناً مساوياً لك في الحقوق والواجبات والجوهر، دفعتك ظروف بالغة التعقيد للقائه والتعرّف عليه، حتى تقع في "غلاظته" من أوّل نظرة ومن أوّل سلام ومن أوّل موعد...
يسألك المواطن عن اسمك، تجيبه بلطفٍ بالغ: اسمي فلان... وبإمكانك أن تناديني كذا... وأحبّ أن تناديني كذا... لأنّ أصدقائي المقرّبين ينادونني كذا (طريقة ذكيّة جداً لجعل الطرف الآخر مرتاحاً في حديثه معك، فأنت تريده أن يناديك كما يناديك المقرّبون، وهذا يعني أنّك لا تمانع أن يصبح واحداً من هؤلاء المقرّبين). لكنّ المواطن ويا للأسف... غليظ!! غليظ إلى درجة أنّه يضحك نفس ضحكة زميلتك الغليظة إياها (سبحان الله... أشياء كثيرة مشتركة بين أفراد الصنف الواحد) وهو يقول: بتعرف... أنا شفت فيلم بزماني بيحكي عن قرد اسمو على اسمك... هاهاهاهاها.... يستغرق المواطن الغليظ في قهقهة شديدة البلاهة دون أن ينتبه إلى تعابيرك التي تنضح استياءً! وكيف له أن ينتبه وهو غليظ من أرفع طراز؟ سمعت بحياتك عن جمل قدر بيوم يشوف حردبته؟
وفي موقف آخر يخاطبك المواطن الغليظ قائلاً: تذكّرني تصرفاتك هذه بتصرّفاتي عندما كنت صغيراً مثلك!!! فتذكّره وبتهذيب أنّك لست صغيراً، فيجيبك الغليظ: لا أعني صغر السنّ... بل العقل!!!
.
غلاظة المواطن في هذا الوضع تختلف عن الغلاظات الأخرى، ولعلّها أشدّ أنواع الغلاظة فتكاً وتدميراً، فالغليظ من هذا النوع قادر على إيذائك وجرحك في الصميم بمجرّد قراءة تعاويذ غلاظته على رأسك، كما أنّه يحسن اختيار الأوقات الملائمة لتطبيق غلاظته حتى يحقق أكبر قدرٍ من الخسائر بضربة واحدة: فعندما تكون معنوياتك مرتفعة في وقتٍ ما، الغليظ كفيل بتسويتها بالأرض، وعندما تكون بأمسّ الحاجة إلى وجود صديق –بالمعنى الصحيح للصديق-، يفعل الغليظ المستحيل حتى يُشعرك بأنّك وحيد منبوذ وعديم القيمة كأرملة وحدانية!
.
من المؤسف أن نجد أنفسنا مضطرين إلى التعامل مع النماذج الغليظة يومياً وفي كلّ الأوضاع والمجالات. عندما تخرج صباحاً إلى العمل فستجد الغليظ ينتظرك كيفما تحرّكت، في الشوارع وفي المواصلات وحتى في سيارتك الخاصة... فالسائق الغليظ الذي يكسر عليك ويشتمك ويهدّدك، والسائق الغليظ الذي يقشطك فوق العدّاد شي مية ليرة، والسائق الغليظ الذي يحاول أن يدعسك وأنت تعبر الشارع، وعمّو الشرطي الغليظ الذي يترقّبك ويتعقّبك لا خوفاً عليك ولا حبّاً بالنظام... فَشَر! فهو يتمنّى في قرارة نفسه أن يكون حزامك مفكوكاً (الأمان طبعاً)، أو تخالف الإشارة وتهرس كام زلمة بطريقك، لا بل يتمنّى أن تفوت بشي حيط لينال اللي فيه النصيب!
.
تصول وتجول في دوائر الدولة لأنَّ عندك معاملة رسمية بدها "ملاحقة" (لا يستخدم هذا التعبير أحدٌ في العالم سوانا)، فيصفّر مؤشّر الغلاظة وبيضوّي أحمر، لأنّك ستجد أغلظ خليقته تعالى بانتظارك، معقّب معاملات على الباب: بمشّيلك ياها أستاز، نحنا بخدامة الطيبين أستاز... وموظّف: اتركها وغطّلك غطّة لبكرا... بس اليوم خميس... إيه غطّ للأحد!!! وموظّف ثانٍ: هي بدها ختم الديوان، وموظّف الديوان خالتو مرت أبوه عطتك عمرها وآخد إجازة، راحت معك للأسبوع الجاية!
.
في مدارسنا وجامعاتنا تجدُ الغلاظة: عندما يدخل الدكتور القاعة ليلقي المحاضرة، وهو يعلم تمام العلم أنْ ليس له هناك مستمعون، ولا مريدون، ولا مستقيظون، وليسَ هناك سوى متمتمين: إيه اللَّعية اللي تلعي قلبك يا دكتور شو قليل وجدان وقليل قدر! ويبقى مع علمه هذا مصرّاً على إلقاء المحاضرة، ومصرّاً على قول: حدا عندو سؤال؟؟؟!!! (لك مين بدّو يسألك بالله؟ هالنايم ولا هالشّارد ولا هالعشقان؟). كما ويصرّ بشدّة على إعطاء نسبة للحضور من المحصّلة النهائية، أفليسَ هذا قمّة البلاهة والجهالة و... الغلاظة؟!
.
حتى إعلامنا لم ينجُ من الغلاظة: برامج غليظة، أخبار غليظة، مذيعون غليظون يحاولون أن "يتهضمنوا" (لو يبقوا على غلاظتهم الطبيعية... مو أحلى؟)، مقابلات غليظة، إعلانات غليظة، مسلسلات مدبلجة غليظة... كلّها تجتمع لتنتج بالتالي مشاهدين غليظين، لأنو ما حدا بيتحمّل يشوف الغليظ إلا الغليظ اللي متلو.
.
السوريّون يا جماعة الخير شعبٌ يتميّز بغلاظة فريدة من نوعها، واسألوني ليش؟
.
كنت قد ذكرتُ سابقاً أنّ الغليظ المزبوط لا يعرف أنّه غليظ، بل يعتبر نفسه مهضوماً حلو النكتة، وكذلك الشعب السّوري: فهو يرى نفسه ظريفاً لطيفاً وخفيفاً، لا مشاكل لديه، ولا أزمات من أيّ نوع، لا أخلاقية ولا ثقافية ولا اجتماعية! وهنا الكارثة!
.
متى سيصحو هذا الشعب ويتنبّه إلى أنّه أضحى واحداً من أضخم مصدِّري الغلاظة في الشرق الأوسط والعالم؟

السبت، أبريل 11، 2009

تراتيل الجمعة الحزينة بصوتِ فيروز

يقولُ القدّيس والفيلسوف الشّهير أوغسطينوس "من رتّلَ صلّى مرّتين"! وكما نقلتُ إليكم تراتيل مطربتنا السّريانيّة فيروز في عيد الميلاد مع كلماتها وما جاءَ فيها، أنقلُ إليكم اليومَ مجموعة من أناشيدها في الجمعة الحزينة التي نمرُّ فيها بحسب التقويم الجريجوريانيّ، وهذه الأناشيد هي من تراث الكنيسة الملكيّة (البيزنطيّة). أرجو أن تستمتعوا بها!
.
استنيري
إنَّ الملاكَ تَفوَّه نحوَ المُنعَمِ عليها:
أيّتها العذراءُ النّقيّةُ افرحي،
وأيضاً أقولُ: افرحي
لأنَّ ابنَكِ قدْ قام مِنَ القَبرِ في اليومِ الثّالث.
استنيري استنيري يا أورَشَليمُ الجَديدة،
لأنَّ مجدَ الربِّ قدْ أشرقَ عليكِ.
افرحي الآن وتهلّلي أورَشَليم
وأنتِ يا نقيَّة يا والدةَ الإله
اطربي بقيامةِ ولدِك.
.
تعليق: يربطُ المرنّمُ الكنسيّ حدثَ القيامة بحدث البِشارة بشكلٍ فريد، عندما يجعل من الملاك المُبشّر بالتجسّد الإلهي رسولاً مبشّراً بقيامة الربِّ يسوع موجّهاً بشارته إلى مريمَ كما وردَ في مطلع إنجيل لوقا. ونجدُ في نصِّ هذه الترتيلة كلمة "افرحي" بدلاً من "السّلامُ عليكِ" لأنَّ الكلمة اليونانيّة تشيرُ إلى الفرحِ في موضع السّلام! هي مريم التي أَنعمَ الآبُ عليها واختارها لتكون أمّاً لابنه الوحيد وهي عذراء قبلَ الولادة وبعدها وهي أيضاً نقيّة لأنّها مُنعمٌ عليها محفوظة من كلِّ دنس! موضوعُ البِشارة كما قلنا هنا هو قيامة ابن مريم من بين الأموات، ولهذا يصلُ الكاتبُ بين القيامة فالمجد فالاستنارة، ويُخاطب أورشليمَ الجديدة، أي السّماويّة الرّوحيّة، ويقولُ لها استنيري وافرحي وتهلّلي لأنَّ الربَّ قامَ ومجده أشرقَ عليكِ.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
المسيح قامَ من بين الأموات
المسيحُ قامَ من بين الأموات،
ووطئ الموتَ بالموت،
ووهبَ الحياة
للذينَ في القبور.
,Χριστὸς ἀνέστη ἐκ νεκρῶν
,θανάτῳ θάνατον πατήσας
,καὶ τοῖς ἐν τοῖς μνήμασι
.ζωὴν χαρισάμενος
خْريسْتوس آنيستي إِك نِكرون،
ثاناتو ثاناتون باتيسَسْ،
كِه تيس إنْ تيسْ مْنيماسي،
زوين خاريسامينوسْ.
المسيحُ قامَ من بين الأموات،
ووطئ الموتَ بالموت،
ووهبَ الحياة
للذينَ في القبور.
هذا هوَ اليومُ الذي صنعَه الربّ
فلنفرحْ ولنتهلّلْ بهِ
المسيحُ قامَ من بين الأموات
ووطئ الموتَ بالموت
ووهبَ الحياة للذينَ في القبور.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
اليومَ عُلّق على خشبة
اليومَ عُلّقَ على خشبة الذي علّقَ الأرضَ على المياه،
إكليلٌ من شوكٍ وُضعَ على هامةِ ملكِ الملائكة،
برفيراً كاذباً تسربل الذي وشّح السّماءَ بالغيوم،
قبل لطمةً الذي أعتقَ آدمَ في الأردنّ،
ختنُ البيعة سُمّرَ بالمسامير،
وابنُ العذراءِ طُعنَ بحربةٍ.
نسجدُ لآلامِك أيّها المسيح (3)
فأرنا قيامتَك المجيدة.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
أنا الأمّ الحزينة
أنا الأمّ الحزينة وما مَن يُعزّيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
أمُّ يسوع قدْ بكتْ فأبكتْ ناظريها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
لهفي على أمّةٍ قتلتْ راعيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
ناحَ الحمامُ على تشتُّتِ أهليها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
عذارى أورَشَليم تبكي على بَنيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
تعالوا إلى مريم أمِّه نعزّيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
طُرُقُ أورَشَليم
طُرُقُ أورَشَليم نائحة لعددِ القادمين إلى الأعياد
وجميعُ أكواخِها متهدّمة كهنتها متنهّدون
وعذاراها متحسّرات وفي مرارةٍ
الربُّ صالحٌ للذين ينتظرونَه للنفسِ التي تلتَمِسُه
خيرٌ أن يُنتظرَ خلاصُ الربِّ بسكوتٍ
لأنَّ السيّدَ لا يُحصي إلى الأبدِ
فإنّه ولو أعدد يرحمُ بحسبِ كثرةِ رأفتِه
عيني تقطرُ ولا تسكتُ لأنَّه لا قرارَ لي
إلى أن يطلِعَ وينظُرَ الربُّ من السَّماء
دعوتُ باسمِك يا ربِّي اسمعْ صوتي
لا تحجبْ أذنَك عن استغاثتي
اقتربْ يومَ أَدعوك.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
قامت مريم
قامتْ مريم بنتُ داود إزاءَ العود
تندبُ ابنَها المصلوب بأيدي الجنود
رُمحُ الحُزنِ غائص في نفسِها
ومن آلامِه غابتْ عن حسِّها
ثمَّ أفاقت الوالدة
وصاحتْ آه يا ولداه
حبيبي حبيبي يا ولداه خاطبني
كيف أراك عريان ولا أبكيك يا ابني
أوجاعُكَ حرقتْ أكبادي
آلامُكَ خرقتْ فؤادي
أحياةٌ لوالدتِك يا ولداه بعدَ موتك؟!
يا أمَّ يسوع بنت الآب الأكرم
يا عروسَ الرّوح القدّوس الأعظم
أشركينا بآلام فادينا
زيّنينا بنعمة بارينا
لنخدمَكِ مديدَ الدّوام
على الأيّام والأيّام.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
كاملُ الأجيال
كاملُ الأجيالِ تُقرِّبُ التّسبيحَ لدفنِك يا مسيحي
حاملاتُ الطّيبِ أهدتْ لكَ الطّيوبَ بشوقٍ يا مسيحي
با ربيعي العذبَ يا بنيَّ الحلوَ أينَ اختفى جمالُك؟!
أيُّها الثّالوثُ الآبُ الابنُ الرّوحُ ارحمْ جميعَ العالم
كاملُ الأجيالِ تُقرِّبُ التّسبيحَ لدفنِك يا مسيحي.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
وا حبيبي
وا حبيبي وا حبيبي أيُّ حالٍ أنتَ فيه!
من رآكَ فشجاكَ أنتَ أنتَ المُفتدي
يا حبيبي أيَّ ذنبٍ حمّلَ العدلُ بنيه
فأزادوكَ جراحاً ليسَ فيها من شفاء
حينَ في البستانِ ليلاً سجدَ الفادي الإله
كانت الدّنيا تُصلّي للذي أغنى الصّلاة
شجرُ الزّيتونِ يبكي وتناديه الشّفاه
يا حبيبي كيفَ تمضي أترى ضاعَ الوفاء؟!
.
حمّل الترتيلة:
.
.
يا شعبي وصحبي
يا شَعبي وصَحبي أينَ عهدُ الإيمان؟!
أينَ الوفا بالحبّ والوداد والرّضوان؟!
كالقاتلِ والعدوّ دفعتموني للهوان
وما بينَ لصّين تركتموني عريان
يا مريمُ أمّي نحيبُك يزيدُ أدمعي
ارحميني واسكتي، اتركيني وارجعي
يا أبتاه لماذا تتركُني لوجعي؟!
خنقتْني الحسرات ومزّقتْ أضلعي.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
يا يسوع الحياة
,Η ζωή εν τάφω
κατετέθης, Χριστέ
,και αγγέλων στρατιαί εξεπλήττοντο
.συγκατάβασιν δοξάζουσαι την σήν
إي زويي إِن تافو
كاتيتيثيس، خْريستِه،
كِه أنجِلون سْتْراتيِّه إكْصِبليتونْتو،
سينجاتافاسين ذوكصازويسِه تينْ سينْ.
يا يسوعُ الحياة في قبرٍ وُضعتَ
فالجنودُ السَّماويّةُ انذهلتْ
كلُّها ومجَّدتْ تَنازُلَك
المسيحُ الحياة حينَ ذاقَ الممات
أعتقَ النّاسَ مِن الموت
ولقدْ منحَ الآن الحياةَ للجميع
فاضَ مِن جَنبِك كَمِن نبعٍ واحد
جدولٌ مضاعفٌ منهُ نستقي
مثمرٌ لنا الحياةَ الخالدة
نُعظِّمُك باستحقاقٍ يا مُعطي الحياة
يا من بسطَ يديه على الصَّليب
ساحقاً قُدرةَ سُلطانِ العدوّ
نعظِّمُك باستحقاق يا خالقَ العالم
فبِآلامِك نِلنا كلَّ شِفاء
ونَجونا كلُّنا مِن الفساد
حَبّةُ الحِنطة المُثنّاةُ ذاتُ الطَّبيعتين
زُرِعتْ بالعَبرات في حُضنِ الأرض
وسَتُفرعُ السُّرورَ للجميع
يا مُخلّصي إنَّ الشَّمسَ والقمرَ أَظلما معاً
وكعبدين أمينين التحفا حُللَ الليلِ الدَّجيّ الضّافية.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
- موقع للاستماع أو التحميل على شكل MP3:
.
- موقع آخر:

الأحد، أبريل 05، 2009

الجزّار الأفريقيّ

مساء الأحد 27 تموز 2008 (القاهرة)
.
قرّرنا الخروجَ هذا المساء ونبذ اعتزالنا المنزليّ، فطرحَ صديقي مشروعَ العشاء على الطاولة وتلقّفته أيادينا وأعملنا فيه المشاورة بين أن نتعشّى هنا ونخرج، أم نتناوله خلال الطّريق! رجّحت الأصوات عشاءَ الطّريق، فاستعجلنا الترتيب والتوضيبَ وهرعنا إلى الخارج كطيرٍ أقامَ في قفصٍ أعواماً طوال وبصر البابَ مفتوحاً!
.
بالقربِ من حيّنا الغمراويّ دخلنا مطعم "كوك دور" الذي اشتهرَ في مصر بوجباته السّريعة، وطلبنا صندويتشاً، وكانت حصّتي واحدة محشيّة بصدرِ دجاجٍ مشويّ. حملنا هذا الغداء وبلغنا به كورنيش النّيل حيث اقتربَ منّا أصحابُ المراكب يعرضونها علينا. بعدَ أخذٍ وردٍّ اتّفقنا مع واحدٍ منهم على استئجار مركبه بمئة جنيهٍ لمدّة ساعتين، وهي المدّة المسموح بها لبقاءِ مراكبِ الأجرة في النّيل بشكلٍ متواصل بحسب القوانين السّائدة.
.
لم أشهدْ نهراً عريضاً مخيفاً كما شهدتُ ذاك المساء. كان عريضاً كتنّين فغر فمه لابتلاع الفرسان الذين يسعون إلى امتطاء أذيالِه الطّويلة السوداء الدّاكنة بغير قرار. كان نهراً عميقاً يبعثُ الرّهبةَ في نفوس ركّابه، كغورٍ لا يشبع من ابتلاع الأشياء! هكذا كان نيل مصر العظيم... بدأ المركبُ الطّويلُ يشقُّ العبابَ الخجول لقلّة الرّياح، وأصوات السّامرين فوق الكوبري والأضواء المنبعثة من المراكب أضفتْ على مشهدنا جواً مصرياً بلدياً مليئاً بالرَّوح والرّاحةِ والرّيحان.
.
رفعَ ريّسُ مطيّتنا صوت المسجّل فارتفعَ الصّخبُ ينادي بالأغاني البلديّة وسمعتُ مطرباً لا يُطربُ يقول: "عَمّال تِغلَط في النّاس ليه، خُدلَك كرسيّ واقعد عليه". ولذلك حملتُ وسادة ورميتها عند مقدّم المركب الحديديّ وجلستُ مع البقيّة أتأمّل في كلّ شيءٍ: السّماء والنّيل الدّاكن والأبنية الشّاهقة المضاءة والمراكب الصّاخبة المارّة بالقرب منّا وأحاديث الأصدقاء... نسيتُ في غمرة ذاك الجمال نفسي ومتاعبي ومشاغلي وتمنّيتُ البقاء في ذاك المكان بلا انتهاء!
.
ارتفعت الفنادق الضّخمة تضيء عتمة الأمواج الهادئة، وتحدّث عن السّياحة في العاصمة المصريّة وكثرتها، فهذا هو الهيلتون وذاك الشيراتون فالفصول الأربعة الذي فاجأني بوجوده في هذا المكان، إذ يُعتبر من النّزل القليلة في العالم بنجومه السّبعة التي تزيّن صدره. وعلى بعدٍ منّا برز برجان مرتفعان متّصلان أخبرني صديقي أنّهما يعودان إلى ملكيّة نجيب ساويريوس أغنى أغنياء مصر. كنّا نجتاز الكباري الإسمنتيّة الضّخمة الرابطة بين القاهرة المنفصلة على يدِ الجزّار الإفريقيّ الغارس مديته في قلب ضحيّته المسكونة.
.
انتهت السّاعتان على عجلٍ كأنّهما برقٌ لمع وخفتَ وبقي نورُ شرارتِه منعكساً في عيون النّاظرين. وآلمني أن نعودَ بهذه السّرعة. نزلنا جميعُنا وكنتُ آخر الرّاحلين، نفحتُ الكابتن (الريّس) ما تبقّى من "الفكّة" وتلك السيجارة الوحيدة التي صمدتْ في علبتي حتّى المساءْ.
.
في المنزلِ جلستُ أمام رفيقَ دربي الإلكتروني لأخطَّ هذه السّطور وأحدّث عن النيلِ واهب الحياة والجمال والاستمرار. هذه هي مصر هبة النيل كما وصفها نابليون. وعند الواحدة توقّفتُ عن الكتابة وجلستُ أمام التلفاز أرقبُ لميسَ وهي تسمعُ قصّة تيم عبّاس كما هو على حقيقته!