الخميس، يوليو 21، 2011

قراءة في رواية "القوقعة"


حكمتْ "نكتةٌ" بحقِّ الزَّعيم على رجلٍ بريءٍ بالسّجنِ أكثر من ثلاثة عشر عامًا! حكمت عليهِ بالعذابِ والموتِ طوالَ تلك المدّة، لا بل أبعدَ منها وأعمقَ بكثير!

تبدأ قصّةُ المتلصِّصُ (بطل الرّواية) في مطارِ أورلي-باريسَ في العشرين من نيسانَ، ثُمَّ تمتدُّ على جسدِ ونفسِ إنسانٍ معذّبٍ مرذولٍ مهانٍ منتهكٍ بشتّى أساليب الانتهاك الجسديّ والنفسيّ طوالَ ثلاثة عشر عامًا وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يومًا، مرورًا بلحظةٍ خاطفةٍ من حريّةٍ جسديّة على رصيفٍ مبلّلٍ بدموع السّماء أمام باب أحد الفروع الأمنيّة في العاصمة الدمشقيّة، دون أن تنتهيَ في تاريخٍ معيّن! فتوغّلُ القمعِ الوحشيِّ طبعَ هذا المتلصِّصَ بآثار تبرزُ في كلِّ لحظةٍ ممّا تبقّى من لحظاتِ حياتِه، وتأوّن إطارَ السّجن بكلّ ما فيه من شراسةٍ وبربريّة.

كتابٌ في مأساة يرويها لنا الكاتبُ تبيّنَ لنا بطشَ الأجهزة الأمنيّة إبّان حكمِ الرّئيسِ الرّاحلِ حافظ الأسد، وخاصّةً في أثناء أحداث الأخوان المسلمين وما بعدها في العقد التّاسعِ من القرنِ العشرين.

إنَّ التفاصيلَ التي يستعرضها الكاتبُ بكلِّ دقّةٍ لا تفسّرُ أيًّا من الأسبابِ التي دفعت العناصرَ الأمنيّة والعسكريّة إلى معاملة المتّهمين والمحكومين بأفظع وسائل التعذيب وأرهب أشكال الذلّ، وبصورٍ استقاها الكاتبُ من واقعٍ حدثَ ليست توجدُ في عالمِ الحيوان. يصفُ على سبيلِ المثال، وبتفصيلٍ مأساويّ مليءٍ بالرّعب، يومَه الأوّل في السّجنِ الصحراويِّ حيثُ يصلُ بدفعةٍ من واحدٍ وتسعين سجينًا، قُتلَ منهم ثلاثةٌ في ساحةِ التعذيب فورَ الوصول، وماتَ عشرة منهم لاحقًا متأثّرين بالجروح والإصابات البليغةِ جرّاء المعاملة الوحشيّة، اثنان منهم أصيبا بالشّلل، وواحدٌ بالعمى.

ما يلفتُ انتباه القارئ ضمن أحداث السّجنِ الصحراويِّ وغيرِه من السّجون هو هذا التعاضد المتين، والفداء العاجل المجانيّ بين جماعات التيّارات الإسلاميّة، ونذكرُ منها خاصّةً جماعة الأخوان المسلمين. أتساءلُ: لو استطاعَ المسلمُ المنتمي إلى تلك التيّارات أن يخرجَ من قوقعةِ انتمائِه الضيّق نحو أفق الإنسانيّة الأرحب، وأن يمارسَ هذا الفداء عينَه تجاه كلِّ ذي بشر؛ ألن تصبحَ بلادُ المسلمين مثالًا حيًّا على الاشتراكيّة الرّوحيّة، وتتحوّلَ صورةُ مجتمعاتنا القاتمة القذرة إلى صفحةٍ نقيّةٍ تضمّ جميعَ الأطياف والألوان والمذاهب، وتشتركَ هذه الجماعات عينها في صلبِ رسالة المسيح وجوهر فدائه؟!

أنشأت جماعةُ الأخوان المسلمين ما عُرفَ "بالفرقة الفدائيّة"، ولكلِّ مهجعٍ من مهاجع السّجن فرقتُه، وهي تضمُّ خيرة الشّباب ذوي البنية المتينة والجسدِ القادرِ على احتمال جميع أصناف العذاب. وقد تطوّع أفرادُ الفرقةِ الفدائيّة للقيامِ بالمهامّ الخطرة والعاجلة، كإحضار الطّعام تحت وقع السّياط والكابلات العنيف، والنّيابة عن المرضى والشّيوخ في تلقّي الجلد والعقاب. لستُ في معرضِ البحثِ في دوافع هذا الفداء أطمعًا كانَ في ملكٍ سماويٍّ أم إرضاءَ حاجةٍ دينيّة أم إيمانًا عميقًا في جهادٍ أرضيٍّ أم شهادةً حيّةً على الدّينِ... إلخ، إلا أنّي لا أستطيعُ الصّمتَ حيال رغبةٍ تجتاحني في أن ينطلقَ هذا الفداء بدافعِ المحبّة الخالصة المتجرّدة عن كلّ وهمٍ، محبّة الذّات والآخر وصولًا إلى محبّة الله.

كانَ المتلصّصُ مسيحيًّا غيرَ مؤمن وهو الوحيدُ كذلك في مهجعٍ يضمُّ حوالي ثلاثمئة مسلمٍ يتوزّعون بين جماعات مختلفة متفاوتة بين التشدّد والاعتدال! كانَ موقفُ هؤلاء منهُ مختلفًا تراوحَ بين تطرّفٍ وصلَ مرّةً حدَّ محاولة القتل، وبين تعاطفٍ وتآخٍ بلغَ عمقَ الصّداقة كفي حالة نسيم.

إنّ الشّراكة التي يتحسّسها القارئُ مع بطلِ المأساة، لا بُدَّ من أن تحرّك شيئًا من مشاعرِه كما حدث معي عدّة مرّاتٍ إلى درجةٍ قادتني انفعالاتي فيها مع الأحداث إلى البكاء، أذكرُ من تلك الصّور: موت الشّيخ محمود، هذا الإنسان الذي وقفَ في وجهِ المتشدّدين حين عزموا على قتلِ المسيحيِّ الكافرِ الوحيدِ في المهجع! ومشاركتي الشّعورَ بالذلّ حينَ بصقَ أحدُ الضبّاط مخاطَه في فمِ أحد السّجناء وأرغمه على بلعِه. لم أستطعْ كبتَ بكائي مجدّدًا عندما بكى رجالُ المهجع قاطبةً بعد صدورِ حكم الإعدام بأخوة ثلاثة أمام عينيّ والدهم السبعينيّ. فأمّا تفجّعي فكانَ حين التقاء المتلصّص السّجين بأخيهِ بعد 19 عامًا من الفراق وهكذا كانَ أمامَ حادثة انتحارِ نسيم.

أعادت يوميّاتُ المتلصّصِ إلى ذاكرتي الصورَ التي رسمها اليهوديُّ الإيطاليّ بريمو ليفي في كتابِه Se questo è un uomo مؤرّخًا يوميّاته والحوادث التي وقعت له في معسكرات الاعتقال النازيّة، وبرغمِ كلّ ما جاءَ فيها من عذابٍ وذلّ، فإنّ ما حدثَ في السّجن الصحراويّ (في رواية القوقعة) لا يوصف ولا يُقارن بأيّ عذابٍ آخر، لا بل إنّه قد يفوق قصص عذاب القبر الذي تصفه بتفصيلٍ مرعبٍ كتبُ الإسكاتولوجيّا الإسلاميّة.

لستُ راغبًا في سردِ أحداث الرّواية، أو حتّى إيجازها، بل أجده كافيًا ما جاء أعلاه من تمهيدٍ وعرضٍ موجز لأهمّ ما ارتأيتُ الإشارة إليه. باختصار، فإنّ "القوقعة" كتاب يعرض لواقعةٍ حدثت ومنها ما زالَ يحدث، موضوعها الكاتبُ عينُه، يفصّلها بدقّة وبرسمٍ متقن ومؤثّر، ويطرح على قارئها (قارئه) بين الحين والآخر مجموعة من التساؤلات تنفذ إلى أعماق النّفس الإنسانيّة وتدعوه إلى اختبار إنسانيّته مرّاتٍ ومرّات، ثُمَّ تتركه في حالة ذهولٍ وجمود أمام نماذج إنسانيّة عاشت واستمرّت وما زالت. "القوقعة" رواية لمصطفى خليفة لا تُقرأ سوى مرّةٍ واحدة، ليسَ لضعفها أو هشاشتها أو برودة أسلوبها، بل لأنّك لن تجرؤ على أن تفعلَ ذلك مرّةً أخرى.

الاثنين، يوليو 18، 2011

طائرُ النّار وحكايات شعبيّة من الأدب الروسيّ

(هذه العجالة مهداة إلى الصّديق المستنير ضياء ابن نوفل).


فرسٌ نجيبة، ودنيا رحيبة، وذئبٌ أغبر، وطائرٌ ناريٌّ في قفصٍ ذهبيّ... بهذه التعابير تحدّثنا حكاية "طائر النار" إحدى حكايات الأدب الروسيّ الشعبيّة عن إيفان ابنِ القيصرِ بيرندي، بطلِ الحكاية الذي كاد أن يقبضَ على طائر النار سارق التفّاح الذهبيّ! وفي رحلةِ البحثِ عن الطائرِ الهارب يفوزُ إيفان، بمساعدة الذّئب الأغبر، بجميع المكافآت التي وُعدَ بها!

في الحكاية أربعة قياصِرة، بيرندي والدُ إيفان بطل الحكايات الشعبيّة، وصاحب شجرة التفّاح الذهبيّ، وافرون صاحب طائر النّار والقفص الذهبيّ، وكوسمان صاحب الفرس ذات العرف الذهبيّ واللجام الذهبيّ المرصّع بالحجارة الكريمة، ودالمات والدُ يلينا ستّ الحسن والدلال. لكلِّ قيصر في الذّاكرة الشعبيّة ميزة وكنز يميّزانه عن غيره، وإيفان هنا ينجح في الحصول على جميع تلك الكنوز.

أوصى بيرندي أولادَه الثّلاثة بالقبضِ على سارقِ التفّاح الذهبيّ ليلًا، وفي نوبتيهما ينامُ الأخوان الأكبران، ويسهرُ إيفان في نوبتِه لا شجاعةً ولا امتثالًا لوصيّة والدِه في القبضِ على السارق، بل خوفًا من النّومِ على الأرض. هذه هي حياة القصور، لم يتعلّم فيها ابنُ القيصر كيف يواجه خشونة الحياة، بل اكتفى برغد العيش ورفاهية الغنى، والطريف أنّه في نهاية الحكاية يزداد غنىً فوق غنىً. ويعمدُ إيفان، لطردِ النّومِ عن عينيه، إلى الاغتسالِ بندى العشب. يتردّد ذكرُ النّدى في الأدب الروسيّ كثيرًا، فهو سمة من سماتِه لشديد التصاق هذا الأدب بالطّبيعة ووصفِ تقلّباتها بين صيفٍ وشتاء، ربيعٍ وخريف. نذكر في هذا المجال صاحب الدّون الهادئ ميخائيل شولوخوف وكم من مرّة جاءَ على ذكرِ "النّدى" وقطراته في روايته "أرضنا البكر".

يمثّل الذّئب الأغبر في هذه الحكاية الملاك الحارس، والمعين الدائم، وشيخ النصائح في مختلف ثقافات الشّعوب. إلا أنّ إيفان لطمعه في امتلاكِ كلِّ شيء ثمين، ينسى نصائح الذّئب الأغبر مرّتين فيقع في الأسرِ على أثرها مرّتين أيضًايضًا، ولهذا يهمله الذّئب الأغبر في المهمّة الأخيرة، ويقوم بنفسِه بها فيختطف يلينا ابنة القيصر دالمات، ذات الحسن والدلال. إنّ الوصيّة في الحكايات الشعبيّة ونسيانها أسلوبٌ تعليميٌّ يعلّم الأطفالَ ألا ينسوا الوصايا لئلّا يخسروا الامتيازات أو المكافآت الموعودة. على علم النّفس ههنا أن يجيب على سؤالٍ أطرحه في جدوى ربط الوصايا بالمكافآت والجوائز!

هل يجبُ على البطلِ في كلّ حكاية أن يحصلَ على جميع الكنوز والامتيازات بالرّغم من الوسائل غير الشرعيّة كخداع القياصرة في هذه الحكاية؟! أليسَ الأمرُ دغدغةً لمشاعر الأرستقراطيّة والإقطاعيّة (في صورة القيصريّة) في مزيدٍ من الكسب مهما انحطّت الوسيلة المتّبعة في الوصول إلى هذه الغاية؟! وممّا يجدر ذكره كلمة خاطبَ بها القيصرُ كوسمانُ إيفانَ حين أقدمَ على سرقةِ الفرس ذات العرف الذهبيّ: "حتّى الفلّاح البسيطُ لا يُقدمُ على ذلك". وبهذا يجعل القيصر "الفلّاح البسيط" في أدنى طبقات المجتمع في روسيا القيصريّة.

يعود إيفان محمّلًا بالجوائز والكنوز فيلتقي، قبلَ أن يصلَ قصرَ أبيه، بأخويه العائدَين بخفّي حُنين! يحسدُه أخواه ويتآمران عليه ويقتلانه. لهذه الرّواية مصدرٌ دينيّ نجده في قصّة قايين وهابيلَ التوراتيّة، وكيفَ حسدَ الأوّلُ الثاني فقتله (تكوين 4: 1-16). إلا أنّها تنطبقُ أكثر وبصورة أبين على قصّة يوسف البارّ وأخوته، هؤلاء أيضًا حسدوه لكثيرٍ من الأسباب وتآمروا على قتلِه وأخيرًا اتّفقوا على بيعِه عبدًا (تكوين 37: 2-36). فأمّا الغرابُ، الذي يجلبُ ماء الموتِ وماء الحياة إلى الّذئب الأغبر لإعادة إيفان إلى الحياة، فهو رمزٌ ثريّ في التقاليد الدينيّة، نعثرُ عليه حين يرسله اللهُ في القرآن (5: 31) ليعلّم قايينَ (قابيلَ) كيف يدفن أخاه بعد قتله، وحين أرسلَه نوح بعد الطوفان فأخذَ يتردّدُ حتّى جفّت المياه على الأرض (تكوين 8: 7).

في الكتابِ أيضًا أربع حكاياتٍ أخرى، منها "الملكة الضفدعة"، ملخّصها أنَّ إيفانَ ابنَ القيصر يتزوّج بأميرة تُدعى فاسيليسا مسحورة في شكلِ ضفدع، تعود إلى طبيعتها وشكلها عندَ الليل. وفي إحدى الليالي يحرقُ إيفان جلدَ الضفدع فتختفي أميرته بحسبِ شروط السّحر وتصبح أسيرةً في قصرِ السّاحر كوتشي الأزليّ. وكي يعيدَ أميرته إليه وجبَ عليه أن يقتلَ كوتشي. تعينه على هذا الساحرة بابا-ياغا التي تخبره أنّ منيّة كوتشي الأزليّ على رأسِ إبرة، والإبرة في بيضة، والبيضة في جوفِ بطّة، والبطّة في جوف أرنب، وذاك الأرنب قاعد في صندوق حجريّ، وذلك الصندوق الحجريّ فوق شجرة بلّوط عالية. يُذكّرنا هذا النصّ بأغنية شعبيّة تلقى على مسمع الأطفال، جاءَ فيها: "لَيْمونِة يا لَيْمونِة، بابا جَبْلي لَيْمونِة، أَشَّرْتا وأَكَلْتا، وما طَعْميْت لَـحَّدْ منّا، واللي رايح عَ المكتب، جبلي شَأّوفة كَعْكِة، والكَعْكِة في الصَّنْدوء، والصَّنْدوء ما لو مفتاح، والمفتاح عند الحدّاد، والحدّاد فــ الطّاحونِة، والطّاحونِة مْساكْرَة، فيّا مَيّ مْعاكْرَة، هون مْأَصّ، وهون مْأَصّ، فيّا عروس ترأص رَأْص". تنتهي الحكاية بمقتل كوتشي واسترداد فاسيليسا والعيش معًا بسعادة وهناء.

الحكايتان الثّالثة "الفرسُ سيفكا بوركا"، والرّابعة "باسمِ السّمكة السحريّة" طريفتان، بطلاهما كسولان لكن طيّبان! تعلّماننا أنَّ الطّيبة وخدمة الآخرين لا بُدَّ من أن تُردّان إليك، والعملُ الدؤوب المتواصل بلا حظّ لا نفعَ لهُ، بيدَ أنّ المحظوظ ناجحٌ رابح بلا جهدٍ ولا عمل! تعيد هاتان الحكايتان على ذاكرتي المثل المتداول بين أبناء الجزيرة السوريّة "الـــْ ما لو حَظ لا يتْعَبْ ولا يشْقَى"! يختم الرّاوي الحكاية الرّابعة بجملةٍ ألفتْ سماعُها الآذانُ العربيّة، يقول: "وهنا تنتهي الحِكاية، ومَن سمعها ربحَ الرّاية". وهو أسلوبٌ سجعيّ تُختم به عادةً القصائد والحكايات في الأدب العربيّ الشعبيّ، كحكايات "ألف ليلة وليلة" وختامها الشّهير "وأدرك شهرزاد الصّباح فسكتت عن الكلام المباح"، وختام حكايات العامّة "وتوتِة توتِة خلْصتْ الحَتّوتِة". أذكرُ حين كنّا أطفالًا وكنّا نردّد قصائد الشّاعر السوريّ سليمان العيسى، كنّا نقول: "سليمان العيسى ياكلْ هَريْسَة". وأطفال حلب يقولون: "سليمان العيسى بيّاع الكوسا"!

نقتطفُ، ختامًا، من الحكاية الخامسة والأخيرة "فاسيليسا الفاتنة" وصفًا فريدًا لأوقات اليوم الثّلاثة: فالفارسُ الأبيضُ فارسُ الفجر (المطلع)، والأحمرُ فارسُ الشّمس (المشرق)، والأسودُ فارسُ الليلِ (المنتهى).

تتشابهُ أغلبُ الحكايات بوجودِ ثلاثة أبناء أضعفهم هو الأصغر لكنّه الأكثر حظًّا، وغالبًا ما تتّخذ الرّوايات الدينيّة الابن الأصغر للحصول على البركة ولتسلّم مقاليد الـمُلك والسّلطة كيعقوب أمام عيسو، وداود أمام إخوته. كما تتشارك الحكايات في استخدام اسم "إيفان" بطلًا عامًّا وهذا دليلٌ على انتشار الاسم وكثرة استعماله في تلك الحقبة الزمنيّة.

السبت، يوليو 09، 2011

حريّة افتراضيّة

تهربُ من الدّلف لتقع تحت المزراب!

هذه هي قاعدة الحياة اليوم وأساس العلاقات في هذا العالم الإنسانيّ الفقير المريض، وللالتفاتِ على مثل هذه القاعدة، وتخطّي هذا الأساس؛ وجب أن تكون منافقًا بامتياز، أو سياسيًّا من الدرجة الأولى (اخترْ درجتَك)، أو ديبلوماسيًّا صاحبَ تقيّة! وهي صفاتٌ متفاوتة الدّرجات والمراتب في بني البشر، تنبع من العقل والفكر والإرادة الحرّة لتحقيق بعض الرغبات والأهداف. جدير بالذكر أنّ عالمَ الحيوان خلوٌّ منها.

هل أنتَ حرٌّ في عالمك الصّغير أو الكبير، أو في واقعك ومحيطك؟! هل تجرّأت على قياس حريّتك والتعرّف بحدودها كما تقيس الحرارة بميزان من الزئبق الأحمر؟! ما جدوى طلب العيش حرًّا في عالمٍ يخلو من الحريّة؟! أم أنّك ترى يا عزيزي أنّ الحريّة هي قدرتك على ممارسة الأهواء والقيام بالمغامرات وإشباع الغرائز من أكلٍ وشربٍ ونومٍ وجنس؟! ألا ترى معي أنّ الحريّة ترتبط أشدّ الارتباط بالكرامة؟! ما نفع حياتك وإنسانيّتك بلا كرامةٍ وبدون حريّة التعبير والتفكير؟! هل تكتفي بما قُدّم إليكَ من وجبات فكريّة كما يكتفي الحمارُ بما يُقدّم إليه من برسيم؟!

إنّ القواعد التي فرضها عليّ محيطي في الصّغر أثقلتني وأنهكتني، ولم أشعرْ يومًا بالحريّة، ولم أذق لحظةً طعم الكرامة دون الخضوع لشروط البشر المذكورة أعلاه! حريّتك وكرامتك هي في نفاقك، وهذا ينقض جوهر الحريّة ولبّ الكرامة. إذًا لا مجالَ لك إلا أن تخدع نفسَك بعيش هذه والشّعور بتلك! في سورية، وفي منطقتي النائية عن قلبِ الله ومركز التمدّن، اختبرتُ مرارة الواقع الدينيّ، وفساد العقل الاجتماعيّ، ورداءة الممارسة السياسيّة، وسوء القمع والتنكيل والاضطهاد! وفُرضَ عليّ أن أكون واحدًا من المستعبدين، يقتات من نفاقِه طعامَ يومه وشرابه. في لبنان شعرتُ أوّل مرّةٍ بطعم الحريّة وقيمة الإنسان ككيان مستقلّ فريد، وهذا الشّعور الجزئيّ القليل أشعلَ في قلبي شرارة التوق الأبديّ إلى ملء حياة من الحريّة والكرامة. لم يكن ذلك في لبنان عامّةً، بل خاصّةً، وخاصّةً جدًّا: على مقاعد الدراسة الجامعيّة، وفي قلب المحاضرات! خارجها قليلٌ منه لا يُذكَر...

في الواقع، وفي أغلب بلدان العالم، إن لم نقل جميعها؛ لا وجود لحريّة تامّة ولا لكرامة مطلقة. كلاهما محدودان ضمن أطر ثقافيّة قانونيّة اجتماعيّة دينيّة تختصّ بكلّ بيئةٍ وبلد! هذا ما يدفع المرء كثيرًا أو قليلًا إلى البحث عن واقعٍ بديل للتنفيس عمّا أغلقَ عليه، وللتعبير عن غير المباح في الواقع الأوّل. أُطلقَ الافتراض مع إطلاق الإنترنت، والافتراضُ يعني الظلّ والرمز والتصوّر والخيال مفصولًا بأجزاءٍ تكثر أو تقلّ عن الواقع. فالواقع هو أنت جسدًا ومَلكات، والافتراض هو أنت (أكبر وأكثر وأوضح) في الإنترنت لكن بصورةٍ خياليّة. وهو يعاكس عالمَ أفلاطون هذا الفيلسوف الذي صوّر واقع البشر (واقع الجسد) بالظلّ والخيال، وأشار إلى الحقيقة بالافتراض (نفس دون جسد)! فإن كان بحثي عن أقصى درجات الحريّة وأسمى مراتب الكرامة لم يتحقّق في واقع الأجساد، لكثرة الحدود والقواعد والأطر والتحديدات والموانع؛ فهذا ما يدفعني إلى البحث عن هذين القيمتين وعيشهما في الواقع البديل (الافتراضيّ). ولأنّه افتراضيٌّ أي رمزٌ وخيال للواقع، فمن السّهل أن تجد فيه ما تبحث عنه مهما ارتقى موضوع البحث على واقعك الجسديّ. اختباري خلال السّنوات الأخيرة أثبت لي أنّ هذا الافتراض محدودٌ أيضًا ومقموع بالاقتصاد أبي السّياسة والإعلام والإيديولوجيّات... إلخ! واقعٌ محدود مكبَّل ومُكبِّل وافتراضٌ محدود مقيَّد ومقيِّد، فهل ثمّة بديل آخر؟!

قبلَ عدّة أيّام وعلى صفحات الفيسبوك كتبتُ تعليقًا صغيرَ الحجم بسيط الفكرِ والكلم حول مظاهرة الأوكرانيّات عاريات الصّدر أمام السّفارة السعوديّة في كييف دعمًا للمرأة السعوديّة نحو عيش حقوقها كاملةً دون انتقاص واحدٍ منها. ووضعتُ صورةً واحدةً تبيّن شكلَ المظاهرة وإحدى لافتاتها. كما ختمتُ التعليق بتساؤلات دينيّة - فكريّة موجّهة إلى الإنسان عامّةً والرّجل خاصّةً (يُمكن القراءة والمشاهدة في هذه المدوّنة تحت عنوان "إقصاء المرأة: النموذج السعوديّ"). اليوم التالي قامَ الفيسبوك بحذفها أصلًا وجذرًا مع تنبيهٍ أوّل! هدّدني الفيسبوك في حالِ العودة إلى "خرق" قواعده "الأخلاقيّة" بإغلاق حسابي، لأنّه يعتبر البشر يتنفّسون من منخره، ويشربون ويأكلون من بلعومه ومعدته! ومراعاةً للأصول ساعدتني صديقتي على كتابة رسالة مطوّلة بالإنجليزيّة شديدة اللهجة أطلب فيها توضيحًا للحذف وإشارةً إلى مكامن خرق "القواعد الأخلاقيّة والقانونيّة"! لا جوابَ حتّى اليوم، وقد لا يصل أيُّ جواب... لا بُدَّ إذًا من واقعٍ بديلٍ آخر، أظنّني اقتربتُ من الكشفِ عنه، حينها سأطلّق الفيسبوك الديكتاتور وزبانيّته من كتبة التقارير والمخبرين والمتقوقعين والمرضى الفاسدين هؤلاء الذين أودوا بموضوعي الصّغير وحصلوا لي من محكمة الأمن الفيسبوكيّة على تنبيهٍ أوّل قد يؤدّي مع سبق الإصرار على ارتكاب الفحشاء في الأديان والسّياسة والجنس إلى سجنٍ مؤبّد أو نفيٍ لا عودة فيه!