الأربعاء، فبراير 15، 2012

قراءة في مقال الحكيم البابليّ "الكلمات النابية الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة"

تحت عنوان "الكلمات النّابية الدّخيلة في اللهجة العراقيّة الدّارجة" كتبَ السيّد الحكيم البابليّ مقالًا رائعًا ونشره على صفحاتِ العدد 3598 من الحوار المتمدّن بتاريخ 5 كانون الثّاني 2012. لا يسعني أمام هذا البحث الموثّق إلا أن أقولَ له بلهجتِه بلفظٍ غير ناب "عاشت إيدك"! ومقالُه في الحقيقة متميّز جميل كونه يبحث في أحد أهمّ العناصر الثقافيّة لدى الشّعوب، أعني اللغة المحكيّة المتداولة بين العامّة. وقد أضحت للغات والبحث فيها علومٌ متعدّدة واسعة ليسَ يسيرًا الإلمام بها لتداخلها الشّديد بالتّاريخ والاجتماع والفلكلور وغير ذلك من العلوم الإنسانيّة.

إنّ دراسة اللهجات التي تتداولها العامّة في مختلف مناطق البلدان النّاطقة بالعربيّة، تحتاجُ في الحقيقة إلى دراسة اللغات القديمة والحديثة التي استخدمتها الشّعوب التي سكنتها وما زالت! بالإضافة إلى الاطّلاع على لغات أخرى قد تكون تركت آثارَها فيها، أي في هذه اللهجات، لأسباب عديدة ذكرَ الكاتبُ الحكيم البابليّ الكثيرَ منها في مقاله الـمُشار إليه، كالتّجارة والتّرحال واعتناق العقائد والتثاقف والعلوم والتزاوج والحروب... إلخ.
ولم يتعرّض البابليُّ في مقالِه للهجات العراقيّة بكليّتها، بل اقتصرَ منها على دراسة الألفاظ النّابية الدّخيلة إليها من اللغات الأخرى غير العربيّة كما ذكرَ ذلك في عنوان المقال وفي متنه أيضًا. وليسمحْ لي الآن، بعد التحيّة من جديد، ببضع ملاحظات قد تنفع هذا البحث الهامّ:

الملاحظة 1:
وهي ملاحظة تتعلّق بعنوان المقال ومدى دقّة اختيار ألفاظه: "الكلمات النّابية الدّخيلة في اللهجة العراقيّة الدّارجة"! هذا يعني أنّ المقال يتعرّض للكلمات النّابية، حصرًا، الدّخيلة إلى اللغة العربيّة، أي الغريبة عنها، المتداولة في العراق. وفي اعتقادي إنّ الكاتب أخطأ في اختيار جملة "اللهجة العراقيّة الدّارجة" بدلَ لهجات العربيّة المتداولة أو المحكيّة في العراق، إذ ليسَ ثمّة لهجة عراقيّة واحدة، بل مجموعة من اللهجات العربيّة المتمايزة بعضها عن بعض بحسب شعوب العراق وأقوامه وأديانه ومذاهبه وأماكن انتشار هذه الشّعوب. ما عدا لهجات اللغات الأخرى المتداولة اليوم في العراق كلهجات الآراميّة – السريانيّة والكرديّة... إلخ، التي يُمكن اعتبارها "دخيلة" لأنّها تنتمي إلى لغات غير العربيّة! ولهذا أقترحُ على الكاتب عنوانًا آخر لعلّه يكون أدقّ "الألفاظ النّابية الدّخيلة في لهجات العربيّة المحكيّة في العراق"! واقتراحي ينبع من بحثٍ أقدمتُ عليه في الماضي ولمّا أُتمّه بعد يتّصل بالموضوع عينه لكن في بقعة جغرافيّة أخرى.

الملاحظة 2:
يقول الكاتب في مقدّمة المقال: "ليس من الغريب أن نجد أن اللغة العربية إحتكت تأريخياً - بعمق - وعلى جميع الأصعدة ، مع شعوب وأقوام كُثَّر قد يصعب تعدادهم وحصر تسمياتهم ، ومنهم على سبيل المثال : السومريون ، الأكديون... إلخ"! ولستُ أدري إلى أيّة دلائل تاريخيّة أو أثريّة استندَ الحكيمُ البابليّ ليقول إنّ اللغة العربيّة احتكّت بشعبٍ كالشّعب السومريّ أو الأكّاديّ أو أيّ شعب آخر أقدم من أقدم آثار اللغة العربيّة!! ألعلّه ظنَّ أنّ بقايا لغات تلك الشّعوب في لهجات شعوب اللغة العربيّة اليوم هو احتكاكٌ تاريخيّ عميق؟! أم أنّه يريد القول إنّ العربيّة تأثّرت كأيّة لغةٍ غيرها بما تبقّى من رواسب تلك اللغات المنقرضة وهو ما يظهر في بعض اللهجات المتداولة هنا وهناك، وهذا أسلم؟!

الملاحظة 3:
يقول أيضًا: "... اللغة العربية الفصحى التي أصبحت لُغة منطقة وادي الرافدين الرسمية منذ دخول العرب والإسلام إلى العراق وبقية أقطار المشرق"! إنّ الرّبط بين "أصبحت" و"منذ" في هذه الجملة ربطٌ غير دقيق لا سندَ له ولا دليل! فالعربيّة الفصحى لم تصبح لغة تلك البلاد "الرسميّة" مباشرةً (منذ غزو المسلمين)، بل احتاجت إلى زمنٍ توطّدت فيه مملكة المسلمين العرب في دمشق (فبغداد)، والبرهانُ هو أنّ الدواوين لم تستخدم العربيّة لغةً إلا في فترة لاحقة متأخّرة، ولم يكن في وسع الحكّام العرب التخلّي عن المترجمين والموظّفين الذين اعتمدوهم لتسيير إدارة البلاد قبلَ انتقال لغة الدواوين شيئًا فشيئًا إلى العربيّة اللغة التي لم تنتشر انتشارًا واسعًا في العراق وسورية وغيرها من بلاد المشرق إلا بعد عدّة قرون من بداية الغزو العربيّ الإسلاميّ، وما كانَ لها هذا الانتشار لو لم تكن في آنٍ واحد لغة السّلطة السياسيّة والدينيّة (القرآن) آنذاك!

الملاحظة 4:
يقول: "والجدير بالذكر أن الكثير من اللغات المحلية القديمة هن أخوات للغة العربية ، مثل الأكدية والآرامية والعبرية والحبشية". أنتَ يا عزيزي تتحدّث عن العراق ولغات العراق ولهجاته، وليسَ صحيحًا إذًا اعتبار "الحبشيّة" و"العبريّة" لغتين محليّتين! إلّا إن كنتَ تتحدّث عن اللغات الساميّة عامّة، ولهذا تلزم الإشارة إلى ذلك!

الملاحظة 5:
يدعو التسمية "السّاميّة" التي استخدمتها التّوراة للإشارة إلى اللغة الأمّ (ومجموعة اللغات النّاشئة عنها) "اعتباطيّ8� �ديّة"! أتساءَل: وما معنى "اعتباطيّة كيديّة"؟! هلّا فسّر لنا الكاتب هذا الوصف؟! وإذا كانت هذه التّسمية مرفوضة من قِبل اللغويّين والمؤرّخين فهي حتّى اليوم مستخدمة في جميع دراساتهم وأبحاثهم ومنشوراتهم، فما معنى قولك إذًا إنّها تسمية مرفوضة من قبل هؤلاء العلماء وهم في الوقت عينه لا يملكون سواها في الدّرس والبحث؟! فأمّا الاستطراد الذي قادَ الكاتب البابليّ إلى الحديث عن التّوراة وعلاقتها بثقافات الشّرق القديم، فلا معنى له، لأنّه استطراد أخلّ بمنهج المقال الذي يبحث في اللغة واللهجة، لا بالدّيانات وأصولها الثّقافيّة!

الملاحظة 6:
يكتبُ الحكيمُ البابليّ: "وفي اللغة الأكدية والآرامية وكذلك في اللغة الكلدانية التي هي لغة قومي المحكية إلى حد اليوم : ( شْلاما )"! إنّ اللهجة الأكّاديّة التي تكلّم بها الكلدان القدماء انقرضت منذ أمدٍ بعيدٍ جدًّا، فأمّا اللهجة التي يتكلّم بها كلدانُ اليوم فهي إحدى لهجات اللغة الآراميّة وتُسمَّى لهجة الـ "سُوْرَثْ" (ܣܘܪܬ) وهي لفظ محرّف عن كلمة "سوريَــإيث" (ܣܘܪܝܐܝܬ)، وليسَ في الدّراسات والأبحاث من يعتقد أنّها "لغة كلدانيّة"!! ما يعيب هذه النّسبة أو التّسمية هو الخلط المتعمّد بين "اللغة" و"القوميّة" (أو المذهب)، فإذا كانَ الكلدانُ يتحدّثون بالآراميّة فهل تصحّ تسميتها "بالكلدانيّة"؟! وكذلك: إذا تحدّث كلدانُ اليوم المقيمون في السّويد بالسويديّة، فهل تصحّ تسمية السويديّة "بالكلدانيّة"؟! وهذا ينطبق على الكثير الكثير من الأمثال، ومنها مثل أبناء الكاتب عينه المقيمين في الولايات المتّحدة الأميركيّة والمتكلّمين باللغة الإنجليزيّة أفضل بكثير من أيّة لغة أخرى! (لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أنّ اللهجة الآراميّة التي نعتها الكاتبُ خطأً بالكلدانيّة يستخدمها أيضًا الآشوريّون وسريانُ العراق في شتّى مناطق انتشارهم)!!

الملاحظة 7:
في مقارنة سريعة بين العربيّة واللغات الساميّة الأخرى يكتب: "يقال في العربية ( مَلِكْ ) وفي بقية اللغات التي تم ذكرها يُقال ( مَلكا ، مَلخا ، مَلاخا )". صحيحٌ هذا التّقارب بين ألفاظ اللغات السّاميّة لاشتراكها في الجذر وفي أمور أخرى كثيرة. فأمّا لفظة "مَلاخا" فلا علاقة تجمعها بلفظة "مـَلـِك" العربيّة (إلّا في الثّنائيّة) لأنّها تعود إلى جذرٍ مختلف هو "ل أ ك" (الكاف تُلفظ خاءً في التّركيخ أي التليين) أي أرسلَ، وفي العربيّة تُقابل "مَلَك" (بفتح اللام) و"ملاك"، والملاكُ أصلًا جاءت في معنى الرّسول حتّى اتّخذت معنىً دينيًّا ميثولوجيًّا يعرفه الجميع!

الملاحظة 8:
يقول: "وكذلك من اللُغات التي لا زالت محكية في العراق من قِبَلِ أقوامها في الوطن العراقي ، مثل الكردية والكلدانية والآرامية - السريانية والتركمانية والآيزيدية والمندائية والشبك". يعودُ الكاتب إلى الخلط بين "القوميّة" و"اللغة" وما ينتج عنها من لهجات. فاللغات المعنيّة هنا هي الآراميّة والكرديّة والتركيّة وما نتجَ عنها من لهجات بحكم التّداول بين الشّعوب. فأمّا الكلدانيّة والمندائيّة والإيزيديّة فهي مذاهب دينيّة عقائديّة تتكلّم لهجات معيّنة تعود إلى اللغات المذكورة آنفًا. الكلدانيّون يتحدّثون بلهجة السّورَث الآراميّة، والمندائيّون باللهجة المندائيّة الآراميّة (أو "المندعيّة" لقلب العين همزةً في اللفظ).

الملاحظة 9:
يشيرُ الكاتب إلى أنّ لفظة "عبيط" العربيّة والمستخدمة في العاميّة المصريّة بمعنى "الأبله" أو "الغبيّ" أو "الأثول" تعودُ أصلًا إلى معناها الفصيح "اللحم الطّريّ غير النّاضج"! وفي تحليله الكلمة يستندُ إلى اللغة بدلَ الواقع، فيقول: "ومنه بالضبط جاء إستعمال العرب لهذه الكلمة في وصف بعض الناس بالعبط ، أي أن فكرهم ومداركهم لم تستوِ أو تنضج بعد . وهو إستعمال مجازي ذكي". بيدَ أنّ تحليل الألفاظ العاميّة يستندُ أوّلًا إلى واقع الموصوف لا الصّفة، وهذا ما يفسّر أنّ الكثير من معاني الألفاظ العاميّة مستنبطة لا صلة لها بمعاني الألفاظ في لغاتها الأصليّة (الفصحى)، مثل كلمة "سَرْسَريّ" التي تعني لغةً "العاطل عن العمل"، ومَن ليسَ له عمل سيقضي أوقاتَه بالتسكّع هنا وهناك، وبملء هذه الأوقات بما يناسب حاله وحال أمثاله، وبالتّالي سيكون الأقرب إلى رذائل المجتمع من غيره! وعن هذا نتج المثلُ الشعبيُّ السّائر: "الـ ما لو شغل يشتغل مع الشّيطان". ولهذا وذاك فقد اُستنبط معنى لفظة "عبيط" العاميّ من واقع العبيط عينِه، أي حاله الظّاهر. نقرأ في لسان العرب لابن منظور: "عَبَطَ الشيءَ والثّوبَ، شقَّه صحيحًا فهو معبوط وعبيط، قالَ أبو ذؤيب: فتخالسا نفسَيهما بنوافذ ... كنوافذ العُبُطِ التي لا تُرقَعُ، أي كشقّ الجيوب وأطراف الأكمام والذّيول". وغالبًا ما يكون مجنون الأحياء أو القرى في أثوابٍ مشقّقة بالية، فصحّت فيه تسمية "العبيط". ثُمّ حملت هذه الكلمة معاني أخرى كالأبله أو الغبيّ وباتت تُحصى بين الشّتائم. كما أنّ قاموس ابن منظور عينه نقلًا عن الأزهريّ يذكر معنىً آخر فصيح وهو أنّ هذه الصّفة تحملها "الدابّة" فيقال عنها "عبيطة" و"معبوطة"، إلا أنّي أرجّح المعنى السّابق.

الملاحظة 10:
يذكر البابليُّ أنَّ لفظة "جربزة" فارسيّة، ثُمَّ يقول: "ويوجد مُشابه لها في العربية الفصحى : ( جربز ) ، وتعني : الخبيث المخادع". ألعلّه لم يتنبّه إلى أنّ معاجم العربيّة الفصحى تذكر اللفظة على أنّها فارسيّة معرّبة؟!

الملاحظة 11:
تحتَ لفظة "أَدَبْ سـز" يذكر أنّها  تُستخدم في العراق "حصرًا"! أتساءَل: ألعلّه خَبِر جميع لهجات الشّعوب المجاورة ليجرؤ على قصر هذا اللفظ على أهلِ العراق؟! أم نسي أنّ الكثير من ألفاظ العاميّة مشتركة بين أهلِ الموصل وأهل الجزيرة السوريّة؟! نعلمه أنّ هذا الاستخدام دارج حتّى اليوم في أنحاء الجزيرة السوريّة، مثلها مثل "إيمان سز"، و"دين سز"... إلخ!

الملاحظة 12:
يشير في كتابة "كور ممش" إلى كافِها المصريّة أو الفارسيّة! فهل ثمّة كاف مصريّة تختلف عن الكاف العربيّة؟! ألعلّه يعني "الجيم المصريّة"؟!

ملاحظات سريعة:
- كانَ يُرجى من الكاتب العزيز ترتيب ألفاظ المقال أبجديًّا لتيسير الرّجوع إليها.
- هل يُمكن أن تُحصى لفظة "پُرتِكـَيشي" بين الألفاظ النّابية، والكاتب نفسه يذكر أنّها ليست شتيمة؟! وهل يُمكن إضافة لفظة "كْلاوْجي" إلى مجموعة ألفاظ المقال (وهي من الألفاظ النّابية الدّخيلة)؟!

أودّ أخيرًا أن أحيّي الحكيم البابليّ الذي أضفى على المقال بصمتَه الطّريفة ولم ينسَ أن ينقل بين الحين والآخر بعض الحكايات الشعبيّة التي أثرته من كلّ جانب، وأن أقولَ له: كلّ عامٍ وأنتَ وعائلتك وأحبابك بألف خير، كما أتمنّى لكَ ولجمهور إدارة الحوار المتمدّن والكتّاب والقرّاء سنةً مليئة بالخيرات والمسرّات.