الخميس، فبراير 12، 2009

قراءة في كتاب: "حدائق النّور" لأمين معلوف

حدائقُ النّور، أمين معلوف، ترجمة د. عفيف دمشقيّة، دار الفارابي، بيروت- لبنان، الطّبعة الثّانية 2001 (الجزائر). Les Jardins de lumière
.
روايةٌ تاريخيّةٌ فلسفيّةٌ دينيّة في ثلاثمئة صفحة من تأليفِ اللبنانيّ أمين معلوف، تحكي قصّة رجلٍ يُدعى ماني وُلدَ في ماردين، وحملَ رسالةً دينيّة طافَ بها حيثما استطاعَ الوصول! سنحكيها في موجزٍ يذكّر بأهمّ أحداثِها، ثمَّ نعرضُ ما رأينا فيها وما أحببناه وما أبغضناه. يقسمُ الكاتبُ روايته إلى تمهيدٍ فأربعة أقسام ثمّ خاتمة قصيرة، سنتبعها واحدة تلو الأخرى.
.
تمهيد:
كانَ والدُ ماني، ويُدعى "باتيغ"، يبحثُ عن الحقيقة، وهو بارتيّ من طبقةِ المُحاربين، وأصلُه من "أيبكتان". اعتادَ على الحجِّ في كلِّ عام إلى معبد "نبو" القائمِ على تلّةٍ تُشرفُ على جسر "سلوقية" في المدائن عاصمة بابل. وهناكَ يتعرّفُ على شيخٍ تدمريٍّ يرأسُ طائفةً دينيّة تُقيمُ منعزلةً في بستانِ نخيلٍ في شمالِ بلاد بابل. وأمامَ دعوة هذا التدمريّ "سيتايي" يخضعُ باتيغ فيهجر امرأتَه الحبلى بطفلِه الوحيد "ماني" وينضمَّ إلى تلك الجماعة التي تلبسُ الأبيض وتُحرّم الخمرَ واللحمَ والنّساء! معتقداتُها خليطٌ من اليهوديّة والمسيحيّة وبدعة عند كلا الفريقين.
.
القسمُ الأوّل: بستان النّخيل وأصحاب الملابس البيضاء
في الرّابع عشر من شهر نيسان سنة 216، على عهدِ أرطبان ملك المدائن وكركلا إمبراطور روما، وُلدَ ماني ابنُ باتيغ من مريم في مدينة ماردين. وبعدَ ثلاثة أعوامٍ يُحضَر للإقامة في وسط جماعة بستان النّخيل. هناكَ ينمو ويتعلّمُ وبعدَ مرورِ أعوامٍ يصدفُ أن يصنعَ معروفاً مع صوريٍّ سمينٍ يُدعى "مالكوس" منتمٍ إلى الجماعةِ شكلاً، عُوقبَ لأنّه تجاوزَ القوانين، ومنذ ذلك الحين كنَّ له هذا الصوريُّ مودّةً وإخلاصاً دامَ عليهما طوال حياته. وفي أحد الأيّام يتعرّف ماني إلى فتاةٍ يونانيّة يُحبّها مالكوس وتُدعى "كْلوويه"، وهذه تُحبّ ماني، لكنّه يردعها بحجّة العهود التي قطعها على نفسِه! وبعدَ زمنٍ يعلمُ ماني أنَّ مالكوس وكلوويه تزوّجا وأقاما في المدائن. بعدَ صبرٍ طويلٍ، وفي الرّابعةِ والعشرين من عمره، يتلقّى ماني من شفتي توأمه (الرّوحي) الكلمات التي طالما أملَ في سماعِها: "ها قَدْ أزفّت السّاعة لكي تتجلّى لعيون العالم، وتترك بستان النّخيل هذا... ". وفي أحد صباحات نيسان من سنة 240 قرّر الرّحيلَ باحتفالٍ كما قرّرَ أن يسلخَ عنهُ هذا الجلدَ الأبيضَ الذي غلّفه لعشرين عاماً.فدخلَ احتفالَ الصّلاةِ بثيابٍ ملوّنةٍ استفزّت الجميع، وبعدَ حوارٍ قصيرٍ مع أبيه باتيغ، خضعَ لمحكمة الجماعة حيثُ كشفَ عن رسالته كما تكلّم بالسّوء على أصحاب الملابس البيضاء ومعتقداتهم، وتعرّض لهجومٍ بالوحل من قبل بعضِهم وأخيراً رحلَ.
.
القسم الثّاني: من "دجلة" إلى "السّند"
المدائن محطّة ماني الأولى، أكبر مدن وادي "دجلة" وعاصمة الملوك البارتيّين سابقاً والساسانيّين لاحقاً. فيها أمضى ماني ليلته الأولى في منزلِ صديقيه مالكوس وكلوويه بعدَ ترحيبٍ حارّ. وفيها أيضاً يباشرُ ببعضِ تعاليمِه ممّا يتسبّب في مخاوفِ مالكوس الذي يحدّثه عن الملك الجديد "أردشير" وتحريم العبادات المختلفة ونشر عبادة النّار دين الساسانيّين الوحيد. في هذه الأثناء يصلُ باتيغ والدُه ويُحاول إقناعَه بالعودة إلى بستان النّخيل، لكنّه بدلاً من ذلك يُقنع أباه بالبقاءِ معه، فيُصبحُ هذا الأخير، بعدَ أن وضعَ ماني يدَه على رأسِه، أوّل مريديه. يستمعُ ضابطٌ إلى إرشاد وتعليم ماني ويعلمُ أنّه وأباه من سلالة البارتيّين، فيهدّد مالكوس ويطلبُ منه رحيلهما عن المدائن. وقبلَ أن يخبرَ هذا صديقَه بذلك، يقرّر ماني الرّحيلَ فيرافقه باتيغ ومالكوس حتّى شاراكس. لم تكن الرّحلة البحريّة من هذه المدينة وحتّى وادي نهر السّند (الهند) هادئةً ومطمئنّة، فقد تعرّضوا خلالها لمهاجمة الحيتان ثمَّ لإعصارٍ عنيفٍ في اليوم الثّالث يمرُّ دون ضرر. وفي أثناء الرّحلة البحريّة تنشأُ مودّةٌ بين ماني وربّان السّفينة فيرافقه هو وصاحباه في مأكله ومشربه وحتّى في أفكارِه وخططه. أخيراً وصلوا "دَبْ" المدينة القائمة في دلتا نهر "السّند" وحالما بلغوها توجّه ماني إلى الكنيسة وكانَ يومَ أحد! بعدَ الصّلاة والعظة التي يلقيها ماني يستضيفهم كاهن الكنيسة في منزله برفقة أحد وجهاء الطّائفة، وهذان يعلمانهم خلال الطّريق أنَّ والي المدينة وحاميتها قد هجروها تاركينها في يدِ الفاتح الجديد الأمير هرمز حفيد أردشير الملك، وهو بعسكره على مسيرة يومٍ واحدٍ منهم، بينما سكّان دَبْ مرتعبون خائفون. وبعدَ جدالٍ قصيرٍ يتكلّمُ ماني معلناً عن ذهابِه للقاءِ الأميرِ بنفسِه! في خيمةٍ من قماشٍ فاخرٍ يلتقي بطلُنا بالأمير هرمز وهناك تدورُ رحى نقاشٍ حامٍ بين ماني وبين الأمير هرمز والموبَذان كردير. الأوّل يُحاولُ أن يمنعَ مذبحةً على وشك الوقوع في حقّ سكّان دَب، والموبذان يؤكّد للأمير على أنّها إرادة السّماء ورغبة رجالِه. فجأةً تقتحمُ المجلسَ ديناغُ وهي فتاةٌ تهتمّ برفقة ابنة الأمير بعد وفاة والدتها، لتخبرَه أنَّ ابنتَه وقعتْ وغابتْ عن رشدِها. يعرضُ ماني المساعدةَ كطبيبٍ ويشفيها بعدَ قضاءِ ليلةٍ من السّهرِ والمراقبة. لقاء ذلك يعرض عليه الأميرُ مكافأةً ذهبيّة إلا أنَّ ماني يرفضَها ويطلبُ بدلاً منها الفتاة ديناغ وهي ابنة قائدٍ أنقذَ الأمير هرمزَ في إحدى المعارك وماتَ بدلاً منه، وإكراماً لبذلِه كفلها الأميرُ كابنته. بعدَ عناءٍ يستجيبُ هرمزُ ويهبها له ويعدلُ أيضاً عن ذبح ونهب أهل دَب جزاءً لما فعله. عادَ ماني ورفاقُه إلى مدينة دَب من جديد وقرّر الإقامةَ في قصرِ الحاكمِ الهارب. وفي نهاية القسمِ الثّاني هذا نقرأ بعض التعاليم الأساسيّة التي يلقيها ماني على السّائلين كما يُحدّثنا المؤلّف عن دخول الساسانيّين دَب ثمَّ موت أردشير ملك الفرس.
.
القسم الثّالث: بجوار الملوك
في المدائن يدخلُ ماني على ملكِ الملوك مرفقَاً بكتابٍ مجيدٍ بحقّه كتبه الأمير هرمز إلى أبيه، ويعرضُ رسالته في البلاط وهناك يُرى بين الحضور كردير المُوبَذان الذي يُسارعُ إلى اتّهامِ ماني (كونه ناصريّاً) بإهانة الفرس وعباداتهم ومعتقداتهم، وما أن يهمُّ الملكُ بالحكمِ عليهِ، حتّى يُخلّصه مُربّيه "بادهام" طالباً الاستماعَ إلى دفاعِه! بعدَ ذلك سيوافقُ الملكُ شاهبورُ على رسالة ماني ويُصدر تشريعاً يسمحُ له فيه بنشر ديانته في كلّ مكانٍ وزمانٍ كما لو كان رسولَه الخاصّ. يبدأ ماني رسالتَه في بيت لابات وهي إحدى قرى سوزيانا (خوزستان اليوم) وحيثُ طائفة مسيحيّة نشطة، لكنّه لا يلقى فيها التّرحيبَ بتعاليمِه المتعلّقة بالتّساوي بين جميع الطبقات وإلغاء امتيازاتها. وهذا التعليم بالذّات كانَ إحدى الحجج القويّة التي سعتْ لإفساد سمعته لدى الملك شاهبور. ومن جهةٍ أخرى تضاعفَ عددُ أتباعِه بين الحرفيّين والتجّار والغرباء والمهجّنين. يقرّر ماني فجأةً زيارة أيكبتان عاصمة ميديا ومسقط رأس والده، وحيثُ إقطاعة الكهنة منذ القِدَم. وفي الوقت نفسِه يقرّر عدوّه كردير زيارتَها مصطحباً حليفَه بهرام ابن شاهبور البكر وعدوّ ماني الثّاني. وهناك يُضيّق الجندُ حرّاس القلعة بأمرٍ من بهرام على ماني وديناغ لثلاثة أيّامٍ يقعُ بطلُنا في آخرها مغشيّاً عليه. على أثر هذه الحادثة يُعاقبُ شاهبورُ ابنَه بهرام بحبسه في أحد الأجنحة المُخصَّصة لرحلات الصّيد ويرسل في أثر ماني طالباً منه المثولَ أمامه. في قصرِ الملك، في حجرةٍ اعتياديّة لا علاقة لها بقاعة العرشِ وقوانينها، يلتقي الملكُ بالرّسولِ ويتحاوران حولَ ما قامَ به بهرامُ وما فعله ماني حتّى اليوم. كما ويتركُ الملكُ لنفسِه الحريّة في حديثٍ سلبيٍّ طويلٍ عن الكهنة وأفعالهم في طول الإمبراطوريّة وعرضها. وأخيراً يُخبره أنَّ عليه الكفّ عن التجوال والتبشير تاركاً تلامذته يفعلون ذلك، فأمّا هو فسيرافق ملك الملوك في كلِّ مكانٍ بعدَ أن يُخصَّص لهُ مقعدٌ مميّزٌ في جميع القصور. يخرجُ ماني من هذا اللقاء ليحبسَ نفسَه في غرفته في منزلِ صديقِه مالكوس ساجداً صائماً متأمّلاً لثلاثة أيّامٍ يخرجُ بعدَها معلناً لتلامذته أنَّ النصرَ قريبٌ، ثمَّ يُرسلهم إلى أقاليم الإمبراطوريّة الأربعة ويكتبُ مئات الرّسائل والأناشيد والمزامير وأحد أهمّ كتب تلك الحقبة شارحاً فيه تعاليمَه بالرّسوم والتّصاوير. في المقطع الخامس من هذا القسم يستفيضُ الكاتبُ في ذكرِ الوقائع التاريخيّة المرتبطة بالإمبراطوريّتين الفارسيّة والرّومانيّة داخليّاً وخارجيّاً ويُبعدنا بهذا قليلاً عن صلبِ الأحداثِ المتعلّقة بابن بابل وتعاليمه الجديدة. ويُنهي حديثَه فيه بمعاهدة السّلام التي وقّعها إمبراطورُ روما فيليبوس العربيّ وملك الفرس شاهبور لقاء مئة ألف قطعةٍ ذهبيّة تدفعها روما كلّ عام جزيةً لفارس. يُقتل فيليبوس العربيّ ويواصل خلفه دسيوس دفعَ الجزية علناً هذه المرّة لكنّه يُقتل هو الآخر بعدَ سنتين، ويعجزُ المتنازعون على العرش على الاستمرار في دفع تلك المبالغ الكبيرة، ممّا يدفع بشاهبور إلى إعداد الجيش للحربِ ويطلبُ من ماني مرافقته ومناصرته وهذا يرفض.
.
القسم الرّابع: طردُ الحكيم
انطلقَ شاهبورُ إلى الحربِ برفقةِ حاشيته وجيشٍ جرّار واجتازَ أرمينيا فاتحاً المناطقَ والمدنَ حتّى أنطاكية بعدَ تخريبها ونهب أكثرها، بينما كانَ ماني طوال الحرب يسعى في فتوحٍ من نوعٍ آخر، وينشر تعاليمَه المنافية لكلّ حربٍ وقتل. يخسرُ الرّسول في أعوام الحرب مكانَه في البلاط ويزدادُ عداءُ كهنة النّار له ولتعاليمه! وفي العام الرّابع لإعلان الحرب يصعدُ إلى عرشِ روما فاليريانوس ويمرضُ الملك شاهبور فيصرف الجيش على إعادته بعد عام. تسقطُ أنطاكية في يدِ الرّومان من جديد، ويبحثُ ملكُ الملوك عن ماني، بينما يكون هذا في ماردين في زيارة قبر والديه حيثُ يتداعى ويمرض ويعود إلى المدائن منهوك القوى محمولاً على الأكتاف، وعلى الطّريق يبلَّغ استدعاء الملك فيتخلّف بسبب تعبه لكنّه يلبّي مرغَماً عندَ الاستدعاء الثّاني. في القصرِ دارَ حوارٌ حزينٌ مؤثّرٌ بين شاهبور الذي شعرَ بتخلّي ماني عنه بسبب قرار الحرب، وبين الأخير الذي اتّخذَ موقفَ الصّديق المعزّي دونَ كلامٍ كثير، وينتهي الحوارُ بعدما يحصلُ ملكُ الملوك على ما يُريده بالحيلة، أي مرافقة ماني في الحرب الجديدة. ولا بُدَّ، قبل الانتقال إلى الجزء الثّالث من هذا القسم، من ذكر ضفيرة ديناغ وأهميّتها عندَ تلامذة ماني وخاصّة بعدما يشاهد مالكوس الرسولَ وهو يعقدُ ضفيرة تلميذته المحبوبة. في الجزءِ الثّالث نشهدُ معركة الرّها بين امبراطوريّتين عظيمتين يكسبها الفرسُ على يد شاهبور الذي يأسر فاليريانوس إمبراطور روما ويفتّت جيشَها بمعونة كبيرة يُقدّمها له خائنٌ من ضبّاط الرّومان. قبلَ الحرب نشهدُ خسارةً أخرى في بلاط ملك الملوك كانت من نصيبِ ماني الذي صمتَ أمام سؤال شاهبور عن الإقدام على الحربِ أم لا! ينتصرُ ملكُ الملوك نصراً لا مثيل له، ويعودُ مظفّراً إلى عاصمته حيث يُقامُ احتفالٌ كبير يعظ فيه كردير رئيس كهنة النّار ويلعن ماني ويشتمه فيُسكته الأمير هرمزُ (ملك أرمينيا). وفي هذه اللحظات بالذّات يتّسعُ الخرقُ بين شاهبور الملك وماني الرّسول، فالأوّل لن يغفرَ لماني أنّه كادَ، بصمتِه قبل المعركة، أن يحرمه من أعظم انتصارات ملكه؛ والثّاني لن ينسى لشاهبور صمتَه أمام لعنات وشتائم كردير. طالَ الفراقُ بين الاثنين وبعدَ أحد عشر عاماً يُستدعى ماني للمثولِ أمام الملك في بيت لابات التي أصبحتْ "غونديشاهبور". في هذا اللقاء يطلبُ العاهلُ من طبيب بابل أن يرسمَه في كتابِ رسومِ أجداده وهكذا يفعل ماني طوال سبعة أيّام على مدى ساعتين كلَّ يوم لينهي الرّسمَ الذي يتركَ الملكَ في حسرة! ينتقلُ الكاتبُ بعدَها ليُحدّثنا عن علاقة ماني بزنّوبيا ملكة تدمر بعدَ أن تلتقي بهِ في الحلم لتستيقظ وقد شُفيَت تماماً من مرضٍ أتعبَها، فتعتنق المانويّة السّمحة على أثرها وتسمح بعبادة جميع الأرباب. يُفتتَح الجزءُ الخامس من هذا القسم الأخير بموت شاهبور، وإعلان ولده هرمز ملكاً لفارس من فم كردير بالذّات، وفي وسط الأهازيج يبحثُ الملكُ الجديد عن ماني ويراه دون أن يلفتَ نظرَه بينما يذهبُ هذا للقاءِ جثمان شاهبور ووداعه! يلتقيان في صباح اليوم التّالي ويطلبُ العاهلُ الجديد من الرّسول السّماحَ له بإعلان معتقده دينَ الإمبراطوريّة الجديد، فيرفضُ ماني خشية إخفاقٍ آخر ويسأل الملكَ الحكمَ بالعدلِ وحريّة نشر معتقده السّمح، وهكذا يبقيان صديقَين كلّ في طريق. تشهدُ المانويّة عصرها الذهبيّ تحت حكم هرمز القصير. يحلّ عيد النوروز ويُحتفل بتنصيب الملك الجديد وفي نهاية الاحتفال يشربُ هرمزُ كأساً مسمومةً أعدّها كردير فتفيض روحُه ويُختارُ أخوه بهرام ملكاً بدلاً منه. أوّل ما يفعله هذا عندَ دخول المدائن هو طردُ الحكيم ماني من أراضي الإمبراطوريّة. يتقبّل الرّسولُ الأمرَ ويقصدُ الهندَ لتبشيرٍ جديد وخلال الطّريق يوقفه توأمُه ويُعيده من حيث جاء. يرسلُ بهرامُ جنداً لاعتقال ماني بينما يذهبُ هذا دون اعتقال للقائه، وهناك، وبعدَ انتظارٍ طويل، يلتقيان بحضور كردير الذي صارَ المستشار الأوّل فيُتّهم الرّسولُ بشتّى الاتّهامات ويعلمُ من كلّ ذلك أنَّ شاهبورَ كان قد أرسلَ في طلبِه وهو على فراش الموت. وفي المكان نفسه يُخضَع ماني لمحاكمة شكليّة حُكمَ عليه فيها بالعذاب حتّى الموت. يُكبّل ويُربَط بسلاسلٍ ثقيلة في وسط فناءٍ مبلّط عندَ أحد مواقع الحراسة، ولم تُمنع عنه الزّيارات، لكن عن بعد معيّن وحتّى غروب الشّمس موعدِ إغلاقِ باب الفناء. في اليوم الثّالث يزوره بهرام الملك ليسأله عن سرّ ذاك الصّوت السماويّ وعن سرّ إعجاب أخيه وأبيه به، فيقصّ عليه ماني حكايته منذ البداية وحتّى اللقاء الأوّل مع شاهبور. ويتحادثان دون أن يذكرا بكلمة عذابَ ماني أو العفوَ عنه! وفي اليوم الثّامن يزورُه "زراف" عازف العود وموسيقيّ أردشير وشاهبور، وهو أحد المعجبين بتعاليمه، ويعزفُ بالقرب منه أرقّ ألحانه. وفي الليلة نفسِها يقضي نحبَه قبلَ أن تمتدَّ إليه يد الملك الظّالم. في اليوم الرّابع عشر يبكي ماني، وفي التّاسع عشر، حيث ظُنَّ أنّها النّهاية، فاه ببعض التعاليم التي سكبت العزاءَ في قلوبِ مريديه. وفي اليوم العشرين يأمر أتباعَه بالرّحيل بعيداً عن الاضطهاد، بينما يحملُ هؤلاء وصيّةً مختلفة تقضي بكتابةِ اسمِه في كلّ مكان. وفي اليوم السّادس والعشرين انطفأ سراجُ النّور وكانَ ذلك في يوم الاثنين الواقع في الثّاني من شهر آذار سنة 274 للميلاد. يأمرُ الملكُ بتعليقِ جثمانه العاري المحشوّ بالقشّ على مدخل بيت لابات دليلاً على موته.
.
خاتمة
يدافعُ فيها الكاتب عن ماني ودعوته ويهدي الكتابَ الذي يترجمُ له إليه.
.
نقد موجَز:
لغةُ الرّواية لغة فلسفيّة حكميّة أكثر منها جماليّة تصويريّة، فالرّواية كما تبدو منذ بدايتها تاريخيّة تُترجم لأحد أشهر معلّمي القرن الثّالث. يستخدم المترجم بعض المفردات والتعابير غير المألوفة على قرّاء عربيّة اليوم، ممّا يزيد من رهبة القراءة والتمهّل فيها، إلى درجةٍ أعدتُ فيها قراءة بعض الجمل لأكثر من مرّة! اللغة جزلة متماسكة خالية تقريباً من الأخطاء الإملائيّة والنحويّة التي تعجُّ في الكتب المطبوعة، أتأليفاً كانت أم نقلاً عن لغةٍ أخرى. وهذا دليلٌ على حرصِ الكاتبِ والمترجم على إخراج الرّواية في أبهى صورة ممكنة من حيث اللغة والإخراجُ الطباعيّ، وهذا كلّه لا ينفي السّهوَ المرتكب أحياناً في إنقاصِ حرفٍ أو إضافة آخر، أو وجود عيبٍ إملائيٍّ أو نحويٍّ وغالبيّتها تُعزى إلى الإشراف الطباعيّ! وإذ حاولَ الدكتور دمشقيّة جهدَه في الحفاظ على لغة النصّ الأصليّة، إلا أنّه أخطأَ في نقلِ أسماء بعض الأماكنِ والأشخاص، فوضعها برسمِها الفرنسيّ على خلاف المتعارف عليه في العربيّة منذ قرون.
.
حاولَ الكاتب أيضاً أن يكونَ أميناً للتاريخ بشكلٍ واضحٍ في طول الرّواية وعرضِها من خلال ذكرِ الأحداث والأعوام بالتفصيل، وكأنّنا أمام عملٍ تاريخيٍّ من نوعٍ جديد، إلا أنَّه لم يستطع أن يتفادى بعضَ الثغرات سآتي على ذكرِها بالتتابع:
- بعدَ أن يغفل ذكرَ الهزيمة التي مني بها شاهبور على يد الإمبراطور غورديانوس الثّالث الذي استعادَ أنطاكية من يد الفرس في سنة 242 م.، يقولُ كاتبنا معلوف إنَّ ملك الملوك شرعَ في الحربِ على الرّومان بعدَ مقتلِ الإمبراطور دسيوس خليفة فيليبوس العربيّ، وكانَ هذا في سنة 251، ثمَّ يكمل في مكانٍ آخر ويتحدّث عن صعود الإمبراطور فاليريانوس إلى عرش روما في العام الرّابع على دخولِ الحرب، بيدَ أنَّ التّاريخ يؤكّد على إمبراطوريّة هذا الأخير في سنة 253، أي بعدَ عامين فقط على الحرب!
- فأمّا عن الأسر فيُذكر أنَّ الإمبراطور فاليريانوس وقائد جيشه التقيا بشاهبور من أجلِ عقدِ اتّفاق سلام، فيه يُؤسران؛ بينما يتحدّث المؤلّف عن خيانة أحد الضبّاط الرّومان توقع بهما وبعددٍ كبيرٍ من الجنود!
- ثمَّ يذكرُ مصدرٌ مسيحيّ كتبه لَتّانسيوس أنَّ الملك الفارسيّ يستخدم فاليريانوس بعدَ أسرِه كمسندٍ لرجليه عندَ امتطاء جواده، يقتله لاحقاً ويسلخ جلدَه ليملأه قشّاً ثمَّ يضعه في أحد المعابد ذكرىً لانتصارِه! بينما تتحدّث المصادر الفارسيّة عن إرسالِه إلى مدينة "بيشاهبور". إلا أنَّ الكاتبَ يضعُ الإمبراطور على رأس مجموعة من الجنود الأسرى في بناء سدّ عُرفَ لاحقاً باسم "سدّ القيصر"!
- وإذا عُدنا إلى اللوحة التذكاريّة التي شُيّدت ذكرى لذاك الانتصار الكبير، يصفُ المؤلّف شاهبور على صهوة حصانِه ويده اليُسرى على مقبض سيفِه المغمَد، وذراعه اليُمنى ممدودة بأمارة الرّحمة نحو فاليريانوس الجاثي على ركبتيه، وإلى جانبِه يقفُ رومانيٌّ آخر هو الضابط الخائن "سيرياديس"! بينما ما زالَ هذا النّقش محفوراً في الصّخر يوضح فاليريانوس شبه جاثٍ على ركبةٍ واحدة فقط (على عادة الرّومان) بينما يتلقّى شاهبور الملك بيده اليُمنى الجزية من فيليبوس العربيّ الرومانيّ الثّاني في هذه اللوحة.
.
يذكرُ لنا التاريخ المسيحيّ أنَّ مار أفرام السريانيّ كانَ السبّاق إلى الوقوف في وجه المانويّة، عندما وضعَ بعضَ الأناشيد فنّد فيها ماني ومذهبه. ومن خلالِها فسّر المانويّة وثنائيّتها التي تضعُ الإنسانَ بين النّورِ والظّلام، منقسماً على ذاته، مسجوناً في جسدِه. وراحَ أفرام يُدافعُ عن نفس الإنسان وحريّتها، وخطّأ ماني في نسبِ الخطيئة الأولى إلى صدفة الخلق والاختلاط الكونيّ، وعزاها إلى حريّة الإنسان، كما عزا اختلاط الخير بالشرّ إلى إرادة الإنسان نفسه!
.
وهكذا أختمُ هذا العرض الموجَز لسيرة ماني كما رآها أمين معلوف، تلك التي قادتني معها عبر حدائق النّور، وجعلتني أنحازُ إلى بطلنا الأعرج هذا، وأفرحُ وأحزنُ معه، وأنفعلُ في أثناءِ حوارِه الحزين مع ملك الملوك قبل بدء الحرب، وأبكي معه على قبرِ مريم وباتيغ والديه، وأبكي من جديد عندَ لقائه الأخير بشاهبور بعد أحد عشر عاماً من الغياب، وألعن أخيراً بهرام وكردير على ما فعلاه!

الأحد، فبراير 08، 2009

مجمعُ الأديان

الـجُمعة 18 تـمّوز 2008 (القاهرة)
.
كانَ اليومُ مُميّزاً، فقد رقدتُ الليلة الماضية، وللمرّة الأولى منذ احتلالي كوبري غَمْرَة في العاصمةِ المصريّة، مبكّراً، تقريباً عندَ مُنتصف الليل! ولأنّي لم أعتد النومَ مع الدَّجاج فقد كانَ غيابي قصيراً حتّى لفحني الصّباحُ بنورِه وأرعشَ جفنيَّ فتفتّحا في الخامسة والنّصف. كانَ الفطورُ دسماً هذه المرّة فقد ازدردتُ بيضتين و"عيشاً" (خبزاً) مصريّاً مع كأسٍ من الشّاي الثّقيل وتراوحت ملحقاتُ هذا الصَّبوح بين الجبنةِ واللبنةِ. أسرعتُ إلى بريدي الإلكترونيّ فقد كنتُ مداناً إلى صديقةٍ برسالةٍ طويلةٍ أجترُّ فيها رسائلها الأخيرة وكلَّ ما دارَ فيها، ثمَّ ألقي في كتابي إليها بوحَ القلبِ والعقلِ المنعقدَين في ثنايا السّطور.
.
ما يزالُ عندي وقتٌ طويل فحدّثتُ نفسي ودعيتُها إلى مائدة من موائد الأدبِ الرّوائي المصريّ، فعندَ وصولي بلدَ النّيلِ والأهرام تذكّرتُ رواية نجيب محفوظ تلك التي حامت حولها منذ فترة قصيرة أقلامُ النقّادِ والأدباء والصحفيّين "أولادُ حارتِنا". والقصّةُ باختصار هي التّالي: رغبت إحدى دور النّشر بإعادة نشر هذه الرّواية، فاشترطَ الأديبُ المصريُّ موافقةَ الأزهر لأسبابٍ عدّة أهمّها تحريم روايته لأسبابٍ دينيّة لا أرغبُ الدّخول في تفاصيلها. وافقَ الأزهرُ وكتبَ أحد أركانِه مقدّمتها بعدما نشرَ تلك المقدّمة في الصّحافة على أنّها كانت عرضاً لنواة تدور أساساً حول مقابلة أُجريت مع المؤلِّف وفيها أنكرَ كلَّ اعتراضٍ دينيّ وأثبتَ إيمانَه بالتّوحيد وبدين الإسلامِ... ثارت الأقلامُ الحرّة على الأديب المصريِّ وكُتبتْ شتّى المقالات تدين هذا التصرّف، لأنّه قد يكون فاتحةً لتحريم الأدبِ وتحليلِه من قِبلَ السّلطات الدينيّة أيّاً كانت. هذه المناوشات التي حدثت منذ فترة لا بأس بها لفتت نظري، ولضيقِ الوقت تجاوزتُ الرواية ولم أخصّص لها مكاناً في برنامج قرصنتي الثقافيّة... وحالما بلغتُ مصرَ قرّرتُ تأويلها والتحليق في عالمِها بين التحريم والتحليل!!!
.
تلقّفتُها ذاك الصّباح بشغفٍ وفضولٍ وقرأتُ منها الصّفحاتُ الأولى وكيفَ طردَ الجبلاويُّ ابنَه البكر إدريس ابن الهانم وعيّن أدهمَ ابنَ الجارية مديراً للوقف... ارتفعت الشَّمسُ في كبد السّماء فتركتُ الرّواية وهممتُ في مغادرة المنزل.
.
وصلتُ مترو الأنفاق وانطلقتُ من محطّة غَمرة باتّجاه حلوان، فمررنا في طريقِنا على تاريخٍ سياسيٍّ حافل بالرؤساء والعظام، بدأنا بأقربِهم حسني مبارك ثمَّ التقينا بأحمد عرابي فجمال عبد الناصر صاحب الوحدة المصريّة السوريّة، وسلّمنا بعدَها على أنور السّادات الذي اغتيلَ في أثناء عرضٍ عسكريّ وهكذا مررنا بسعد زغلول فالسيّدة زينب فالملك الصّالح حتّى وصلنا مار جرجس، فنزلتُ أحثُّ الخطى للخروج إلى منطقة مجمع الأديان في مصر القديمة. هذه المنطقة الزّاخرة بكنائسٍ قديمةٍ تعود إلى ما بين القرنين الرّابع والثّامن.
.
حالما بلغتُ الشّارعَ طالعتني يميناً كنيسة القدّيسة العذراء والشّهيدة دميانة الملقّبة بـ"المعلّقة"، وإلى يساري ارتفعت كنيسة اليونان الأورثوذكس الدّائريّة، فخطوتُ إلى اليمين راغباً في زيارة الأقباط في بطريركيّتهم القديمة تلك التي علّقت فوق برجين من أبراج حصن بابليون القديم، فأخذت تسميتها من واقعها، كما ويتحدّثُ أصحابُها بقصّةٍ طريفة مفادها أنَّ مياه النّيل كانت تبلغ هذه الأطراف فقاموا بمدّ جذوع النّخل فوق جدران المعبدِ الرّوامنيّ القديم، وفوق هذه رصفوا الأحجار ليشيّدوا عليها كنيستهم تلك. ولهذا فهي الكنيسة الوحيدة بغير قبّة فأمّا سقفها فهو خشبيّ على شكلِ فلك نوح الذي نجا من الطوفان. وقفتُ أمامها أمتّعُ النّظر بهيبة الباب الخشبيّ المزركش وقد توّجتْه آيةُ المسيح بخطٍّ عربيٍّ كوفيٍّ جميل تقولُ: "سلوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم". ولجتُ منه أسألُ وأطلبُ وأقرعُ الأبوابَ راجياً أن أُعطى وأجدَ ويُفتحَ لي!
.
في الفناء تتوسّطُ بضع شجيرات وأشجار وفي صدرِه السلّم الحجريّ الموصل إلى الكنيسة عبر بابٍ آخر تعلوه عبارةٌ ذات مغزى ومعنى تقول: "من أرادَ الغنى فالقناعةُ تكفيه". قرأتُها وابتسمتُ متذكّراً الجدلَ الذي صارَ في أحد المنتديات الإلكترونيّة قبل مدّة حول القناعة والطّموح وهل يجمعهما شيءٌ أم يفصلُهما التضادُّ. عبرتُه فبلغتُ ردهةً تملؤها صورُ بطاركة الأقباط في القرن العشرين وهناك اصطفّت الكتبُ والمنشورات والتذكارات فاجتزتُها ودخلتُ المعبدَ المفعم بعبق البخور واللبان. نظرتُ إلى الشّرقِ فوجدتُ أنَّ الستائرَ تحجبُ قدسَ الأقداسِ وتخفيه عن عيون الزّائرين، وصحنَ الكنيسة عبارةٌ عن ثلاثة أقسامٍ يتربّع في القسمِ الأوسط البيما، أي المنبر، مرتفعاً ثلاثة أمتار، وهو تقليدٌ عريقٌ في القِدم ويمتاز بأعمدته الرّخاميّة البيضاء المعرّقة بألوانٍ مختلفة. طرازُ الكنيسة بازيليكيٌّ وهو أقدم أنواع أبنية الكنائس ويعود إلى القرنِ الثّاني الميلاديّ وهو أيضا أبسط الأنواع إذ يقسم صحنَ البناء إلى ثلاثة أقسام أكبرهما القسم الأوسط ويتساوى فيه الجناحان الجانبيّان اللذان ينفصلان عن الوسط بأعمدة حجريّة تتوّجها زخارفَ متنوّعة إغريقيّة ورومانيّة وترتفع فوق الأعمدة آيات الزّبور التي تدعوك إلى توبةٍ عميقة. المراوح التي تكسرُ من حدّة الحرارة المرتفعة وتنثرُ أنفاس البخور في الأرجاء، والنوافذ الزجاجيّة الشفّافة التي تتخلّل أرضَ الكنيسةِ وتحدّثك عن قصّة المعلّقة فوق نخيل مصر وأبراج الرّومان هرباً من غضب النّيل وثورته. والنّوافذُ الخشبيّة التي ترتفعُ هنا وهناك فتزهو بجمالِ طرازها وزخرفتها العثمانيّة وريثة التلاقي بين الإسلامِ والغرب! فأمّا المقاعدُ العريضة المعلَّمة بصلبانٍ مربّعة فدليلُ تقليدٍ شرقيّ أثيل.
.
بعدَ ذلك حملتُ بعضي وغادرتُ أصحابَ البيتِ لألتقي بالغرباء في كنيسة مار جرجس لليونان الأورثوذكس وهؤلاء كانوا يُعدّون من أكبر الجاليات المسيحيّة بعدَ الأقباط. كنيستُهم مميّزة بدائريّتها وأيقونستازِها وكراسيها الممتدّة في باطن دائرتها لتلتفَّ وتحيط بالمصلّين من كلِّ جانبٍ وجهة. خرجتُ على عجلٍ وعرّجتُ على مقبرتهم التي تزيّنها قبور الصّامتين. هذا هو المكان الوحيدُ الذي يتساوى فيه الأغنياء والفقراء، الملوك والخدّام، الأحرار والعبيد. هؤلاء هم الذين يصمتون فلا يجيبون لا مديحاً ولا شكراً ولا حتّى تعنيفاً أو رذلاً، هذه هي مدينة الموت الأخيرة!
.
بعدَ الموتِ والقبور دخلتُ مكاناً فيه بئرٌ عذبة يُقالُ إنَّ العائلة المقدّسة، أي يوسف ومريم ويسوع، شربوا منه عندَ مرورِهم في هذا المكان بعدَ هربهم من بطش هيرودس. ومنه خرجتُ إلى الشّارع واجتزتُ في طريقٍ ضيّقٍ امتلأت جدرانُه بالكتبِ والصّور من مختلف اللغات وفي نهايته كانت بانتظاري كنيسة الشهيدين سرجيس وباخوس المعروفة بأبي سرجه! ويجمعُ التقليد على أنَّ هذه الكنيسة مقامة فوق المحلّ الذي أقامت فيه العائلة المقدّسة في مصر.
.
ومن المسيحيّة إلى اليهوديّة حيث معبد بن عزرا. عندَ الباب لافتةٌ مكتوبٌ عليها "ملك الطائفة اليهوديّة بالقاهرة" ونجمة داود السداسيّة تزيّن الجدار الآخر... أهلاً بك بين يهود مصر!
.
أخبرتِني تلك السيّدة الجالسة أمام طاولة البيع أنَّ اليهودَ المصريّين يبلغ عددهم أربعاً وستين ومعابدهم سبعة عشر. هنا عالَمُ العبريّة والشّعب المختار وجماعات الشّتات. في وسط الكنيست يرتفع منبراً يعلوه مدرج من الكتب المقدّسة ملفوفٌ على شكلِ الكتبِ القديمة... واللغة العبريّة تعجّ في المكان، ونافذة الزّجاج الملوّن ترتفعُ في أعلى الحائط الشرقيّ يميّز النّاظرُ إليها أربعة حروف عبريّة: الياء والهاء والواو والهاء مشكّلةً كلمة "يهوه"، أقدس أسماء اللهِ عندَ اليهود، وهي كلمة تعودُ إلى المضارع من فعل الكون والصّيرورة. عند مقدّمة المنبر ينتصبُ شمعدانٌ برؤوسه السّبعة وهو رمزٌ لذاك الذي كان منصوباً في الهيكل قرب تابوت العهد، فأمّا كثرة الرؤوس فهي ليبقى النورُ يطردُ الظلامَ الذي قد يقعُ على قدس الأقداس حيث التابوت حافظ الوصايا وعصا هارون!
.
لملمتُ ما تناثرَ منّي وحملتُها في طريق العودة حتّى المنزل...
.
سألتُ صديقي الذي أُلازمه مسكنه عن الغداء فقال لي: "كُشَري"، ستأكل اليومَ طعاماً لذيذاً وستدعو لي من بعدها. خرجَ على أثرها وعادَ بعد قليل حاملاً الكشري الموعود وبضعة أقراص من الطعميّة وعلبتين من اللبن الزّبادي. نزلتُ إلى الميدان بكامل لباسي العسكريّ فمزّقتُ الصّحون والأقداح وجعلتُ منها عبرة لمن اعتبر! محبّتي للكتبِ والمكتبات نظّمت لي برنامج الظّهيرة، فبعد استراحةٍ قصيرة خرجتُ بصحبة الصّديق لقضاءِ حاجتي من الكتبِ وأصحابِها. أخذنا سيّارة أجرة وسألتُه أن يوصلنا إلى شارع طلعت حرب، وعندما بلغنا تمثالَه أوقفتُه ودفعتُ له ونزلنا. على الرّصيف اليمينيّ ارتفعت لافتة المكتبة بخجلٍ "مدبولي". كانت مكتبةً صخمة فعلاً فيها من الكتبِ ما لذَّ وطابَ، وتذكّرتُ أبا عثمان الجاحظ الذي كان يكتري دكاكين الورّاقين للقراءة فيها في أثناء الليل وهجعاته الطوال... وقلتُ ما أسعدك يا ابن بحر فليلةٌ مع كتاب أثمن عندك من ليالي العاشقين، فكيف تكونُ إذاً ليلتُك بين المئات منها؟! ارتفعت الكتبُ حتّى سقف المكان وفي الأعلى اصطفّت المجموعات العربيّة والإسلاميّة والموسوعات الضّخمة، وفي القسم الأسفل منها ترتّبت كتبُ الآداب والتاريخ والسياسة، وفي غرفةٍ أخرى احتشدت كتبُ اللغات الأخرى ومعاجمها وقواعدها بالإضافة إلى جمٍّ من روايات الأدب العالميّ المنقولة إلى العربيّة. نظرتُ يميناً ويساراً فاقتربَ أحدُ الباعة منّي متسائلاً، وقبل أن يقولَ شيئاً بادرتُه: "دوستويفسكي... الإخوة كارامازوف"؟! فأجابَ: لحظة من فضلك وهرع إلى تلك الغرفة. عادَ ليخبرني بأنَّه عثرَ فقط على أعمال هذا الأديب الروسيّ كاملةً في مجموعةٍ واحدة، شكرتُه وسحبتُ صديقي خارجاً قبل أن تأسرَني الكتبُ فأفرغُ محفظتي انتقاماً من هذا العشق القاتل.
.
خرجتُ أجرُّ رفيقي لاعناً هذا الهوى، فطالعتنا الأقدارُ بمكتبةٍ أخرى انتصبت على رصيفٍ آخر في مواجهتنا تماماً، فعلت وجهي الابتسامةُ، والحسرةُ وجهَ صديقي. دخلنا مكتبة "الشّروق" وخابَ رجائي من جديد، فلعنتُ الرّغبة والحسرة معاً، وانقلبت الأدوارُ فعلتِ الابتسامة لا بل الضّحكة وجه الصّديق! شزراً نظرتُ إليه فسكتَ، ومن فرط غضبي قلتُ له سأتركُ البحثَ إلى يومٍ آخر أكون فيه وحيداً، فهدّأ أحوالي وقال: كنتُ أمازحك يا رجل ما بك؟! قلتُ: اعذرني فمجرّد الدّخول إلى عالم الكتبِ والعودة صفر اليدين يملؤك من الغيظ، وعقّبتُ: تعالَ معي سأريك شيئاً، وسرتُ به عائدين في شارع طلعت حرب حتّى وصلنا المرمى فأوقفتُه وقلتُ: انظر هذه العمارة. وقفَ ينظرُ إليها ثمَّ إليَّ ورفع يديه باندهاشٍ وسألَ: "إي... وبعدين؟! شو فيا يعني؟". غيظي بلغَ وقلتُ: آه، يا... هذه "عمارة يعقوبيان". وشرعتُ أقصُّ عليه حكايتها منذ نشأتها وحتّى اليوم: هذه العمارة أُسّست في الثلاثينات من القرن العشرين على يد الثريّ الأرمنيّ جاكوب يعقوبيان، وبعدَ الثّورة في مطلع الخمسينات تحوّلت إلى شقق سكنها الضبّاط. سمعتُ عنها بعدَ أن ألّف طبيبُ أسنان مصريّ يُدعى علاء الأسواني روايةً تدورُ أحداثُها في هذه العمارة وشخصيّاتها المختلفة مجسّدةً في صغرها المجتمع المصريّ الواسع. ومثّلَ عادل إمام دورَ البطل الرّجل زير النّساء في الفيلم الذي أخرجه مروان حامد. نظرتُ إليه بعد هذا العرض السّريع فوجدتُه غير مهتمّ لا بل متعجّباً من اهتماماتي التّافهة هذه!!! رأى الحزنَ يطبعني فقال لي: سنذهبُ إلى مكانٍ يروق لي ولك معاً "سيتي ستارز" ها ما رأيك؟! قلتُ: حسناً!
.
دخلنا هذا المركز التجاريّ العملاق وسارعنا إلى سوقِه حيث المؤونة والغذاء، وحملنا معنا ما يكفينا أسبوعاً وكانَ بينها باذنجان أبيض أراه لأوّل مرّة أخذناه لنصنعَ منه مع الكوسا والبندورة والفليفلة طعاماً نسمّيه "دولما" وهو "المحشيّ" عند البعض الآخر. بعدَ جولةٍ أخرى من التسوّق في هذا "المول" جلسنا في أحد مقاهيه وطلبتُ كأساً من الشوكولا المثلّجة، بينما اشتهى صديقي كأساً من الشّاي.
.
عُدنا إلى البيت واقتصر العشاءُ على بقايا الغداء وملحقات الصّفرة الأخرى.

الأربعاء، فبراير 04، 2009

الغابة!

في قديمِ الزّمانِ وسالفِ العصرِ والأوانِ كانَ أسدٌ عجوزٌ يحكمُ في غابةٍ قريبة، وكانَ قد سلّمَ وكالةَ مملكته إلى ثعلبٍ ذكيٍّ ماكرٍ استطاعَ أن يثبتَ للجميع أنّه قادرٌ على الحكمِ بدهاءٍ وأن يسوسَ سكّانَ المملكةِ بفطنةٍ لا تخلو من المكر والتصنّع! واستطاعَ بنفوذِه أن يقرّبَ من بلاطِ الملكِ أتاناً (أنثى الحمار) مسنّةً حاقدة على تناغمِ سكّان الغابةِ وصفائهم تُدعى "نهيق"، وكلباً غدّاراً نبّاحاً ينبحُ في وجه الجميعِ ويعضّ الجميعَ بدون رادعٍ أو حساب يُدعى "عواء"، وخفاشاً قبيحاً سيّءَ الطلعةِ والطالع يعتاشُ من دماءِ الآخرين ويتبوّل فوقَ النّعَم يُدعى "ليل".
.
وما لبثَ الثّعلبُ بعونِ صحبِه الأوغاد ومشورتهم الفاسدة أن استكبرَ واستنكرَ وطغى وبغى، فامتلأ ديوانُ القضاءِ بالدعاوى، لكنّه كانَ محشياً أيضاً بالرّشاوى! وهكذا مرّتِ الأيّامُ والغابةُ تحيا في ظلِّ نهيق وعواء وليل، حتّى أتى ذلك اليوم الذي بزغَ فيه الفجرُ عن شبلٍ استطاعَ بمكانته وحظوة بني جنسِه أن يقتحمَ البلاطَ ويلجَ مخدعَ الأسد العليل، ويقصَّ عليه كلَّ ما كانَ...
.
هرولَ الأسدُ لهولِ ما سمعَ وزمجرَ في وسطِ البلاط فخافَ الثعلبُ على نفسِه وآثرَ الهربَ والاختباء في وكرٍ بعيدٍ بناه يوماً عند سفحِ الجبل.غادرَ الشبلُ بعدَ مشورته وعاد إلى عرينِه في دغلٍ كثيف. وفي اليوم التالي دعا ملكُ الغاب صحبَه وعبيدَه ليعطيَ أحداً منهم الوكالةَ الجديدة على سائرِ المملكةِ!
.
قالت الكلابُ: يدعوننا خيرَ الأمناء وأفضل الأصحابِ، ليس لأحدٍ آخر مثل إخلاصِنا وأمانتنا فنسألُ جلالتكم أن يكونَ الوكيلُ "عواء". ارتفعَ الضّأضاءُ وهبّت الحيوانات بين معترضٍ ومؤيّدٍ إلا أنَّ الأسدَ أسكتهم بزئيرِه وقال:
لا تأسفنَّ على غدرِ الزّمانِ لطالما ..... رقصـتْ على جثثِ الأسودِ كلابُ
لا تحسبنّها برقصِها تعلو أسيادها ..... تبقى الأسودُ أسوداً وكلاباً الكلابُ
فلوتْ الكلابُ أذنابها ونبحت نباحاً منخفضاً منقطعاً وانسحبت!
.
فتقدّمَ حمارٌ عجوزٌ ذو لحيةٍ بيضاءَ وقال: تشتهرُ الحميرُ بالصّبرِ والتّعبِ والخدمة من الصّباح حتى المساء دون أيّ مقابل، ولا أحسبُ أحداً أصبرَ منا على مآسي الدّهرِ وأتعابه، ولهذا فقد أجمعنا نحنُ معشر الحمير على ترشيح "نهيق" لكرسيّ الوكالة.
فعادَ الصّخبُ وارتفعت الأصواتُ بالرّفضِ والغضبِ، فضربَ الأسدُ الأرضَ بيده وزأرَ وقال:
يهمهمُ للشّعيرِ إذا رآهُ ..... ويعبسُ إن رأى وجهَ الكتابِ
فارتدعتِ الحميرُ وعادتْ من حيث أتتْ!
.
فقامَ خفّاشٌ أسودُ من بعيدٍ وقال: نحنُ أسيادُ الليلِ وسمعنا لا يُجارى، فأين لأحدٍ أن يفوقنا في هذا، نقدّم رئيسَنا "ليل" فهو الأنسبُ لهذا المكان. ولم ينهِ كلمتَه حتّى عاجلهُ الأسدُ وقال:
سكتتْ بلابلةُ الزّمانِ ..... وأصبحَ الخفّاشُ ناطقا
فطارت الخفافيشُ إلى كهوفِها ولم تعدْ منذ ذلك الحين.
.
أجالَ الأسدُ ناظريه في المكانِ وقال: من كانَ على شاكلةِ نهيق وعواء وليل فليفرّ من قبضتي قبلَ أن أمزّقه إرباً إربا! فتراجعَ الذئبُ والخنزيرُ والضبعُ وغادروا المجلس. وبقيتْ المملكةُ زمناً دونَ وكيل تنتظرُ السّماءَ علّها ترسلُ غيثاً يسقي تربتها الطيّبة فتزهرَ من جديد.
وتوتة توتة خلّصت الحتّوتة .

الأحد، فبراير 01، 2009

خمسة أيّام في العراق تحت الحرب (2/1)

الأحد 13 حزيران 2004 (اليومُ الثّاني)
.
ومثلما اعتادَ أصحابُ الأديارِ، كانت الصّلاةُ في السّابعة صباحاً، لكنّي وبسبب تعب البارحة وكثرة التجوال والتأمّل دخلتُ عليهم متأخّراً أكثر من عشرِ دقائق! وكنتُ أقولُ في سرّي سأدخلُ متمهّلاً بخفيةٍ وأمكثُ في الخلف... لكنّ الرّئيس كانَ أحذقَ منّي فقد أخّرَ سكّان الدّير بانتظارِ الزّائر النّائم، وحالما دخلتُ دعاني أمامَ الجميع إلى مساعدته في الصّلاة، يا إلهي! صرتُ كتلةً محمرّةً ورغبتُ في داخلي أن ألبسَ عباءة الخفاء، لا بل رغبتُ أن تبتلعني الأرضُ وتهضمني وتُخرجني في الخلاء. لكنّ المحالَ محالٌ ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، أحضروا لي ثوباً أبيضَ قصيراً قديماً أحالني إلى قطعةٍ من عالم الآثار والقرون البائدة، وجعلَ منّي حجراً من حجارةِ هذا الدّير النائم على هضبةٍ دون أن يستفيق. بدأَ صلاتَه بألحانٍ شجيّة ومقامات تطربُ لها الأذهانُ قبلَ الأسماع، وراحَ يلعبُ بصوته ومقطوعاته الروحيّة متنقّلاً بين المقامات الشرقيّة مركّزاً على البيات، فيجيبُه شمّاسُه، وأنا بينهما مثلَ أطرشٍ في زفّةٍ صباحيّة!
.
انتهت الصّلاةُ وحمدتُ الله على ذلك آلافَ المرّات، ومكثتُ للحظاتٍ أسألُ النّفسَ عن هذا الطّريق الذي قادني يوماً إلى اجتماعِ مثل هذا في دير الشّهيد بهنام! بعدَ عدّة دقائق كانَ الفطورُ مُعدَّاً مؤلّفاً من جبنة بيضاء مالحة، وزيتون أخضر وأسود، ومرتديلا، وشاي ثقيل. أن تأكلَ على صوتِ الأشجار والعصافير في بستان صغيرٍ، فهذا يُطعمك غذاءً روحياً لا يعبأ بأغذية الجسد. لم أردْ أن ينتهي احتفالُ الطّعام، لكنّ كلمة الرّئيس عن مكتبة المخطوطات الثّمينة عجّلتْ في ذلك! أعادنا من جديد حيث مكتبة البيع وأهداني صوراً وكتباً، ومن هناك سرْنا إلى ركنٍ بعيدٍ مهمل في صدرِه اضطجعَ أكثرُ من أربعمئة مخطوطٍ عربيٍّ وسريانيّ مرميّة على رفوفٍ حديديّة صدئة، مما فطرَ قلبي فأفلت لساني من لجامه وانطلقَ معنّفاً الرّئيسَ دونَ أن أتنبّه إلى لهجتي القاسية. اعتذرتُ منه على عجلٍ وقلتُ له إنَّ مثل هذه الثّروة الأدبيّة يليق بها مكانٌ مناسبٌ لحفظها، وألقيتُ على مسمعه دروساً في حفظِ المخطوطات تعلّمتها عبر دراسةٍ نظريّة وعمليّة لأكثر من خمس سنوات. وفي أحد الأطراف انثنى مخطوطٌ صغير بدون غلاف، حتّى مالَ نصفُه بزاويةٍ حادّة وكادَ أن ينشطرَ نصفين، سحبتُه من موضعه ووضعته منبسطاً في مكانٍ قريب، وعيناي لا تصدّقان ما تريا. وودتُ لو أمكث في هذا المكان أيّاماً أرتّب ما عبثتْ به أيادي الجهل والأميّة الحمقاء وقلّة الحيلة بدون رقيب، لكنّنا كنّا بأمسّ الحاجة إلى هذه الدّقائق للوصول إلى بغداد في الوقت المناسب. وفي ساحةِ الدّير خارجاً وقفنا أمامَ البوّابة الضّخمة والتقطنا بضع صورٍ ثمَّ ودعناهم شاكرين وغادرنا على بركةِ الله.
.
دخلنا الموصلَ من جديد في حوالي التّاسعة والنّصف، وفي أثناءِ المرور شاهدنا كنيسةَ النبيّ يونان التي حُوّلت في عهود العبوديّة والذمّية اللاعادلة إلى جامع النبيّ يونس، قبّتها منشأَة على الطّراز الأرمنيّ ذي الشّكل الهندسيّ الجميل، ومئذنتُها لا تحمل من عناصر الفنون إلا الإسلاميّة. عبرناها وانحرفنا إلى الشّرق باتّجاه دهوك.
.
تركنا الشّمسَ وراءَنا إلى اليمين وأخذنا طريقَ الشّمال، وعندَ إحدى السّاحات تقدّمت ثلاثُ سَيّارات من نوع الهَمَر الأميركيّ تحملُ المارينز، وفي أعلى السيّارة المتوسّطة برزتْ فتاةٌ شقراء تحملُ مدفعاً رشّاشاً مصوّباً نحوَ الأمام وشعرها الطّويلُ يندفعُ من تحت خوذتها متطايراً مع الهواء! اصطفّتْ آثارُ النينويّين إلى اليمين، وبرجٌ عملاقٌ توسّط الطّريقَ. وأمامنا ارتفعَ قصرُ صدّامَ المليء بالعلوج على حدّ تعبير الصحّاف وزير الإعلام العراقيّ السّابق، خلفه مباشرةً كانَ فندقُ أبروي نينوى، وفي غمرة هذه المشاهد والتّصاوير دخلنا الكورنيش وعبرنا فوق دجلة العريض وشمسُ الظّهيرة تعلو في السّماء دون انتظار.
.
في شمال المدينة الحدباء أوقفنا عربتنا أمام محلٍّ لإصلاح العجلات، وأنزلَ أبو بشّار العجلة التي وجدناها صباحاً فارغة من الهواء "على الجنط"! لم يطل الأمرُ كثيراً فامتطينا مركبتنا وحثثنا السّيرَ نحوَ الشّمال الكرديّ جنّة العراق على حدّ قولِ العراقيّين. بلغَ شهرُ حزيران منتصفه وما زالَ الحصّادون يحصدونَ القمحَ المُصفرَّ تحت وقع الشّمس الرّتيب، وأمامَ أبصارِنا بدتْ سلسلة جبالٍ كأنّها خيال ضباب جاثم على الأرض. وإحدى لافتات الطّريق قالتْ: زاخو 80 كم، دهوك 42 كم، سدّ الموصل 17 كم وهذا بلغناه والسّاعة تعلنُ العاشرة والنّصف. كانَ هذا السدُّ يُسمّى سدّ صدّام وهو ضخمٌ ورائع كبحرٍ صغيرٍ على سطحه تغفو سماء زرقاء بين جبال جرداء تُذكّر بسكينة الخالق ونسّاك وزهّاد كانوا يملأون هذه الأرضَ يوماً وينثرون بوجودهم عبقَ طيبِ القداسة ويُظهرون جمالَ اللهِ وكمالِه بين البشر.
.
بعدَ عشر دقائق دخلنا ناحية فايدة وهي إحدى النواحي التي قامتْ على ما يبدو حديثاً بجانب صوامع الحبوب. وعلى تلٍّ بعيد انتصبتْ واحدةٌ من قلاع الديكتاتور الرّاحل. وهكذا أوقفنا كلَّ شيءٍ في العاشرة وخمسين دقيقة عندما بلغنا حدودَ كردستان. ولأنَّ سيّارتنا تحملُ لوحةً مكتوب عليها "بغداد" فقد أنهكنا العسكريُّ الكرديُّ بتفتيشه وتقليبه حاجاتنا. وعلى الحاجز الثاني اقتربُ عسكريٌّ آخر مدجّجٌ بالأسلحة وقالَ بالكرديّة: ﭼاوايِه... باش؟! أي كيفَ الحال... أبخير؟! وعندما اقتربَ أكثر ورأى الصّليبَ معلّقاً في السيّارة، ابتسمَ وقالَ بالسّورث وهي اللهجة الآراميّة المنتشرة في العراق: ܣܽܘܪܰܝܰܐ... ܒܫܶܝܢܐ ܐܚܽܘܢܺܝ: سورايا... بْشِينا خوني، أي: مسيحيّ... بالسّلامة (أهلاً) يا أخي. كانَ آشوريّاً من حزب ܙܰܘܥܐ "زَوْعا". تغيّرَ كلُّ شيء فاكتست الطبيعةُ بالأخضر واعتدلَ الهواءُ وانتعشَ ببرودة الجبال القريبة التي صرنا عندَ أقدامها، وأمامَنا انبسطتْ مدينةُ دهوك مرحّبةً بكلمة الآثوريّ الآراميّة.
.
حملتني الجبالُ واخضرارُها ورطوبة نسائمها إلى لبنان الذي قضيتُ فيه سنوات دراستي الست... وتذكّرتُ فيه كلَّ جميل وذكرى ختمتْ نفسي بختم تلك البلاد الرّائعة المتعبة بسبب قلاقل أبنائها! فتحتْ دهوكُ ذراعيها تستقبلنا كأمٍّ سريانيّة تقتبلُ بنيها بعدَ غيابٍ طويل وتحدّثهم عن ماضيها الحافل بكلّ اغتصابٍ وانتهاك، تخبرهم عن لغتها وأرضها وكلّ قطعةٍ من جسدها وطئها الأغرابُ فأحالوها إلى رمادٍ لا جمرَ تحته!!! امتلأت الأجواءُ بالرّوائح الكرديّة حتّى لافتات الطّريق المكتوبة باللغة الكرديّة كانت تلحّ في إيقاظنا لتكشفَ عن عيونِنا البراقع التي حجبتْ عنها رؤية دولة كردستان الجديدة.