الاثنين، نوفمبر 02، 2009

المرصدُ الفرنسيُّ في بَلدة "خانيك" السوريّة

حملُ السّفر أخفُّ من الرّيشِ على كاهليّ، فقد عشقتُ الترحالَ وأحببتُ الخوضَ في بحارِ بلادٍ لا تعرفها نفسي، أجني منها وأغترفُ كلَّ ما أشتهي وأستطيب! كنتُ سمعتُ منذ فترةٍ طويلةٍ ببلدةٍ سوريّة صغيرة تقعُ على ضفافِ نهرِ دجلة على الحدودِ السوريّة مقابل بلدة "بيشخابور" العراقيّة تُدعى "خانيك". وعلمتُ أيضاً في ما بعد أنّها بلدةٌ سكّانُها كلدان لغتهم إحدى لهجات الآراميّة تنضمّ إلى مجموعة اللهجات المدعوّة "سُورَثْ". وبقيتْ زيارة هذه البلدة شهوةً في قلبي دامتْ ردحاً من الزّمن، حتّى آنَ أوانُها في خريف عام 2008. وهكذا حملتني حافلاتُ السّفرِ من بلدتي إلى مدينةِ القامشلي ومنها إلى ديريك (المالكيّة) ونزلتُ ضيفاً عندَ قريبٍ لي. عندَ الصّباح أقلّتنا سيّارةٌ نحوَ المقصَدِ في طريقٍ إسفلتيّ لم يدمْ طويلاً منه أخذنا اليمينَ في دربٍ ضيّقةٍ ترابيّة تمرُّ عبرَ حقولٍ وقرىً في غالبيّتها كرديّة. وهكذا قضينا تلكَ السّاعة في أرجوحةٍ بأربعة دواليب حتّى وصلنا أخيراً إلى المكانِ المنشود وقد لبسنا الغبارَ وابتلعنا منه ما يكفينا غداءَ ذاك النهار!
.
بعدَ تجوالٍ سريعٍ في القرية وبضع زيارات قمنا بها إلى منازلِ أهاليها امتطينا الطّريقَ راجلين نحو النّهر المنحدرِ من جبالِ تركيّا الشرقيّة المارّ بعنفِه المعتاد بالحدود الفاصلة بين سوريّة والعراق. "دجلة" هذا الاسم العابق بأمجادِ آشورَ ومن وحيه أخذَ الملوكُ الآشوريّون اسمَ "تِجْلَتْ" فتسمّوا به، ومنه أخذت نخلةُ التمرِ اسمها في الآراميّة "دِقْلَتْ"! كانَ ينبضُ بالحياةِ ودوّاماته المُرعبة تسخرُ بالسّابحين والأغرار، فأمّا مشيته فأقلّ ما يُقال فيها عدوَ فهدٍ خلفَ الفريسة. وما فريسةُ هذا النّهرِ الغامضِ سوى بشرٍ ومراكبَ وحتّى المنازل! خلعنا نعالَنا كما خلعَ موسى نعلَيه على الجبلِ المُقدَّس وخضنا في مياهه بتأنٍّ خوفاً من الانزلاق فالابتلاع، وسرنا في مياهٍ صافيةٍ إلا أنّها والمجهول سيّان، ورحنا نرقبُ كنيسة "بيشخابورَ" المنتصبة على التلّة وخلفها من بعيد برزَ منزل عزيز ياقو الشّهير.
.
عندَ مَقْدمنا وإلى اليمين لفتَ نظري مبنىً صغير يرتفعُ فوق أعلى جبلٍ بين تلك الجبال سألتُ عنه فورَ وصولِنا فأخبرني شابٌّ يافعٌ لوّحته الشمسُ فاسمرَّ يضعُ "يَشْمَراً" (شماخاً) على كتفيه وقال: هذا مرصدٌ فرنسيٌّ هُجرَ مذ رحلتْ فرنسا عن هذه البلاد! فسألتُه إن كنّا نستطيعُ زيارتَه فأومأَ بالإيجاب. وعندَ عصرِ ذلك اليوم أحضرَ الشابُّ نفسُه "بيكاباً"، وهو نوعٌ من السيّارات يغلبُ استعمالُه عندَ أهلِ الأرياف والقرى، فركبَ بعضُنا في مقصورته والبعضُ الآخر في الخلف، وأسرعنا في ارتقاءِ الجبل. كانَ علينا قبلَ الوصول اجتيازُ ثكنةٍ عسكريّةٍ سوريّة، أبقينا بقربِها السيّارة بعدَ أن حيّينا عساكرَها، وأكملنا صعودَ التلّة على الأقدام. وصلنا أخيراً مقطوعي الأنفاس لوعورة الارتقاء وأخذنا بعضَ الرّاحة قبل أن نبدأ في التعرّف على المرصدِ المهجور. كانَ عبارةً عن طاولةٍ شبه مستديرة تملأُ قمّة الجبل بأكملها على غرار مدينة "العمّاديّة" العراقيّة، وكأنَّ جلاداً قد قطعَ رأسَ هذا الجبل وأبقى منه الجسدَ، فكانَ المرصدُ يتربّعُ على كتفيه مسوّراً بسياجٍ مهدَّمٍ من الحجارةِ السّوداء. في وسطِ المكان وفوقَ صخورٍ سوداء ضخمة ارتفعَ مبنىً صغير لا يسعُ أكثر من خمسة رجالٍ وقوفاً، على شكلِ مثلّثٍ، يُرتقى إليه بثماني درجاتٍ، مشيّد بحجارةٍ صفراء على طرازٍ غريب أراه أوّلَ مرّة. شكلُ المبنى الهندسيّ المثلّث، وحجارته المرصوفة بعناية واتقانٍ فائقَين؛ يدلان على تلك اليد الفرنسيّة التي نصبته. فأمّا الشّكلُ المثلّث فيعود إلى هدفِ حمايته من الرّصاص أو القذائف التي قد تُصيبه. فجدرانه الثّلاثة المطلّة على أربعِ جهات، منحنية بشكلٍ يُخفّف من أثر أيّ صدمةٍ قد يتعرّض لها. وقيلَ لنا إنَّ المراصدَ العسكريّة المرتفعة صعبةَ المنالِ عن قرب، كانت تُبنى على هذا الشّكل تحسّباً من التعرّض لها عن بعد. وخصوصاً مثل هذا المرصد المبنيّ على رأسِ الجبل على شبه قاعدة لا يُمكن الاقتراب منه أو الوصول إليه براً بسهولة، فالتفكير في السّيطرة عليه لن يكونَ إلا جواً أو بهجومٍ برّيٍّ مكثَّف!
.
يُطلُّ المرصدُ على وادي دجلةَ كاملاً كما يُمكنه من مكانِه هذا الإشرافَ على جميع الوديان والجبال والتلال الصّغيرة. وكانَ أن أسرتْنا تلك المشاهد وأخذتْ من وقتِنا حتّى غابتِ الشّمسُ وشرعَ المساءُ بإرخاء ستارته معلناً انتهاءَ عرضِ ذاك النّهار! لم يكن لمثلِ هذه الرّحلة في بلدٍ مثل بلدي أن تُقضى دونَ أسفٍ أو ما يسلبُ قليلاً أو كثيراً من فرحتِها. فالإهمال البادي للعيان كانَ السبّاق إلى الترحيبِ بنا. فالسّورُ الحجريُّ الأسود لم يتبقَّ منه في أمكنة كثيرة إلا آثاره، وما يدلُّ على أنَّ سياجاً مرَّ من هنا. والغرفُ التي كانت مبنيّة بمحاذاة السّور مهدَّمة، بقيت منها أسس الجدران لا أكثر. فأمّا المرصد المثلّث الصّغير فقد تعرّض لسرقات أحجاره الصفراء المصقولة على يد عربِ القرى المجاورة، وما لم يستطيعوا نهبَه فقد هدموه إمعاناً في الخراب.
.
ذهبتْ فرنسا ورحلتْ وبقيتْ آثارُها تذكّر أصحابَ الأرض بأنَّ أكثر من ستّين سنةً مرّت وبلادُهم على حالِها، إن لم يكنْ إلى الوراء! بقي هذا المرصدُ الصّغير وبقاياه القليلة بعدَ أكثر من نصفِ قرنٍ على رحيلِ بانيهِ يقولُ للتاريخ: من هنا مررنا! ويقولُ لأبناءِ سوريّةَ ماذا فعلتم طوالَ تلك السّنين؟! كانَ المرصدُ فرنسيّاً في أبهى حلّةٍ وثوب، وبعدَ أن آلَ إلينا صارَ خراباً تأوي إليه الجرذانُ والبومُ في الليل، وأصحابُ قضاءِ الحاجات والخراء في النّهار! ألم يكنْ حرياً بمن يدّعي الحضارة والتاريخ الحفاظ على مكانٍ ومبنىً صغيرٍ جميلٍ مثل هذا؟!
.
ذكرَ لي الشّابُّ الأسمر أنَّ مجموعة من السُيّاح الفرنسيّين مرّوا قبلَ أعوام وعلموا بأمرِ المرصد فتاقوا إلى رؤيته وبعدَ أن صعدوا ورأوا ما رأيتُ ابتسموا! رسمَ المرصدُ وأطلالُه ابتسامةً حزينة على وجوه الفرنسيّين، وتركَ في قلبي غصّة عميقة وفي نفسي أسىً لن يزول! كانَ من الممكنِ أن يكونَ هذا المكان مقصداً يقصدُه السيّاحُ، لا بل كانَ لهُ أن يكونَ متحفاً واستراحةً تخلبُ ألبابَ الناظرين بمشهدٍ يُبدي وادي دجلةَ وكلّ جبلٍ ووادٍ مجاور! قد أكونُ حالماً في بلدٍ لا يعرفُ حرّاسُه وأبناءُه من معاني الثّقافة والحضارة إلا أسفلها وأدرك درجاتها، لا يعرفونَ منها إلا نهبَ أرضهم وبلدهم ووطنهم بكلّ ما فيه من ترابٍ وحجرٍ وشجرٍ وثمرٍ لا بل وبشر! يعرفونَ جيّداً كيفَ يكمّونَ الأفواهَ عن قولِ الحقيقة ونقدِ الفساد، ويعرفونَ أيضاً كيف يبرقعون العيونَ فيحرمونها من البصر، وبرقعة العيون أقلّ ما يُمكن أن يُقال في وطنٍ يقتلعها إن أخطأتْ يوماً فأبصرتْ! يعرفونَ كيفَ يكونُ قمعُ البشر وكيفَ يكونُ هدمُ الحجر، ولا يعرفونَ كيفَ يُحافظونَ على بلادِهم وأرضِهم وجمال ما فيها! عُدتُ باكياً بعدما أتيتُ باسماً... فآثارُ الغرباءِ تدعوكَ إلى الفرحِ وآثارُ أبناء وطنِك تُرغمك على البكاء!!!
.
ختاماً لي رغبة أقولُها وكلمة أختمُ بها فلعلَّ وزارة الثقافة أو وزارة السّياحة تصغي، فيها أسألُها بكلّ رجاء أن تحافظ على ما تبقّى لنا من تراب، فإذا ما خسرنا هذا الأخير خسرنا ما يُسمّى "الوطن"!
.

الجمعة، أكتوبر 23، 2009

القهوة والمقاهي في بلاد الشّام في القرن السادس عشر

كنتُ في زيارة معرض الكتاب الذي أُقيم في المركز الثّقافيّ في بلدتنا المغبرَّة، خرجتُ منه وبين يديّ ثلاثة عشر كتاباً متنوّعة المسائل والموادّ. ومن بين تلك الكتب رحتُ مساءً أتصفّح أحدها فلذَّ لي ما حواه من التّاريخ وبلغت بي تلك اللذّة أن عزمتُ على إيجاز مقاله الأوّل. عنوان الكتاب "دراسات في التاريخ الحضاريّ لبلاد الشّام في القرن السّادس عشر" ومؤلّفه الدكتور محمّد م. الأرناؤوط، وقد طُبع في مطبعة ألف باء – الأديب في سنة 1995 في دمشق. والكتاب يقع تحت الرّقم الثالث في سلسلة صادرة عن دار نشر "مكتبة الأبجديّة". فأمّا المقال فعنوانه "انتشار القهوة والمقاهي في بلاد الشّام الجنوبيّة خلال القرن السّادس عشر" ويقع بين الصفحات 5 -18.
.
يفتتح الكاتب مقالَه بوصول القهوة البنيّة إلى بلاد الشّام وبروز المقاهي فيها أوّلَ مرّة، وما نتج عن ذلك من أحداث وآثار في تاريخ المنطقة وفي نتاج الفقه والشّعر والصّراع الدائر بين محلّلي القهوة وممتدحيها وبين محرّميها والحاملين عليها. كما أنّ بروز المقاهي أو "بيوت القهوة" أدّى إلى تحوّلها إلى منتديات ثقافيّة واجتماعيّة تجمع الفقهاء والشعراء وهواة الموسيقى والمسرح وتمارَس فيها أيضاً بعض الألعاب كالطاولة والشطرنج... إلخ.
.
كانَ القرن السادس عشر الميلاديّ (العاشر الهجريّ) زمن التغييرات السياسيّة في المنطقة المعنيّة فسقوط دولة المماليك ونشوء الإمبراطوريّة العثمانيّة أدّيا إلى تحوّلات كبيرة اجتماعيّة واقتصاديّة، منها كما ذكرنا وصول القهوة وبروز المقاهي وارتيادها الذي صارَ عادةً اجتماعيّة جديدة. ولعلّ إطلاق اسم "القهوة" (وهو من أسماء الخمر عند العرب) على هذا المشروب الجديد كان من سوء حظّه وسبباً أساسيّاً في معارضة الفقهاء وتحريمه. والاسمُ عينُه أوقعَ المؤرّخين في الخلطِ فالغلط، إذ ردّوا القهوة البنيّة إلى العصرِ الأمويّ، وهي لا تعودُ في الحقيقة إلا إلى القرن السّادس عشر.
.
هنالك ثلاث روايات عن وصول القهوة وانتشارها أولها تقولُ إنَّ الشيخ محمد بن سعيد الذبحاني (ت. 1470 – 1471 م.) حمل القهوة إلى عدن ومنها وصلت الشّمال عبر البحر الأحمر. ثانيها تذكر الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت. 1408 م.) الذي يُرجَّح أنه عرف القهوة في الحبشة حيث نشر مذهبه الشاذليّ. وثالث الروايات تخبر أنَّ الشيخ أبو بكر بن عبد الله الشاذليّ الملقّب بالعيدوس أو العيدروسيّ قدم دمشقَ من اليمن حاملاً معه القهوة، وتوفّي فيها سنة 1503 م.
.
نلاحظ من هذه الروايات الثّلاث أنَّ القهوة ارتبطت بالصوفيّة على الطريقة الشاذليّة، ومنها نستخلص أنّها وصلت الشامَ في نهاية القرن 15 وبداية القرن 16. وما يُساعد على بناء هذا الاستنتاج هو أنَّ القهوة في الجزائر تُسمّى "شاذليّة". وفي ضواحي دمشق كانَ ربُّ البيتِ يسكبُ من إبريق القهوة الفنجان الأوّل على الأرض على أنّه حصّة الشاذليّ مخترعها، وإن لم يفعل فإنَّ القهوة تراق بأكملها. في هذا يؤكّد المؤرّخ الدمشقيّ نجمُ الدّين الغزي (ت. 1651 م.) على أنَّ العيدروسيّ هو مكتشف القهوة، فإنّه مرَّ في سياحتِه بشجر البن فاقتات من ثمرِه فوجد فيه تخفيفاً للدماغ واجتلاباً للسّهر وتنشيطاً للعبادة، فاتّخذه قوتاً وشراباً وأرشدَ أتباعَه إليه.
.
وصدفَ أن دخلت القهوة الشّامَ في زمن دخول هذه تحت سلطة الدولة العثمانيّة، فأصبحت القهوة قضيّة عثمانيّة فتنازعَ حولها الفقهاء والأدباء والسياسيّون لقرنٍ من الزّمن، ووصلَ الأمرُ أيضاً إلى السّلطان ممّا جعلها أمراً يتعلّق بالدّولة كاملةً. ويذكرُ ابنُ طولون (ت. 1545 م.) أنّه شربَ مع جماعةٍ القهوة المتّخذة من البن ويعلّق قائلاً: "ولا أعلمُ أنّها شربت في بلدنا قبلَ ذلك"! كما يذكرُ الشيخَ علي بن محمّد الشاميّ الذي أتى دمشق وأشهرَ فيها شربَ القهوة فاقتدى بهِ النّاسُ وكثرت حوانيتها.
.
لكنَّ أمرَ القهوة كانَ منوطاً بقاضي دمشقَ، وهذا يتغيّرُ من حينٍ لآخر، ففي مطلع سنة 1545 م. عُيّنَ الشّيخُ محمّد بن عبد الأوّل الحسيني قاضياً في دمشق فجمعَ بعضَ العلماء ونادى بإبطالها، ولم يكتفِ بذلك، بل عرضَ الأمر على السّلطان سليمان القانونيّ فوردَ الأمرُ بإبطالِها في شوّال من سنة 953 هـ. – 1546 م. ومن المعروف أنَّ السلطان استندَ إلى إحدى فتاوي شيخ الإسلام المرجعيّة الإسلاميّة العليا، وفي ذلك الحين كانَ يتولّى المشيخة أبو السّعود العمادي، ومع أنّه كانَ متنوّراً إلا أنَّ موضوع القهوة عُرضَ عليه بشكلٍ متحيّز، فالمؤرّخ الغزّي يُخبرنا أنّه سُئل عن شرب القهوة "بعدما قُرّر له اجتماع الفسقة على شربِها"، فأجاب: "ما أكبَّ أهلُ الفجور على تعاطيه فينبغي أن يتجنّبه من يخشى الله ويتّقيه".
.
والأمرُ نفسُه حدث في مدينة القدس، فخوفاً على بيوت الله فيها كتبَ قاضيها إلى السلطان سليمان القانونيّ يطلبُ منه إغلاق المقاهي فيها (وكانت خمسة) وتجاوبَ السّلطان وأمرَ بذلك في 3 كانون الأوّل 1565 م. وبعدَ وفاتِه عادتْ القهوة إلى مكانتها شيئاً فشيئاً بالرّغم من منع افتتاح المقاهي في المناطق التي يُسيطر عليها أعداء القهوة البنيّة. وبرغم عودتها فقد برزت المعارضة ثانيةً خلال عهد الوالي سنان باشا، فقد بقي خطيبُ الجامع الجديد في دمشق على موقفه حتّى أنّه ألّف رسالة في تحريم القهوة، فردّها عليه أهلُ عصرِه، واُعتبِرَ مخالفاً الإجماع لكثرة مناصريها. ورجحتْ كفّة المناصرين حينَ أصدرَ شيخُ الإسلام بستان زاده محمد أفندي (1589 -1592) فتوى صريحة في تحليل القهوة.
.
فأمّا عن المقاهي وبيوت أو حوانيت القهوة فإنّنا نجدُ مقهىً في محلّة "السويقة" بدمشق. كما قامَ الوالي درويش باشا ببناء دار للقهوة بجوار السّوق الذي أنشأه قربَ الجامع الأمويّ وذلك ضمن وقفه الذي اشتملَ على حمّام وقاساريّة وجامع، وعن مكان لطبخ القهوة في سوق "السباهية" أو "الأروام" بدمشق (مدخل سوق الحميديّة اليوم). كما قامَ الوالي مراد باشا ببناء مكانٍ لطبخ القهوة وبيعها في جوار السّوق عندَ باب البريد. وتحدّد وقفيّة الوالي سنان باشا ثلاثة بيوت للقهوة: الأوّل في سوق العمارة والثّاني في سوق السنانية والثالث في خان عيون التجار.
.
وبالرّغم من أنَّ السلطان مراد الرّابع 1623 – 1640 بادرَ بشكلٍ مفاجئ إلى تحريم القهوة وإعدام بعض من تجاهل هذا المنع، إلا أنَّ "ثورة القهوة" لم يعدْ بالإمكان كبحُها بمثل هذه القرارات. وهكذا سمحَ السلطان محمد الرابع (1648 – 1687) ببيع القهوة في الأسواق. ولم تعد المقاهي مكاناً لشرب القهوة فقط، بل غدت مكاناً تُقدّم فيه "المغاني"، ومكاناً يجمعُ هواة الفنّ المسرحيّ الشعبيّ (الكراكوز) والفن الروائيّ الشعبيّ (الحكواتي) وأصحاب الصّرعات الجديدة (ألعاب الخفّة وغيرها)... وهكذا فقد انتشرتْ في البادية أيضاً ولم يعد في الإمكان النّظرَ إلى المجتمع البدويّ بدون القهوة.
.
(لقراءة هوامش البحث ومصادره ومراجعه يُرجى العودة إلى المقال في الكتاب المذكور أعلاه).
.

الجمعة، أكتوبر 16، 2009

"عزازيلُ" يوسف زيدان: قُبحُ الرّواية وتشويه التّاريخ

(نُشِرَتْ في جريدة "النهار" اللبنانيّة، الأربعاء 14 تشرين الأول 2009، السنة 77، العدد 23844).
.
كنتُ أتصفّحُ جريدة "النّهار" يومَ الثّالث من تشرين الأوّل 2009 فلفتَ انتباهي مقالٌ للأستاذ جهاد الزّين يتحدّث فيه عن "عزازيل" رواية الكاتبِ المصريّ يوسف زيدان، وعن فنّ الرّواية التّاريخيّة، ويلمح إلى خمول أدباء الشّام - لبنان في مواجهة المصريّين الذين ما زالوا يحتفظون "بحسٍّ إبداعيٍّ تاريخيّ" على حدّ قولِه. وأعادتني قراءته إلى الرّواية نفسِها وما انتابني من مشاعرَ وأفكارٍ بعدَ الانتهاء منها قبلَ حوالى أسبوعين.
.
عرفتُ الرّواية وسمعتُ عنها في غمرة الضجّة التي أثارتها ضدّها الكنيسة القبطيّة في مصر، وبدلَ أن تنجح الكنيسة في ما أرادتْ، ساهمتْ بشكلٍ كبير في نشرِ الرّواية وإطلاق اسمها في الآفاق، ولا أظنّني أبالغ إذا ما قلتُ إنّ بلوغ الرواية طبعاتها المتلاحقة (4 طبعات في 2008) يعودُ قطعاً إلى الهجوم القبطيّ العنيف الذي بلغ، ويا للأسف، القضاء المصريّ! ولستُ أرى الآنَ في ردّة الفعل هذه سوى ضعف وشبه بالأزهر وبكلّ مؤسّسة تخشى من الكلمة على أتباعِها، وأقولُ الأزهر متذكّراً تحريم "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوريّ حيدر حيدر. فالمشهدُ هو ذاتُه مع اختلاف الأطراف: رواية الوليمة كُتبت ونُشرت في نهاية الــسبعينات، ثمَّ طُبعتْ من جديد فحرّمها الأزهر لعبارات وردتْ فيها. وكانَت هذه الحرم مادّةً للصّحف والمجلات، وبدلَ أن يخــضعَ القارئُ العربيّ (وخاصّة المصريّ) لقضاء الأزهر، نراه يفعل المستحيل ليحصلَ على الرّواية بأيّ ثمن، وليقرأ تلك العبارات التي أغاظت اللهَ والأزهر من بعدِه. وكانَ هذا حالَ "عزازيل".
.
يقولُ الأستاذ جهاد إنّ زيدانَ (وهو مسلم) هو الرّوائيّ الأوّل الذي يلجُ عالمَ القرن الرّابع المسيحيّ، ولا أعلمُ ما الذي أعادَ على ذاكرتي بقولِه هذا رواية "حدائق النّور" (بالفرنسيّة) للروائيّ اللبنانيّ أمين معلوف. وبينما راحَ زيدان يقصّ علينا وقائعَ الصّراع العقائديّ في القرن الرّابع، وعنف انتشار المسيحيّة في الدّيار المصريّة، على فمِ طبيبٍ راهبٍ مصريّ؛ حملَ إلينا معلوف قصّةَ أشهر معلّمي القرن الثّالث "ماني" (وهو أيضاً طبيبٌ وراهب) وتبشيره المسالم بعقيدته الجديدة في أنحاء الإمبراطوريّة الفارسيّة!
.
للرّواية التاريخيّة متعةٌ خاصّة، تعودُ بكَ إلى أزمنةٍ ولّتْ، وتُدخلكَ عالماً انقضى على أحداث ووقائع نقرأها اليومَ بعيونٍ جديدة. وعيونُ الأدبِ هذه تعيدُ رسمَ الأحداثِ، وتفسّرها في نورِ عالمِ اليوم، وترى وتلمس فيها أشياءَ لا يُمكن إنسان ذاك الزّمان أن يراها أو يلمسها. ولهذا تُسمّى "روايةً"، وإذ تعتمدُ هذه لغةً على النّثر، فلا بُدَّ لها من أن تتمثّلَ لغةً فنيّةً راقيةً، وإذ تكون اللغةُ عنصراً مشتركاً بين سائر الأجناس الأدبيّة، فالرّوايةُ تنهلُ أيضاً من الخيال رافداً تستقي منهُ لغتُها، ويجمعُ بين اللغةِ والخيال عنصرٌ ثالث يركّبُ هذا في ذاك، أعني السّرد!
.
تنازعت الرّواية في نشأتها بين الأدبِ والتاريخ، فراحَ الذين كتبوا في هذا الفنّ يغدقونَ عليها أوصافاً من شأنها أن تجعلها أختاً أو حليفةً للتاريخ، وهذا عيبٌ يغفلُ عنه القرّاء، فمهما حاولَ الرّوائيّ أن يبلغَ لما استطاعَ أن يكتبَ التّاريخَ ولا أن يلجَ عالمَه الواسع. والخلطُ بين "الرّواية" و"التّاريخ" يقعُ حينَ ينصبُ الرّوائيُّ للقارئ فخّاً يُدخله شيئاً فشيئاً في أسرِه.
.
يُذكّرنا هذا بما فعلَه الرّوائيّ الأميركيّ دان براون في روايتِه "شيفرة دافينتشي" (The Da Vinci Code) التي نُشرتْ في عام 2003، وفيها يتحدّث عن زواج المسيح والحفاظ على نسلِه عبر جمعيّة سريّة ذات طقوس خاصّة. ويذكر في روايته أسماء وأحداثاً وأماكنَ تاريخيّة ساهمتْ في إيهام القارئ أنّه يقرأ كتــاباً تــاريــخيّاً. وهذا ما دفعَ الكنيسة الكاثوليكيّة إلى تحذير المؤمنين من قراءتها، لا بل قامَ عددٌ غيرُ قليل من رجال الكنيسة والمفكّرين المؤمنين بكتابة العشرات من المقالات وبضع كتبٍ تنفي علميّاً وتاريخيّاً ما جاءَ في الرّواية. يتكرّر هذا الصّراع على نطاقٍ أضيق في رواية المصريّ زيدان "عزازيل". فالمقالات والرّدود التي كُتبتْ في شــأنها لهي أصدق دليل على أنَّ القارئ لا يُمكنه التمييز بــيــن "الــرّوايــة التّاريخيّة" وهي فــنّ أدبــيّ، و"التــاريــخ" وهو أحد العــلوم.
.
في هذا الصّدد يرفضُ زيدان المقارنة بين روايته ورواية دان براون معتبراً أنَّ الأخيرة منشأة على أوهامٍ غير ثابتة ولكتابتها أهدافٌ مختلفة حقّق منها الكاتب ما أراد! ويرفض أيضاً اتّهاماً وُجّه إليه يطعن في حياديّته ويصرّ على أنَّ جميع وقائع وأحداث روايته حقيقيّة ما خلا "الرّاهب الطبيب هيبا"! ولا يسعني هُنا إلا الإشارة إلى أنَّ زيدان يحاولُ مرّةً أن يعتبرَ عملَه فنّاً أدبياً، ومرّةً أخرى عملاً تاريخيّاً باعتبار الوقائع والشخصيّات حقيقة تاريخيّة! وهو بهذا لا يعلمُ على أيّ الجنبين يستوي! فهو وإن كانَ قد استلَّ من التّاريخ شخصيّات وُجِدَتْ ووقائعَ حدثت بالفعل، إلا أنّه بسردِه وخيالِه جعلَ منها شخصيّات جديدة لا تمتّ بصلة إلى تلك التاريخيّة، وخاصّة عند ذكر الأحاديث والنّصوص التي نسبها إليها! وهذا في الحقيقة هو شأن الفنّ الأدبيّ لا شأن علم التاريخ.
.
وبينما حاولَ اللبنانيّ معلوف جهدَه الحفاظ على وقائع التاريخ والأعوام وسيرِ أحداث ذاك الزّمان وفكرِ بطلِه ماني وفلسفته من خلالِ خطبه وأحاديثه العديدة، نرى زيدان في "عزازيل" يبتكرُ لنسطورَ (إحدى شخصيّات العمل) ولغيرِه من شخصيّات الرّواية، فكراً جديداً ليسَ له أيّ مصدر أو مستند في التّاريخ، كما يجعل من نظرة النسطوريّة إلى ابنِ الله مختلفة تماماً عمّا كانته وعمّا تكونه اليوم. لن أسهبَ في الحديثِ عمّا اقتبسه الكاتب من التّاريخ وعمّا كتبه من وحي خيالِه الرّوائيّ بل أقولُ كلمةً أخيرة في لغة الرّواية التي يُلاحظ القارئ أنَّها أقربُ إلى لغةِ العامّة منها إلى الأدب، فالكلمات العاميّة والغريبة التي استخدمَها، وتعدية الأفعال بحروفٍ ليست لها (غالباً بحسب أسلوب العامّة)، وطرقُ الإضافة الرّكيكة، هذا بالإضافة إلى بعض التناقضات التي يقعُ فيها الكاتب فيُربكَ بها القارئ كأن يجعلَ الرّاهبَ هيبا بعيداً عن السّكينة في الدّير الذي يسكن فيه (الصّفحة 15 من الطّبعة الخامسة كانون الثاني 2009)، ثمَّ نراهُ ينعمُ بها (في الصّفحة 18)؛ كلّ هذا من شأنِه أن يُحدثَ خللاً في ذهنِ قارئ الأدبِ، ووهناً في لغةِ الرّواية التي تُعتبر من أهمَّ العناصرِ شكلاً، فبها تحسنُ الأخيرةُ في العيون وتستطيبها الأذواق وبها أيضاً تقبح وتُمَجُّ!
.
يربطُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ سارتر الرّواية بالتاريخ وهذا بالوجود، فإذا كانت عناصرُ الرّواية التاريخيّة مأخوذة (قليلاً أو كثيراً) من التاريخ لكن بشكلٍ جديد، فما معناها إن جاءتْ أقبحَ شكلاً ممّا سبق أو أكذبَ روايةً ممّا كان؟!

الثلاثاء، أكتوبر 13، 2009

"كانَ مَوطِني": نشيدُ "مَوطِني" الجديد...

مَوطِني... مَوطِني
الوبالُ والضّلالُ والبلاءُ والرّياءُ
في رُباك... في رُباك
والطّغاةُ والبغاةُ والدّهاءُ، لا الوفاءُ
في حِماك... في حِماك
ها أراك... لا سِواك
خانِعاً مُكَمَّماً بِقادتِك مُسَمَّما
خانِعاً مُكَمَّماً بِقادتِك مُسَمَّما
ها أراك... ها أراك
كُبِّلتْ يداك
تصطلي لظاك
موطني... موطني
**********
مَوطِني... مَوطِني
الوِفاقُ لَن يهلَّ
نجمُه لا لن يطلَّ من جديد
من جديد
كلُّ حزبٍ قَد بدا
وهَمُّه يُرضي العِدا
وأن تبيد... وأن تبيد
لا يُريد... لا يُريد
مَسرى طه الأتلدا وقبةً ومسجدا
مَسرى طه الأتلدا وقبةً ومسجدا
بل يُريد... بل يُريد
عيشةَ العبيد... ذُلّنا الأكيد
مَوطِني... مَوطِني
**********
مَوطِني... مَوطِني
الدّولارُ والدّينارُ والرّيالُ والعقارُ
هَمُّهم... هَمُّهم
فَقرُنا وجوعُنا وذَبحُنا وحَرقُنا
شعارُهم ورمزُهم
حالُنا... وضعُنا
بائسٌ لا يُوصفُ... مُقَزِّزٌ ومُقرِفُ
بائسٌ لا يُوصفُ... مُقَزِّزٌ ومُقرِفُ
للهلاك... للهلاك
قادةُ النِّفاق
مالهم ميثاق
مَوطِني... مَوطِني.
*
للمشاهدة والاستماع:
*
للتحميل:
*
منقول.
.
.

الأربعاء، أكتوبر 07، 2009

القـلمُ الأجـيـر!

الخميس 28 تمّوز 2008 (روما):
.
"كم أحتقرُ كذبةَ الأدبِ وزائفيه! قد لا تكونُ كأسي كبيرة لكنّي لا أشربُ إلا منها".
هكذا هتفَ ألفرد دو موسيه لاعناً القلمَ الأجيرَ.
دعتني هذا الصّباح الصّحافيّة جمانة حدّاد إلى الكتابةِ من جديد. فقد تمتّعتُ وتلذّذتُ ملتهماً وجبتَها الطيّبة التي أعدّتها ثمَّ نشرتها في جريدة "النهار" (هذا اليوم) تحت عنوان "القلمُ الأجيرُ ظاهرةٌ قديمةٌ في الأدبِ أثيرتْ حولها الفضائحُ في كلّ الأزمنة".
.
مرَّ في خاطري للحال مؤرّخٌ وكاتبٌ سريانيّ نجا من مذابحِ الأتراكِ والأكرادِ إبّان الحرب العالميّة الأولى، بعدما افتداه أخوه بنفسِه، فقامَ، ردّاً لفضلِه، بأود عائلةِ أخيه البارّ وربّى بنفسِه أطفالَه، وقضى بقيّة العمرِ دون زواج. ولم يكن له من معيلٍ إلا قلمه، فكم من مرّةٍ ومرّة دفعَ به إلى الأجرِ لحاجةٍ إلى المال، وحاجةٍ إلى سدّ أبواب العوز والجوع! كان ناسخاً من أمهر النسّاخ، يكتبُ باليُمنى وإن تعبتْ كتبَ باليُسرى، وهكذا يقضي ساعات النّهارِ يعملُ حاملاً قلماً أجيراً ذا فاقة.
.
كما تذكّرتُ صديقاً لي قضيتُ معه ردحاً من الزمنِ في لبنانَ في أثناءِ الدّراسة الجامعيّة، كانَ يتيماً منذ الصِّغَر، وفي السّنة الجامعيّة الأولى توفّيتْ والدتُه، ولم يبقَ له من معيل إلا اللهُ والقليلُ الذي كانَ يجنيه قلمُه الأجير! فقد كانَ على كلّ طالبٍ أن يُعدَّ ثلاثةَ أبحاثٍ على الأقلّ في كلّ عام، وهكذا كانَ صديقي الحمصيّ يقوم بكتابة العشرات منها عنه وعن بعضِ الكسالى مقابلَ أجرٍ زهيدٍ لا يتجاوزُ الخمسةَ أو الستة آلاف ليرة لبنانيّة، يصرفُها على سجائرَ اللوكي سترايك وعلى حاجاته الأخرى! كنّا نعيشُ في مبنىً واحد، وكانَ له، برغمِ فاقته، قلبٌ طيّبٌ لا يرفضُ شيئاً لأحد، حتّى وجدني يوماً في حاجةٍ إلى بعض النّقود، فأخذَ ما كانَ له وقدّمه لي من دون أن يقولَ شيئاً. تمنّعتُ في البداية عالماً بحالِه، لكنَّ يدَه الممدودة وطرفه المخفوض حملاني على الموافقة. أذكرُ ليلتها أنّي بكيتُ ألماً على فقيرٍ أغنى من أصحابِ الملايين.
.
كانَ صديقي السّمين يفتحُ علبة السّجائر بطريقةٍ غريبةٍ، إذ كان، بدلَ أن يفكّ الرّابط البلاستيكيّ وينزعه كاملاً، يشعلُ بولاعتِه أحد أطراف فتحتها، فيزيحه قليلاً ثمَّ يفكّ الأوراق المثلّثة بعنايةٍ ويغلقها من بعدِ كلّ لفافة! سألتُه مرّةً عمّا يفعل ولمَ! أجابَ: أحاولُ قدرَ الإمكان الحفاظَ على التبغِ من الجفاف، فالعلبة عليها أن تكفيَني أربعة أو خمسة أيّام... وكانَ يضحكُ لاعناً الفقرَ!
.
لعبتُ هذا الدّورَ أيضاً في مجلّةٍ محليّةٍ أصدرها أحدُ الأصحاب عملتُ في تحريرِها، وكنتُ أقومُ بكتابةِ أكثر من مادّة لتصدرَ واحدة فقط باسمي والبقيّة بأسماء العاملين معنا. كما كنتُ أصوغُ وأحرّرُ لا بل أعيدُ كتابة مقالات كاملة كتبَها الأصدقاء بسبب رداءة لغتها وركاكة أسلوبها.
.
كما جعلتُ قلمي أجيراً طوال سنوات الدّراسة تماماً كما كانَ يفعلُ صديقي الحمصيّ اليتيم، لكن بدون مقابلٍ ماليٍّ، بل لقاءَ كتابة أعمالي على الآلة الكاتبة أو الكومبيوتر وطباعتها، وهكذا كانت المقايضة هذه تكلّفني ساعات من الليلِ أقضيها في إعدادِ أعمال الآخرين!قد يندمُ الكاتبُ عندَ بيعِه الكلمة، وخصوصاً كلمته هو، ولكأنّها طفلٌ يُنزعُ من حضنِ والدةٍ خرساءَ مقعدةٍ، فلا تجيبُ إلا بأنّات وحركات أليمة باكية! لكنّ الحياة ورغيفَها أثمنُ من الكلمة.إنَّ القلمَ الأجيرَ يتركُ صاحبَه في ندمٍ وأسىً، لا بل يذكّره بين الحينِ والآخر بجريمته وخيانته، فتدمى كلومُه من جديد بعدَ أن رفأتها الأيّامُ ومضيّ السّنين!
.
اليومَ أذكرُ ما فعلتُ ولستُ بنادمٍ، إذ أذكرُ أيضاً حاجتي التي قادتني إلى مبادلة كلمتي بما يقيتني ويكسيني؛ وإن اضطررتُ إليه من جديد لفعلتُ ما فعلت!
.
.

الخميس، أكتوبر 01، 2009

هُنا وُلِدَ جبـران خليل جـبران

في هذا المكان، وعلى هذه الأرض، وبين الأمتعة الخشبيّة هذه، أبصرَ جبرانُ صاحبُ النبيِّ ذو الأجنحةِ المتكسِّرةِ النّورَ، فأشرقَ بنورِه في سماءِ لبنانَ، وأطلقَ في الآفاقِ اسمَ بلدةٍ مزويّةٍ بعيدة، "بشرّي" مثواه ومرج طفولته وصباه.
ولجتُ البيتَ وفي نفسي خفرٌ، وفي حلقي غصّة، وعلى صدري غمامةٌ تريدُ أن تتناثرَ مطراً.
وقفتُ أحدّقُ في الأرضِ وفي ترابها، وأرفعُ عنقي نحو أخشابِ السّقف المتآكلة، ثمّ أجولُ بناظريّ بين المتاع، فهذا سريرٌ وذاكَ صندوق!
من لي يأتيني بكَ رضيعاً يلفظهُ الرّحمُ بعدَ أشهرٍ فيصرخَ أولى صرخاتِه في يومٍ من أيّامِ سنةِ 1883، وعاشقاً تتكسّرُ أجنحتُه عندَ محاولته الأولى التحليقَ في عالمِ الحبِّ والجمال، وكافراً ومتألّماً عندَ موتِ إلهِه بموتِ أختِه الحبيبة سلطانة، وأديباً بارعاً في شتّى كتاباتِه، وفيلسوفاً في مجنونِه ونبيّه، وضعيفاً بين أنيابِ السلِّ، وراحلاً في سكرةِ الموت.
ألا فاسعدي أيّتها الأرض التي حملتِ جبرانَ بين راحتيك
وبئساً لموتٍ حمله بين نابيه!
...
..
.

الخميس، يوليو 02، 2009

لقاء...

بلا تاريخ (حلب)
.
كنتُ قافلاً أعودُ من حفلةٍ دعاني إليها أحدُ الأصدقاء، ولذّة شرابها ما زالت تضربُ في رأسي، مثلما بقيتْ تضربُ فيها أنغامُ مغنٍّ شابٍّ، أعادني إلى أيّامِ الرّشيدِ ومغنّيه إبراهيم الموصلي، وشتّان ما بيني والرّشيد وما بين الموصلي وذاك الفتى الحلبيّ الذي راحَ طوال المساء يضرب العودَ بأنامله ويصدحُ ويقول:
بـروحي فــتـاةٌ بالـعفافِ تجمّلتْ ..... وفي خَدِّها حبٌّ من المِسكِ قَدْ نَبَتْ
وقَد ضاعَ عقلي وقد ضاعَ رُشدي ..... ولمـّا طلبـتُ الوصلَ منها تمنّعـتْ
فقالـتْ: أمـا تَخشى وأنتَ إمامُ ..... أتزعمُ أنَّ الرّيقَ مـدامٌ والمدامُ حرامُ؟
فكنّا نتمايلُ حاملينَ كؤوسَنا، هاتفينَ معه: أعدْها علينا أعادك اللهُ إلى منزلِك سالماً غانماً... وآخرُ يصيحُ: لا باركَ اللهُ في شرعٍ حرّمَ المدامَ... من لم يذق طعمَ الرّيقِ ما ذاقَ، واللهِ، شيئا... وقسْ على مثل تلك الأقوال! وما إن بدتْ على القوم دلائلُ السّكرِ في تمايلاتهم كالرّيح تعبثُ بالغصون الطريئة، وفي أقوالِهم وقد ضربت الخمرةُ البيضاءُ منهم ما ضربت؛ حتّى نهضتُ وسلّمتُ على صاحب الدّعوة وغادرتُ المكان لا ألوي على شيءٍ.
.
هكذا تركتُ الحفلَ وجمعَ الغناء والمدامَ كما تركتُ الفتاةَ المجمّلةَ بالعفاف وإمامَها سكرانَ الهوى، واخترتُ طريقي في زقاقٍ قديمٍ من أزقّة حيّ "الجديدة" لا شيء فيه إلا الظلمة والسّكون. مددتُ يدي إلى جيبي وأعدتُها محمّلةً بهاتفي الصّغير واخترتُ اسماً ثمَّ ضربتُ الاتّصالَ وانتظرتُ... ألو، مساءُ الخير... كيفَ حالُك؟... أينَ أنتَ؟... أنا في "الجْدَيدِه"، ما رأيُك لو نلتقي بالقربِ من "مستشفى سلّوم"؟... اتّفقنا إذاً! وأنهيتُ الاتّصال.
.
ورحتُ منذ تلك اللحظة أرسمُ في مخيّلتي صوراً لصاحبٍ عرفتُه دون لقاء! وكيفَ تجمعنُا الأيّامُ بأناسٍ لقاؤهم يتركُ أثراً في النّفسِ لا يُمّحى. كنتُ قد تجادلتُ معهُ يوماً حولَ إحدى مقطوعاتِه الشعريّة الفلسفيّة على صفحات منتدىً شبابيّ إلكترونيّ، ومنذ ذلك الحين بتنا نقتربُ خطوةً تلو الخطوة ونلتقي في أفكارٍ تبادلناها تدرسُ هذا الكون الواسع والإنسان الذي يُفسدُ فيه والمظالمَ والقيودَ وكلَّ ما خطرَ لنا على بال. ثمَّ تزاملنا وأدركنا الكثيرَ، كلٌّ عن الآخر، وقد لا يكونُ هذا الكثير في عيني إلا القليل في عينِه... من يدري! كنتُ أمشي مقترباً من مكانِ الموعد ورأسي تلتفتُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال تُحدّق في القلائل الذين ما زالوا ساهرين يقطعونَ الشّوارعَ، فهذا عائدٌ من لقاءٍ غراميٍّ، وذاكَ قافلٌ إلى بيتِه بعدَما أضناه السّهر، وهناكَ رجلٌ وامرأته يمارسان المشيَ بعيداً عن ضأضاء الأولاد وهمومهم الكثيرة، وهنالك من كانَ مثلي يبحثُ عن لقاء. ورحتُ أحدّق بكلِّ بشرٍ أسائلُ النّفسَ في من عساه يكونُ الصّاحب!
.
قلتُ: دعني أسيرُ على الرّصيفِ المُقابل لئلا يُدركني قبلَ أن أعرفَه، وما إن أصبحتُ في مواجهةِ بابِ المشفى وإذ بشابٍّ طويلٍ أشقر بعينين تبرقانِ يبحثُ عن شيءٍ – كمن أضاعَ شيئاً - في وجوه البشرِ من حولِه! كانَ يجتازُ الشّارعَ نحوَ الرّصيف الذي شغلتُه متطلّعاً إليَّ فالتقت النظراتُ وتساءلت العيونُ، عبرتُ خطوتين متعمّداً السّيرَ، باحثاً فيهِ عنهُ، مداوماً على التحديق في تلك العينين اليقظتين، متفرّساً في هيئته؛ حتّى وقفتُ فأقبلَ وقلتُ: نوّار؟! فانفردَت شفتيه عن ابتسامةٍ عريضةٍ تعجُّ بها الحياةُ بشتّى الألوانِ ومعه ابتسمَ المكانُ، ثمَّ مدَّ يده مُصافحاً فتصافحنا تلتها قبلُ المودّة. وبينما راحت العينُ تصافحه مرحّبةً تحوّلت الأخرى إلى يسراه ترقبُها وترقبُ الأشياءَ التي حملتها بكفٍّ لا مراءَ فيها وكانت علبة دخانٍ من نوع الـ"لوكي سترايك" وولاعةً وكتاباً عرفتُ لاحقاً أنّه من يدِ الفيلسوف الألمانيّ الشّهير فريدريك نيتشه، هذا الكتاب الذي أزهقَ جبرانُ اللبنانيُّ في قراءته والتأمّل فيه شطرَ حياته الأكبر، وكانَ من ذلك أن أخرجَ مثلَه في قالبٍ يُشبهه إلى حدٍّ بعيدٍ وسمّاه "النبيّ" مثلما سمّى نيتشه كتابَه "هكذا تكلّم زرادَشْت"! أوَ لم يكن باعثُ الرمزيّة في الأدب العربيّ على حقٍّ في مثل هذا التقليد الشّكليّ؟! أوَ ليسَ لكلٍّ منّا نبيٌّ يرى الحياةَ والموتَ في صورٍ وأشكالٍ تختلفُ عن الآخر؟! ومن ثمَّ ألسنا ننظرُ إلى الوقائع والأحداث والإنسان والحيوان والطّبيعة والمدنيّة والشّرائع والأديان نظرةً تتفاوت بين الخيرِ والشرِّ، بين النّقص والكمال؟!
.
قلتُ لنوّار: خذ بنا حيثُ نجلس بسكينةٍ بعيداً عن صخبِ الشّهباء التي لا تعرفُ من الحياة إلا قشورَها ومدنيّتها البائسة المنحصرة في الاسمنت والمعدن! وفي مقهىً قريبٍ ساكنٍ جلسنا حول طاولةٍ منعزلة تُحدّث بعزلتنا قبلَ اللقاء. اختارَ صاحبي القهوةَ التركيّة واخترتُ الغربيّة، ثمَّ قدّم لي من لفافات تبغه فأحرقناها الواحدة تلوَ الأخرى، والأحاديثُ تطولُ وتأبى أن تنتهي، حتّى أتينا على العلبة الأولى. ورأيتُه يُخرجُ من جيبِه علبةً أخرى محليّة الصّنع من نوع "الحمراء" الطّويلة وهكذا لم نشعر بمضيّ الوقت، وعدّتنا نفدت، ولم ننهِ إلا القليل القليل ممّا أردنا الكلامَ فيه حول الأصدقاء والإنسان والدّين والماضي والحاضر والمستقبل، ثمَّ المطامح والمخيّلات، وكيفَ لصديقين يلتقيا أوّلَ مرّةٍ أن يذكرانَ مثل تلك المسائل في ساعات من الزّمن؟! غبتُ قليلاً لقضاءِ حاجةٍ وعندما عُدتُ وجدتُه قد دفعَ الحسابَ فشكرتُه. وهكذا نهضنا وعُدنا من حيث أتينا، وهمَّ في المغادرة فسألتُه: ما رأيك لو اغتنمناها فرصةً فالتقينا أبا طوني؟ فوافقَ باشّاً! وهكذا تركنا الأقدامَ تسيرُ بنا في طريقٍ جديدٍ بعيد، ورحنا نعبرُ الشّوارعَ والأزقّة، ومن حارةٍ إلى أخرى حتّى بلغنا المكانَ، فبادرتُه: نوّار، أنا لا أعرفُ المنزلَ، ومن الأفضل أن أتّصلَ به! نظرتُ الهاتفَ فإذا السّاعةُ هي الثّانية من صباحِ يومٍ جديد، اتّصلتُ فرنَّ هاتفُه وكنتُ أسمعُ التونَ مخيفةً تبدّدُ سكونَ الليلِ ووحشته...
- ألو، صباحُ الخير
- صباحُ النّور
- هل أنتَ في البيت؟
- نعم، ومن أنت؟
- اخرج وستعرف، أنتظرُك في الشّارع
- لن أخرجَ إن لم تخبرني من المتكلّم
- حسناً... أنا نوّار (قلتُها كاذباً).
- لحظة واحدة وأكون عندَك (صاحَ على الفور).
.
حينَ رأيتُه قادماً كنتُ واقفاً أتطلّعُ إلى السّماء وفي يدي سيجارةٌ تحترق، بينما انزوى نوّار في مقهى للإنترنت وفتحَ بريده وراحَ يُحادثُ أصدقاءَه، ناديتُه: نوّار تعالَ فقد جاءَ! أقبلَ من بعيد ضاحكاً متكلّماً مسلّماً بحيويّة الشبّان وحماستهم. كانَ شابّاً في مُقتبل العمر، يبدو عليه الجوعُ إلى الحياة، والعطش إلى عيشِها بكلّ ما فيها من فرحٍ وحزنٍ، من فشلٍ ونجاح، من يأسٍ ورجاء! هادا أنت؟! قالها بدهشة، ثمَّ تابعَ: واللهِ لم أميّز صوتَك، واعتقدتُ بأنّك نوّار مصدِّقاً كلامَك... يا لكَ من ماكر!
.
كانَ الكلامُ أكثرَ بكثيرٍ من أن يسعه وقتٌ محصورٌ بين غروبِ شمسٍ وشروقِ شمسٍ جديدة، ولهذا وبعدَ زمنٍ قصيرٍ امتلأ بحديثِ الصّديقين، اعتذرَ الصّاحبُ وفارقنا بعدَ أن وعدنا بلقاءٍ آخر في وقتٍ أفضل! وهكذا بقيتُ وحدي مع هذا الجبرائيل رسول الإله "سعدو" الشّهير، ومن مثل جبرائيل الملاك لقادر على إبلاغ البشر شرائع "سعدو" المعظّم وحكمه المكتوبة منذ أزل الآزال على لوحٍ محفوظٍ في قلبِ قلبِ قصرِ الدّهور؟! ولم نلبث أن سِرنا في طريقٍ طويلٍ هدَّ رجليَّ بعدَ مسيرٍ ووقوفٍ طوال النّهار، حتّى أوقفنا العيسَ وضربنا الخيامَ في زاويةٍ من إحدى الحارات الواسعة، وطابَ لنا أن نكثر من القيل والقال عن الأخويّة مجمع الشّبيبة، ومحفل الفكرِ والتسلية... وشيئاً فشيئاً كانَ سوسُ النّورِ ينخرُ في رداءِ الليلِ حتى أحالَ النسيجَ شبكةً ما لبثت أن صارت رقعاً وخيوط الفجرِ تأتي على ما تبقّى منه... وصاحتِ العصافيرُ وأعلنَ اليمامُ بدءَ يومٍ جديد، والشّمسُ ترتقي جبال العتمات التي لفّت مدينة حلب وتطردُ منها النّومَ والرّقادَ وتحيلها إلى قفيرِ نحلٍ لا تملُّ عذراواته من العملِ، ولا تكلُّ من البحث عن الرّحيق وصنع العسل.ودّعتُ الصّديقَ أبا طوني وذهبتُ إلى نزلي وبعدَ بضع ساعات لملمتُ المضاربَ وهمزتُ الخيلَ معلناً رحلةً جديدة في أرضٍ صديقة.

الثلاثاء، يونيو 16، 2009

رسالة (1)

ديانا الحبيبة
.
ها إنَّ نفسي مغمورةٌ بعطف الطّبيعة وهي تقف على شرفة جبلٍ من جبالِ كسروانَ، ترى بيروتَ - وقد مدّت ساقيها على شاطئ المتوسّط - ومضت تسترقُ السّمعَ إلى هنهنات العصافير وتنهّدات الحمام، خشية أن تقطعَ عليها خلوتها في أحضان البلّوط وسكينة الكروم، بيدَ أنَّ أصواتَ المدنيّة لا تني تكسرُ بضوضائها سكينتنا، فتسمعين بين الحين والآخر أبواق السيّارات المُزعجة كلّ إزعاج، وصراخات البشر حينَ يتحدّثون، وكأنّهم صمٌّ لا يسمعون، وفي غمرة هذا النّزاع بين طهارة الطّبيعة وبراءتها وسكينتها وبين المدنيّة وإنسانها الغارق في الجهل والأنانيّة؛ أقفُ لا أدري أيَّ الطّريقين أسلك... فالطّبيعة الأم لا تكلّ من العطفِ على ابنها الإنسان وأبنائها الآخرين من الأحياء، ولا تملّ من العطاء بسخاءٍ لا مثيل له ودون مقابل؛ بينما المدنيّة المـُصطنعة وإنسانُ يومها هذا خاليان من الجمال والعطاء ومن كلّ فضيلة تجدينها بين الأفنانِ وفي أكناف الطّيور وشرائع الغاب!
.
باللهِ عليكِ يا رفيقةَ روحي ألا تمدّي ليَ يدَ العون فتخبريني أيَّ الطّريقين يقودُ إلى منابع الحياة وبساتين الخلود؟! باللهِ عليكِ ألا يحتار المرءُ إذ يجدُ عالمه بعيداً كلَّ البعد عن عالم الإنسان وترّهاته وسفاسفه ومظالمه وأطماعه وعن كلّ ما اعتمر به قلبُ إنسانٍ من رذيلة؟! كيفَ لي وقد بلغتُ الحادية والثّلاثين فملأتني أدرانُ العالمِ وسلبتني تلك الطّهارة التي وسمتني أيّام الطّفولة والفتوّة... كيفَ لي أن أعودَ إلى أمّنا الطّبيعة وأحملَ إلى أحضانها ما أخذتُه عن العالمِ من قذارة ورذالة؟! حريٌّ بي أن أصمتَ فلا أنطق حرفاً، وأحشو أذنيَّ فلا أسمع صوتاً، وأن أعمي عينيَّ فلا أرى صورةً أو مشهداً؛ عسى سنوات أصرفها بجسدٍ لا حسَّ فيه أن تغسلَ فيَّ هذا العار الصّارخ بكلّ شياطينِه!
.
أريدُ أن أكتبَ إليكِ أكثرَ وأكثرَ وأن أحملَ إليكِ صورةً تبلّغك عن حالي، فاليومَ وحيُ القلم يدفعُ فيَّ كلَّ حماسة، ويمدّني بذخائر الكلم والأفكار، ويهبني أن أكونَ واحداً من أبنائه الكثر؛ إلا أنّي لم أذق طعاماً منذ مساء الأمس، وها قد مضت السّاعات الثمانية عشر ومعدتي تنتحبُ وتصرخُ وتبكّتني قائلةً: ما أشدّ ظلمك يا حجّاج الطّعام، وما أبعدك عن أن تكونَ راعياً تحمل القطيعَ حيث المراعي الخصبة، وما كثرة إهمالك إلا دليلاً على بُعدك عن هذه الحياة الدنيا بكلّ ما فيها من شرٍّ وخير، من قبحٍ وجمال، من نقصٍ وكمال!
.
ومثلما وقفتُ بين الطّبيعة والمدنيّة حائراً في اختيار الصّراط الأقوم، أجدُ نفسي حائراً أيضاً بين القلم الذي لا يرغبُ أن يغادرَ الصّفحة إلا وقد أفضى بكلّ ما في جعبته، وبين الجوع الذي يناديني بأعلى الأصوات، ويحجبُ عنّي بضأضائه الكثيرِ كلَّ وحيٍ وجمال... فماذا تريني فاعلاً السّاعة؟! كلُّ ما في الوجود يبعثُ على الحيرة، فهل للإنسانِ وأطماعِه أن يتخلّى عن شيءٍ مقابلَ شيءٍ أسمى؟! وهل المدنيّة أسمى من الطّبيعة؟! لا وألف لا، فشتّان بين تلك الأعالي تحلّق فيها النّسور، وبين الحضيض تملأه الشياطين! وهل الطّعام أسمى من الكلمة؟! لا وألف لا، إلا اللهمَّ ما كان منه يسدّ الرمقَ ويدفع الجوعَ ويُبقي الحياةَ تسير بوقعها الرّتيب في نفسِ صاحبها! فالكلمة لغة الأرواح ولسان الفكر وحبرُ بناتِه، ومن دونها لا معنى للإنسان بإزاء إنسان آخر، ولا معنى له بإزاء هذا الكون الفسيح، ولا معنى له ولا لوجوده إذا ما عرفَ أنَّ له عقلاً وأنَّ له حواسّاً خمسة تبحثُ فيه قبلَ أن تبحثَ في أيِّ شيءٍ آخر.
.
لكنَّ العالمَ ومدنيّته البائسة وقد قلبت المفاهيم، وقضّت مضاجعَ الفكرِ، وحمّمت برمادها وثفلها كلَّ جمال؛ جعلتِ الطّعام والمالَ والجسدَ أسمى من الكلمة والرّوح، وهذا لعمري بدء المخاض! لستُ أقولُ مثلَ أصحاب المدينة الفاضلة والمثل التي تبقى في أطرها مثلاً بعيدة عن واقع الإنسان ومصائبه التي تسحُّ من غيومِ مدنيّته الثقيلة، لكنّي أسأله أن يرأفَ بروحِه وأن يردَّ الجميلَ إلى أمّه الطّبيعة التي غمرته وتغمره بكلّ عطفٍ وسخاء؛ ولا أجدُ منه إلا النكران فما أشدّ غيّك أيّها الإنسان، وما أبعدك عن ردّ المعروف يا إنسان اليوم، وما أحلك ظلمتك يا بشرَ المدنيّة الضالّة! ألعلّك تكره ما فيكَ وتجدُ أنَّ الصّورة التي وُهبتها بشعة إلى حدّ أردتَ فيه أن تنزعها عنك وترسم لك ولأرضِ وجودك صوراً أخرى من صنعِك ومن بنات أفكارِك؟! أم تُراكَ خرجتَ من هذا العالم مثلما خرجَ منه الشّيطانُ الأكبر؟ لكنَّ الفرقَ بينَك وبينه أنّك عبدُ الشّياطين وهو سيّدهم، أنّك خرجتَ منه بما تصنع وجسدُك عالقٌ فيه، وهو خارجٌ عنه بكلّ ما فيه... بروحِه وشرورِه التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
.
هل لي أن أسألَك يا بشرَ اليوم عمّا تريد وأين تريد أن تبلغ؟! هل لكَ أن تبدي لي مأثرةً تبقيكَ إنساناً وُلد من الطّبيعة وهو منها وإليها يعود؟! أفي هذه المقابر التي تدفن فيها زبالة استهلاكك عديم النّفعِ؟! أم في تلك المصانع التي تُخرج منها ما يفتُك بالأرواح قبلَ الأجساد؟! أم في الصّناعة التي حشيتها من سموم الجحيم وأخرجتها طعاماً يُباعُ في الأسواق؟! أم في الرّذيلة تنشرُها في كلّ مقروءٍ ومسموع، أمام الصّغار قبلَ الكبار؟! لا يسع لساني وصفَ الحضيض القابع أنتَ فيه، ولا عدَّ قباحاتك، ولا حتّى الكلام بعدُ عنك وعن هذا التبدّل الطارئ في عالم الخير وعالم الشرّ، في عالم الحقّ والجمال وعالم العنت والقبح... هذه الصّورة تمثّلك يا إنسانَ المدنيّة المهترئة، أيّها السّاعي إلى حتفه بجدٍّ ونشاط، يا فاقد العقل والوجدان، يا معدوم الضّمير.
.
عزيزتي ديانا
.
يبدو أنّي أسكتُّ حتّى اللحظة صراخات بطني لكنّي لن أقوى على الصّمود أكثر من ذلك... أُعلمُكِ بأنّي الآنَ في لبنان أسرّح الطّرفَ بجمالِه وبشاعة تمزّقه، بلغتُه صباح الاثنين الماضي وكما تعلمين قد أبقى فيه لأشهرٍ لا أعلمُ كثرتها السّاعة! وأرجو أن أسمعَ عنكِ وعن أخبارِك التي قطعتِها وكأنَّ مسَّ المدنيّة بدأ يحومُ حول بيتك فيبعدك أكثر في تلك اللجّة سحيقة الغور وسودائه!
.
أبعثُ إليكِ هذا التعليق الذي جاءَ على مقالتك المُحكمة "أنا سوري... آه يا نيّالي"، وكلّي أمل أن تنشريه، وهذا يعودُ إليك ِقطعاً! وأنتِ تعلمين أنَّ واجبَ الكاتبِ هو في نشرِ الثّناء والمديح والنّقد والتجريح ليعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فأمّا القرار فلكِ.
.
لتبقى المحبّة عامرةً في قلبِك والصّفاءُ في فكرِكِ، ودمتِ لمُحبّك...

السبت، أبريل 25، 2009

بَعثرة بَشَر!

الاثنين 29 أيلول 2008 (دمشق)
.
كانَ شوقي يدفعُني إلى الإسراعِ إليه... إلى رؤيته والعبث بما يحتويه! سرتُ نحوَ جسرِ الرّئيس في العاصمةِ السوريّة لغايةٍ واحدةٍ فقط: رؤية المئات والآلاف من الكتبِ المتناثرة على الأرصفةِ والزّوايا الممتدّة بين الأعمدة. جلتُ بينها ولمحتُ سلسلةً أجهدُ في اقتناءِ أعدادها كانت تصدر من العاصمة الكويتيّة تحت اسم "المسرح العالميّ"، واليوم آلت إلى "إبداعات عالميّة" لتشملَ، إضافةً إلى المسرح، سائر الفنون الأدبيّة من شعرٍ وقصّةٍ ورواية... إلخ. اتّفقتُ مع البائع على شراء كافّة الأعداد الموجودة لديه، فرضي بخمسٍ وعشرين ليرة ثمناً للعدد الواحد. بلغتْ الأربعينَ فدفعتُ إليه ورقةً ماليّةً واحدة من فئة الألف! عجّلتُ في السّير بهذا الحملِ الثّقيل معنىً ومبنىً، وعندَ وصولي إلى صفّ المكتبات في الحلبوني، والكتب ترزحُ فوقَ الكتفِ الأيمن، وإذ بصديقٍ أعرفُه يمرّ بقربي فبادرتُه:
- أهذا أنت؟! أينَ كنتَ يا رجل؟!
- أهلاً أهلاً يا للمصادفة! لو تمنّينا اللقاءَ لما كانَ بهذا الشّكل!
- ألم تغادرْ البلدَ بعد؟
- اليومَ عصراً أسافر فبعد أسبوعٍ تبتدئ الدّروس.
- أنا جائع وأبحثُ عن مطعمٍ صغير أملأ فيه هذه المعدة الخاوية، هل تأكل معي؟!
- لا، اعذرني أرجوك فأنا صائم.
- أنا آسف... نسيتُ أنّنا في شهرِ الصّيام، حسناً ما دمتُ معك فلأبقَ صائماً!
.
أخذنا الطّريقَ في اتّجاه مؤسّسة البريد تاركين الحجازَ إلى الخلف وعرّجنا خلالَ أحاديثِنا الكثيرة السّريعة على "البونيّ" الذي اشتهرَ في التراث الإسلامي بالكتابة عن المعرفة والحكمة والسّحر، وأخبرتُه أنّي تعبتُ من البحث عن كتابِه "منبع أصولِ الحكمة" في القاهرة ولم أعثرْ عليه إلا في مكتبةٍ صغيرة بقرب "دار المعارف" المصريّة. أجابني: يا رجل هذا من أشهر الكتب في هذا الحقل وهو موجودٌ بكثرة في دمشقَ، لماذا لم تسألني؟ لم أكن أعرفُ ذلك فقد أُخبرتُ في العاصمة المصريّة أنّه من الكتب الممنوعة، واقتناؤه قد يعرّضني للسّجن، وبرغم ذلك حملتُ منهُ معي نسختين.
.
وصلنا أخيراً مكتبة "النوري" وسألتُ أحد الباعة فيها عن مؤلّفات الأديبِ اللبنانيّ الكبير ميخائيل نعيمة. قادني إلى مجموعة مطبوعة في "دار العلم للملايين" تضمُّ كافّة كتاباته بما فيها الرسائل وسيرته التي كتبها عندَ بلوغه السّبعين من العمر وسمّاها حينئذٍ "سبعون". بلغَ ثمنُها سبعة آلاف وثمانمئة ليرة سوريّة وهو ثمنٌ زهيدٌ جداً أمام قيمة المجموعة الكاملة. قلتُ للبائع: سأرسلُ إليكَ صديقاً يشتريها من أجلي إذ لا قدرة عندي بعد على حملِها بمجلّداتها التسعة. وقبلَ أن أخرج اشتريتُ كتابين أحدهما في علم الأديان المقارنة لعالمٍ ألمانيّ لا يحضرني اسمُه السّاعة، والآخر في علم التأويل وهو الترجمة العربيّة للهيرمينوطيقا يدورُ حول تاريخ هذا العلم الحديث والبحث في أهمّ أعلامه.
.
عندَ الباب ودّعتُ صديقي الدّومانيّ على أملِ لقاءٍ قريب في مثوى الدّراسة روما. أسرعتُ من هناك إلى مكتبٍ للشّحن أرسلتُ منه الكتبَ الأربعين التي هدّت منكبيَّ، ثمَّ أخذتُ طريق العودة إلى نزلي في حيّ القصور، حيثُ أكلتُ على عجلٍ وأصرَّ صديقي على أن يقلّني بسيّارته! كانَ جراجُ حرستا على عتبةِ ثورةٍ بشريّة فقد غصَّ بكلِّ شكلٍ ولون. اعتقدَ المسلمون أنَّ العيدَ يقع في يوم الغد فقد سبقتْ المملكة السعوديّة إلى الإعلان عن ظهور القمر، ولهذا غادرَ دمشقَ كلُّ غريبٍ وعابرُ طريقٍ بمن فيهم الطلبة والعساكر وأولئك الذين رغبوا في قضاء العيد بالقربِ من عوائلهم وأقربائهم في المدن والمحافظات الأخرى.
.
هرعتُ بدوري إلى المكاتبِ أبحثُ عن شاغرٍ في حافلة مسافرة إلى المنطقة الشرقيّة، لكن عبثاً بحثتُ، فقرّرتُ السّفرَ أوّلاً إلى حلب خوفاً من التخلّف والبقاء في العاصمة طوالَ أيّام العيد. بعدَ عناءٍ ومزاحمةٍ وتدافع بين العشرات عثرتُ على مكانٍ بعدَ ثلاث ساعات كانَ عليّ أن أقضيها بين هذا الرّكام جالساً أو سائراً أو متأمّلاً! جلستُ على مقعدٍ خشبيّ وقرأتُ قليلاً في رواية الماغوط "الأرجوحة"، ثمَّ دوّنتُ بضعة مشاهد مرّت في فكري وأمام بصري، وتكلّمتُ عبر الهاتف مع عددٍ من الأصدقاء، والوقتُ لا يمضي أو لا يُريدُ ذلك! التفاتة هنا وهناك تحدّثك عن العساكرِ بثيابِهم الخاكيّة وشعور رؤوسهم المحلوقة، والرّجال والنّساء والأطفال مبعثرون بانتظار أوقات الرّحيل، والذّبابُ المسافرُ هو الآخر عبر الأثير يتواثبُ على الوجوه والأجسادِ والقمامة! تتداخلُ اللهجاتُ والأصواتُ ثمَّ تختلطُ، وتغيبُ الأشياءَُ في عتمة الانتظار. طالَ المكوثُ فقمتُ وتبوّلتُ بخمس عشرة ليرةٍ سوريّة... وبعدَ ساعةٍ بالضّبط كرّرتُ ذلك ودفعتُ الليرات كالسّابق. أن تتبوّل في هذا الوطن الكبير عليكَ أن تدفعَ من مالِك... وأن تتغوّطَ عليكَ أن تدفعَ من جيبِك، وأن تمشيَ وأن تتنفّسَ عليكَ أن تدفعَ وجيبُك يخلو وكروشهم تُحشى! ضرائبُ الحياةِ في ازديادٍ مطّرد وفقرُ التّعساء في ازديادٍ مطّرد وكلُّ شيءٍ في ازدياد إلا الكرامة والشّرف في وطنٍ ضاقَ بأبنائه!
.
عُدتُ إلى جلستي المعهودة على مقعدٍ خشبيٍّ تلوّنَ بفعل الظّروف والبشر. وما أن حملتُ القلمَ من جديد حتّى عاودت تلك الرّؤوس حركتها فاشرأبّت الأعناقُ واتّسعت الأحداقُ بفضولٍ تنظرُ هذا الغريبَ الذي يكتبُ شيئاً ما! أن تكتبَ فأنت غريبٌ... أن تفكّرَ فأنت غريبٌ... والغرباءُ في وطني يتناقصون ويتضاءلونَ والأمكنة تضيقُ باحتوائهم، وأهلُ البيتِ يزدادونَ بغير حساب!
.
أصنافٌ من البشر تزدردُ الطّريقَ الممتدّة بين المكاتب وإن تجرّأتَ على دخولِ أحدها، فما عليك إلا المقامرة والمغامرة بأن تلقي جسدَك وحمله بين الصّفوف المتراصّة المتدافعة، فتنهالُ اللكماتُ والرّفساتُ... وأيادٍ تلعبُ بالمؤخّرات والجيوب الفارغة، ومسافرون يصيحونَ وأسماء المدن تتناقل بين المسامع بينما يصمتُ الموظّفون أمام السّائلين، وانتظارٌ ولا إجابة! أرجوكِ... يا آنسة أرجوكِ... مكاناً واحداً فقط إلى حمصَ... إلى حماةَ... إلى حلبَ... إلى دير الزّور!!! وأخيراً ينهالُ الغيثُ فتكسرُ موظّفةٌ حاجزَ الصّمت قائلةً: شاغرٌ واحد فقط إلى الميادين! فينفجرُ البركانُ و"هاتِه" تأتيها من كلِّ حدبٍ وصوب! تهتزُّ الأيادي في الهواء تحملُ البطاقات الشخصيّة وتتساقطُ النّقودُ على الأرض فتغيبُ بين الأقدام. السّائلون يصيحون والموظّفاتُ يصمتنَ. وفتاةٌ تجلسُ مشمأزّة بقميصٍ يضيقُ بصدرِها فتنشدُّ أطرافُه وتختنقُ الأزرار أمام تدافع نهديها الكبيرين المثيرين! بينما يصيحُ لونُ حمّالة ثديَيها تحت قماشٍ شفّافٍ: أسود! أسود! أسود!
.
ضأضاءٌ يرتفعُ وصمتٌ ينخفضُ لا بل ينكسرُ، وموسيقى بلديّة مشوّهة تشنّف الآذان والجموع تتزاحمُ والأرصفةُ تضيقُ والأماكنُ يحتجزها الواقفون والجالسون والمقرفصون والنّائمون... أفواهٌ تدخّنُ وأخرى تعلكُ وتمضغُ طعاماً وتشربُ شيئاً فتصعدُ الحناجرُ عندَ كلّ لقمةٍ وتهبط! حاويةُ قمامة مرميّة في وسط الطّريق وقذاراتها متناثرةٌ تحت يديها ورجليها، وأكياسٌ مملوءة وأخرى فارغة ومناديل ملوّثة بالمخاط والبصاق والدّماء وأحمر الشّفاه مدعوسةٌ بين الإسفلت والإسفلت! وأعقابُ السّجائر المرميّة المسطّحة تحت النّعال تبكي ذاك الماضي التليد بين الشّفاه، كما يبكي العربُ حضارةً لم تكن يوماً! فتياتٌ تروحُ وتجيء بأردافٍ تهتزٌّ مخنوقة وخدودٍ ترتجفُ بخجلٍ وبينهنّ كاعبٌ ناهدٌ تفترسها النّظرات من القدمين فالركبتين فما بين الفخذين حتّى النّهدين فالعنق فالشّفاه فالعينين، ثمَّ تعيد الكرّةَ نزولاً وصعوداً حتى تغيب عن البصر! فأمّا السّماء فمزرقّةٌ تتخلّلها غيومٌ تسيرُ ببطءٍ وتتحوّلُ من شكلٍ إلى آخر ساخرةً بأبناء البشر ورؤوسهم الفارغة من العقول المحشيّة بالنفايات وما تبقّى من رماد الغلاء!
.
وأنا مثلي مثل المئات أحلمُ بالمنزلِ حيث الدّفء والطّعام، هناك حيث لا جوع ولا عطش إلا في أيّام الرّقابة العمياء والسّرقات والفساد واللصوصيّة والسّطوة على كلّ شيء بما فيها العقول والأفكار والأقلام. تعبتُ مثلما تعبَ الكثيرون من الرّواح والمجيء وشتمتُ مثلهم آلاف المرّات ولعنتُ آلهة الوطن ومعابده المقفلة في حجرات القصور، وبصقَ العساكرُ لعابهم الأصفر بفضلِ أسنانٍ لوّثها الدّخانُ وامتزجتْ بها الأميّة العمياء! وراحَ الشبّانُ يلاحقونَ الأردافَ المهتزّة إلى اليمين فالشّمال أو الأمام والوراء، لا فرقَ في الاهتزاز إلا الشهوة والاتّجاه! وبينما راحوا يلاحقونها رحتُ أبحثُ عن مثوى ألقي فيه ما تبقّى مني من السّباب وحبّات العرق وأنفاسٍ تخيبُ عندَ كلّ مرأى. هناك إلى جانبِ شبّان من عرب الميادين وألبوكمال جلستُ، وأسمرٌ بقربي سحبَ سيجارةً من علبة "الحمراء" وانتظرَ، لا أدري ماذا انتظر! حتّى طلبتُ منه واحدةً فقالَ: لا ولاعة عندي. أخرجتُ ولاعتي وأشعلتُ لفافته ثمَّ لفافتي وصَمَتْنا حتى اكتمال الموعد!

السبت، أبريل 18، 2009

قراءة موجزة في أدب سيمون جرجي

كتبها النّاقد والأستاذ إيليّا
.
يتّسم أدب سيمون جرجي عامة بالحيوية والنشاط، وهما صفتان اكتسبهما غالباً من شخصيته التي تتمتع بهما حقاً. فهو أبداً في حلّ وترحال. يتنقل بين البلدان والقارات بخفة لا تعرف التعبَ. يعاين الأحداث في هذه البلدان، ويستجلي ظواهرها الفكرية والاجتماعية، ويصور للقارئ معالمها البارزة بريشةٍ فنان صنّاع.
.
ولأدبه مضامين فكرية ونفسية متعدّدة يمكنُ حصرها في النقاط التالية:
1- البوح بالمشاعر الذاتية، ومناجاة الروح بأسلوب شعري جميل مؤثر
2- التغني بحب الوطن، والأم ..
3- بث الشجون التي تولدها الغربة في نفسه، والشكوى من العسر المادي وضيق ذات اليد
4- تصوير مشاهد ومعالم ومواقف وشخصيات من البلدان التي يزورها الكاتب المولع بالرحلات، مع بيان آثارها في عقله ووجدانه
5- وصف شغفه بالكتب، والمكتبات
6- النظرة العميقة إلى الحياة والموت وما يتأرجح بينهما من الأفكار الفلسفية ذات الطابع اللاهوتي
كما يتضمن أشياءَ أخرى، منها ما هو طريف ممتع من مثل ميله إلى الأطعمة وعنايته بوصفها، وبوصف إقباله عليها وتذوقه لها، حتى ليذكرنا ببعض شخصيات الجاحظ المولعة بالمآكل. وقد استلفت نظرنا هذا الميل من الكاتب إلى الأطعمة والأشربة، فآثرنا أن نشير إليها حيثما وردت في تدويناته، لما فيها من الظرف والطرافة:
.
نقرأ في تدوينته الأخيرة "الجزار الأفريقي" -وهو عنوان استعاره الكاتب لنهر النيل، ولم يكن مع الأسف موفقاً فيه؛ لأن النيل كما هو معروف واهب للحياة، وليس كالجزار يقبض عليها للذبح - ما يلي:
"قرّرنا الخروجَ هذا المساء ونبذ اعتزالنا المنزليّ، فطرحَ صديقي مشروعَ العشاء على الطاولة وتلقّفته أيادينا وأعملنا فيه المشاورة بين أن نتعشّى هنا ونخرج، أم نتناوله خلال الطّريق! رجّحت الأصوات عشاءَ الطّريق، فاستعجلنا الترتيب والتوضيبَ وهرعنا إلى الخارج كطيرٍ أقامَ في قفصٍ أعواماً طوالا.."
.
ثم يتابع قائلاً:
"... بالقربِ من حيّنا الغمراويّ دخلنا مطعم "كوك دور" الذي اشتهرَ في مصر بوجباته السّريعة، وطلبنا صندويتشاً، وكانت حصّتي واحدة محشيّة بصدرِ دجاجٍ مشويّ. حملنا هذا الغداء وبلغنا به كورنيش النّيل ..".
.
وفي تدوينة "مجمع الأديان" ما يماثل هذا النهم إلى الطعام:
"كانَ الفطورُ دسماً هذه المرّة فقد ازدردتُ بيضتين و"عيشاً" (خبزاً) مصريّاً مع كأسٍ من الشّاي الثّقيل وتراوحت ملحقاتُ هذا الصَّبوح بين الجبنةِ واللبنةِ..".
.
وحين يكتب إلى صديقته رداً على رسالتها المنتظرة، لا يفوته أن يستمد من المائدة عناصر فكرته فيقول:
"ما يزالُ عندي وقتٌ طويل فحدّثتُ نفسي ودعوتُها إلى مائدة من موائد الأدبِ الرّوائي المصريّ ..".
.
وفيها أيضاً هذا الوصف المسهب الفكه للمأكل والمشرب، ولإحساس الكاتب بهما. وهو إحساس يكاد يقترب من إحساسه حين تبصر عينه إحدى المكتبات:
"سألتُ صديقي الذي أُلازم مسكنه عن الغداء فقال لي: "كُشَري"، ستأكل اليومَ طعاماً لذيذاً وستدعو لي من بعدها. خرجَ على أثرها وعادَ بعد قليل حاملاً الكشري الموعود وبضعة أقراص من الطعميّة وعلبتين من اللبن الزّبادي. نزلتُ إلى الميدان بكامل لباسي العسكريّ فمزّقتُ الصّحون والأقداح وجعلتُ منها عبرة لمن اعتبر ..".
.
وجاء في موضع آخر هذا الحديث العجيب الذي يشبه حديث النساء أو الطهاة:
"دخلنا هذا المركز التجاريّ العملاق وسارعنا إلى سوقِه حيث المؤونة والغذاء، وحملنا معنا ما يكفينا أسبوعاً وكانَ بينها باذنجان أبيض أراه لأوّل مرّة أخذناه لنصنعَ منه مع الكوسا والبندورة والفليفلة طعاماً نسمّيه "دولما" وهو "المحشيّ" عند البعض الآخر. بعدَ جولةٍ أخرى من التسوّق في هذا "المول" جلسنا في أحد مقاهيه وطلبتُ كأساً من الشوكولا المثلّجة، بينما اشتهى صديقي كأساً من الشّاي... عُدنا إلى البيت واقتصر العشاءُ على بقايا الغداء وملحقات السفرة الأخرى".
.
وفي تدوينته "في روما" سنقرأ حبه للأكل أيضاً ولكن في إطار شاكٍ حزين:
"ليس في جيبي إلا القليل القليل، بضع قطعٍ نقديّة معدنيّة تبلغُ 7 إِوْرو و67 سنتاً تمكّنني من الحصول على وجبة ونصف في مطاعم المَكْدونالدز الشّهيرة! غداً سيصلُ صديقي من بلدتي مُحَمَّلاً بوصيّتي الأخيرة التي تركتُها على الهاتف عندما جمعني بأمّي الحبيبة. سيحملُ لي كتباً وطعاماً ونقودا.. ".
.
ولن ينسى كاتبنا وهو يستعد للرحيل في تدوينته "في جنوب بلاد الغال" أن يتناول طعامه. فإن تناوله للطعام، طقس مقدس لا بُدَّ من ممارسته قبل الرحيل:
"غادرتُ بلدتي الحبيبة صباحَ الأربعاء في الثلاثين من الشّهرِ الماضي تمّوز لتناول الغداءَ في حلب والاستعداد للرّحيل .. ".
.
هذه بعضُ صورٍ للأطعمة رسمها لنا الكاتب في تدويناته بريشة متشهية. وجاءت لترسم في مخيلة القارئ ملامح كاتبٍ له ولعٌ خاص بالأطعمة والأشربة، ولتضعَه وجهاً لوجهٍ أمام رجل بطين، ضخم، ثقيل الحركة، تجحظ عيناه كلما وقعتا على صنفٍ يلذُّه منها. وهو في الواقع ليس كذلك...

الأربعاء، أبريل 15، 2009

مواطن غليظ

ها قد مضت عدّة أسابيع على اتخاذي قرار الالتزام بهذه المدونة الفتيّة، وكنتُ قد قطعتُ على نفسي عهداً بأن أقدّم مادةً فيها كلّ أسبوع على الأقل. من الواضح أنّي لم أستطع الوفاء بعهدي، إلا بنشر مقالة يتيمة كتبتُها منذ زمن بعيد جداً، والسبب بكلّ بساطة يعود إلى شحّ "المواد الأوّلية" للكتابة.
.
الموادّ الأوّلية اللازمة للكاتب، وأعني طبعاً الكاتب اللي متل حكايتي، الذي ليسَ لديه من الأبحاث والمعارف المفيدة إلا الشيء القليل، يحتاجُ إلى موادّ أولية يقوم بصياغتها ووضعها في قالبٍ ما، حتى تصبح صالحةً للعرض أمام القارئ. وتتمثّل المواد الأوليّة في مواقفَ يجدُ الكاتبُ نفسه متورّطاً فيها، وأحداثٍ يمرّ بها، وشخصيات يقابلها ويخوض معها في أحاديث وحوارات ونقاشات.
.
مرّت الأسابيع الماضية بأيّامها ولياليها، ويا للأسف الشديد، لم أتورّط خلالها في مواقفَ صعبة، ولم أمرّ بأحداث مثيرة، ولم أقابل أشخاصاً مهمّين لأخوض معهم في أحاديث تتناسب ودرجة أهميّتهم، واقتصرت مشاهداتي على نماذج من "المواطن الغليظ"، فاخترتها لتكون موضوع هذا اليوم باعتباري لم ألتقِ بغيرها.
.
ما الذي يجعلنا نلصق بمواطنٍ ما تهمة "الغلاظة"؟ أو بالأحرى ما هو التعريف الدقيق للمواطن الغليظ؟
.
باختصار، المواطن الغليظ هو ذاك القادر على تسويد عيشتك، وتسكير الأبواب المفتّحة في وجهك. وهو المخلوق الوحيد الذي يخرّب عليك سعادتك دون أن ينكشَه ضميرُه نكشة عذاب، لأنّه بكلّ بساطة غليظ!! ولا يوجد أيّ نصّ في القوانين والشرائع والأديان يجيز محاسبة الغليظين على غلاظتهم، كما أنّ الغليظ معذورٌ -ما بيتآخذ-، فهذه طبيعته التي لا يستطيع تغييرها.
.
والغليظون يُصنَّفون في أنواع وأنماط حسب درجة الضرر، فهناك الغليظ المحمول (القابل للتحمّل) من قبل الأشخاص غير الانفعاليين، وهناك الغليظ المتحوّل الذي يتحوّل من غليظ إلى قليل تهذيب أو من غليظ إلى حرامي أو نذل، أو من غليظ إلى نكبة أوعقبة أوعثرة أوإعاقة أو... وإليكم بعض الأمثلة:
.
تخيّل مواطنة زميلة لك في مكان عملك الذي لا تحبّه، ولا ينتابك الانبساط والانشراح عندما تدخله، تستقبلك صباحاً بوجه (مجلغم)، وأسنان ملوّثة بأحمر الشفاه كشفَتْها لك ضحكتُها البلهاء، فتردّ تحيّتها بانقباض وأنت تجلسُ على طاولتك وتبحث عن فنجانك (أبو أذن) المطبوعة عليه رسوماتك الكرتونية المفضّلة، تسألها عنه وتصفُ لها شخصيات الكرتون في محاولةٍ منك لإفهامها أنّ هذا الفنجان خاصّ بك ويعبّر عنك، فتتسعُ ضحكتها البلهاء إياها وتجيبك بأنّها "استعارته مؤقّتاً" لتضع فيه أقلامها الجافّة التي لم تستخدمها منذ سنة!! فتتحمّل وتستوعب الأمر باعتبار أنّ فنجانك ليس من ذهب ولا أهميّة قصوى لوجوده معك، وتستطيع –ولو على مضض- أن تستخدم سواه (غليظة محمولة). إلا أنّ رحابة صدرك ربّما لن يكتب لها الاستمرار عندما يصدح كومبيوتر زميلتك المواطنة الغليظة من صباحية ربّنا بأغاني الكراجات والسرافيس والملاهي الليلية، عندها فقط ستبدأ بالشعور بالغضب، وتستمرّ بالغضب تصاعدياً عندما تندمج الغليظة مع الموسيقا وتسترسلُ بالغناء بصوت... يشبه صوت احتكاك الأظافر بالحائط، وكلّ الأغاني تخرج من فمها بنغمٍ واحد، ولو مرّت صدفةً غنيّة حلوة وعزيزة عليك فلا تفرح، إذ أنّ زميلتك الغليظة موجودة لتفسدَ عليك متعة الاستماع، فتضارب على المغنّي بصوتها! (غليظة متحوّلة إلى قليلة تهذيب).
.
مثال آخر... تخيّل مواطناً مساوياً لك في الحقوق والواجبات والجوهر، دفعتك ظروف بالغة التعقيد للقائه والتعرّف عليه، حتى تقع في "غلاظته" من أوّل نظرة ومن أوّل سلام ومن أوّل موعد...
يسألك المواطن عن اسمك، تجيبه بلطفٍ بالغ: اسمي فلان... وبإمكانك أن تناديني كذا... وأحبّ أن تناديني كذا... لأنّ أصدقائي المقرّبين ينادونني كذا (طريقة ذكيّة جداً لجعل الطرف الآخر مرتاحاً في حديثه معك، فأنت تريده أن يناديك كما يناديك المقرّبون، وهذا يعني أنّك لا تمانع أن يصبح واحداً من هؤلاء المقرّبين). لكنّ المواطن ويا للأسف... غليظ!! غليظ إلى درجة أنّه يضحك نفس ضحكة زميلتك الغليظة إياها (سبحان الله... أشياء كثيرة مشتركة بين أفراد الصنف الواحد) وهو يقول: بتعرف... أنا شفت فيلم بزماني بيحكي عن قرد اسمو على اسمك... هاهاهاهاها.... يستغرق المواطن الغليظ في قهقهة شديدة البلاهة دون أن ينتبه إلى تعابيرك التي تنضح استياءً! وكيف له أن ينتبه وهو غليظ من أرفع طراز؟ سمعت بحياتك عن جمل قدر بيوم يشوف حردبته؟
وفي موقف آخر يخاطبك المواطن الغليظ قائلاً: تذكّرني تصرفاتك هذه بتصرّفاتي عندما كنت صغيراً مثلك!!! فتذكّره وبتهذيب أنّك لست صغيراً، فيجيبك الغليظ: لا أعني صغر السنّ... بل العقل!!!
.
غلاظة المواطن في هذا الوضع تختلف عن الغلاظات الأخرى، ولعلّها أشدّ أنواع الغلاظة فتكاً وتدميراً، فالغليظ من هذا النوع قادر على إيذائك وجرحك في الصميم بمجرّد قراءة تعاويذ غلاظته على رأسك، كما أنّه يحسن اختيار الأوقات الملائمة لتطبيق غلاظته حتى يحقق أكبر قدرٍ من الخسائر بضربة واحدة: فعندما تكون معنوياتك مرتفعة في وقتٍ ما، الغليظ كفيل بتسويتها بالأرض، وعندما تكون بأمسّ الحاجة إلى وجود صديق –بالمعنى الصحيح للصديق-، يفعل الغليظ المستحيل حتى يُشعرك بأنّك وحيد منبوذ وعديم القيمة كأرملة وحدانية!
.
من المؤسف أن نجد أنفسنا مضطرين إلى التعامل مع النماذج الغليظة يومياً وفي كلّ الأوضاع والمجالات. عندما تخرج صباحاً إلى العمل فستجد الغليظ ينتظرك كيفما تحرّكت، في الشوارع وفي المواصلات وحتى في سيارتك الخاصة... فالسائق الغليظ الذي يكسر عليك ويشتمك ويهدّدك، والسائق الغليظ الذي يقشطك فوق العدّاد شي مية ليرة، والسائق الغليظ الذي يحاول أن يدعسك وأنت تعبر الشارع، وعمّو الشرطي الغليظ الذي يترقّبك ويتعقّبك لا خوفاً عليك ولا حبّاً بالنظام... فَشَر! فهو يتمنّى في قرارة نفسه أن يكون حزامك مفكوكاً (الأمان طبعاً)، أو تخالف الإشارة وتهرس كام زلمة بطريقك، لا بل يتمنّى أن تفوت بشي حيط لينال اللي فيه النصيب!
.
تصول وتجول في دوائر الدولة لأنَّ عندك معاملة رسمية بدها "ملاحقة" (لا يستخدم هذا التعبير أحدٌ في العالم سوانا)، فيصفّر مؤشّر الغلاظة وبيضوّي أحمر، لأنّك ستجد أغلظ خليقته تعالى بانتظارك، معقّب معاملات على الباب: بمشّيلك ياها أستاز، نحنا بخدامة الطيبين أستاز... وموظّف: اتركها وغطّلك غطّة لبكرا... بس اليوم خميس... إيه غطّ للأحد!!! وموظّف ثانٍ: هي بدها ختم الديوان، وموظّف الديوان خالتو مرت أبوه عطتك عمرها وآخد إجازة، راحت معك للأسبوع الجاية!
.
في مدارسنا وجامعاتنا تجدُ الغلاظة: عندما يدخل الدكتور القاعة ليلقي المحاضرة، وهو يعلم تمام العلم أنْ ليس له هناك مستمعون، ولا مريدون، ولا مستقيظون، وليسَ هناك سوى متمتمين: إيه اللَّعية اللي تلعي قلبك يا دكتور شو قليل وجدان وقليل قدر! ويبقى مع علمه هذا مصرّاً على إلقاء المحاضرة، ومصرّاً على قول: حدا عندو سؤال؟؟؟!!! (لك مين بدّو يسألك بالله؟ هالنايم ولا هالشّارد ولا هالعشقان؟). كما ويصرّ بشدّة على إعطاء نسبة للحضور من المحصّلة النهائية، أفليسَ هذا قمّة البلاهة والجهالة و... الغلاظة؟!
.
حتى إعلامنا لم ينجُ من الغلاظة: برامج غليظة، أخبار غليظة، مذيعون غليظون يحاولون أن "يتهضمنوا" (لو يبقوا على غلاظتهم الطبيعية... مو أحلى؟)، مقابلات غليظة، إعلانات غليظة، مسلسلات مدبلجة غليظة... كلّها تجتمع لتنتج بالتالي مشاهدين غليظين، لأنو ما حدا بيتحمّل يشوف الغليظ إلا الغليظ اللي متلو.
.
السوريّون يا جماعة الخير شعبٌ يتميّز بغلاظة فريدة من نوعها، واسألوني ليش؟
.
كنت قد ذكرتُ سابقاً أنّ الغليظ المزبوط لا يعرف أنّه غليظ، بل يعتبر نفسه مهضوماً حلو النكتة، وكذلك الشعب السّوري: فهو يرى نفسه ظريفاً لطيفاً وخفيفاً، لا مشاكل لديه، ولا أزمات من أيّ نوع، لا أخلاقية ولا ثقافية ولا اجتماعية! وهنا الكارثة!
.
متى سيصحو هذا الشعب ويتنبّه إلى أنّه أضحى واحداً من أضخم مصدِّري الغلاظة في الشرق الأوسط والعالم؟

السبت، أبريل 11، 2009

تراتيل الجمعة الحزينة بصوتِ فيروز

يقولُ القدّيس والفيلسوف الشّهير أوغسطينوس "من رتّلَ صلّى مرّتين"! وكما نقلتُ إليكم تراتيل مطربتنا السّريانيّة فيروز في عيد الميلاد مع كلماتها وما جاءَ فيها، أنقلُ إليكم اليومَ مجموعة من أناشيدها في الجمعة الحزينة التي نمرُّ فيها بحسب التقويم الجريجوريانيّ، وهذه الأناشيد هي من تراث الكنيسة الملكيّة (البيزنطيّة). أرجو أن تستمتعوا بها!
.
استنيري
إنَّ الملاكَ تَفوَّه نحوَ المُنعَمِ عليها:
أيّتها العذراءُ النّقيّةُ افرحي،
وأيضاً أقولُ: افرحي
لأنَّ ابنَكِ قدْ قام مِنَ القَبرِ في اليومِ الثّالث.
استنيري استنيري يا أورَشَليمُ الجَديدة،
لأنَّ مجدَ الربِّ قدْ أشرقَ عليكِ.
افرحي الآن وتهلّلي أورَشَليم
وأنتِ يا نقيَّة يا والدةَ الإله
اطربي بقيامةِ ولدِك.
.
تعليق: يربطُ المرنّمُ الكنسيّ حدثَ القيامة بحدث البِشارة بشكلٍ فريد، عندما يجعل من الملاك المُبشّر بالتجسّد الإلهي رسولاً مبشّراً بقيامة الربِّ يسوع موجّهاً بشارته إلى مريمَ كما وردَ في مطلع إنجيل لوقا. ونجدُ في نصِّ هذه الترتيلة كلمة "افرحي" بدلاً من "السّلامُ عليكِ" لأنَّ الكلمة اليونانيّة تشيرُ إلى الفرحِ في موضع السّلام! هي مريم التي أَنعمَ الآبُ عليها واختارها لتكون أمّاً لابنه الوحيد وهي عذراء قبلَ الولادة وبعدها وهي أيضاً نقيّة لأنّها مُنعمٌ عليها محفوظة من كلِّ دنس! موضوعُ البِشارة كما قلنا هنا هو قيامة ابن مريم من بين الأموات، ولهذا يصلُ الكاتبُ بين القيامة فالمجد فالاستنارة، ويُخاطب أورشليمَ الجديدة، أي السّماويّة الرّوحيّة، ويقولُ لها استنيري وافرحي وتهلّلي لأنَّ الربَّ قامَ ومجده أشرقَ عليكِ.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
المسيح قامَ من بين الأموات
المسيحُ قامَ من بين الأموات،
ووطئ الموتَ بالموت،
ووهبَ الحياة
للذينَ في القبور.
,Χριστὸς ἀνέστη ἐκ νεκρῶν
,θανάτῳ θάνατον πατήσας
,καὶ τοῖς ἐν τοῖς μνήμασι
.ζωὴν χαρισάμενος
خْريسْتوس آنيستي إِك نِكرون،
ثاناتو ثاناتون باتيسَسْ،
كِه تيس إنْ تيسْ مْنيماسي،
زوين خاريسامينوسْ.
المسيحُ قامَ من بين الأموات،
ووطئ الموتَ بالموت،
ووهبَ الحياة
للذينَ في القبور.
هذا هوَ اليومُ الذي صنعَه الربّ
فلنفرحْ ولنتهلّلْ بهِ
المسيحُ قامَ من بين الأموات
ووطئ الموتَ بالموت
ووهبَ الحياة للذينَ في القبور.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
اليومَ عُلّق على خشبة
اليومَ عُلّقَ على خشبة الذي علّقَ الأرضَ على المياه،
إكليلٌ من شوكٍ وُضعَ على هامةِ ملكِ الملائكة،
برفيراً كاذباً تسربل الذي وشّح السّماءَ بالغيوم،
قبل لطمةً الذي أعتقَ آدمَ في الأردنّ،
ختنُ البيعة سُمّرَ بالمسامير،
وابنُ العذراءِ طُعنَ بحربةٍ.
نسجدُ لآلامِك أيّها المسيح (3)
فأرنا قيامتَك المجيدة.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
أنا الأمّ الحزينة
أنا الأمّ الحزينة وما مَن يُعزّيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
أمُّ يسوع قدْ بكتْ فأبكتْ ناظريها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
لهفي على أمّةٍ قتلتْ راعيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
ناحَ الحمامُ على تشتُّتِ أهليها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
عذارى أورَشَليم تبكي على بَنيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
تعالوا إلى مريم أمِّه نعزّيها.
فليكنْ موتُ ابنِكِ حياةً لطالبيها.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
طُرُقُ أورَشَليم
طُرُقُ أورَشَليم نائحة لعددِ القادمين إلى الأعياد
وجميعُ أكواخِها متهدّمة كهنتها متنهّدون
وعذاراها متحسّرات وفي مرارةٍ
الربُّ صالحٌ للذين ينتظرونَه للنفسِ التي تلتَمِسُه
خيرٌ أن يُنتظرَ خلاصُ الربِّ بسكوتٍ
لأنَّ السيّدَ لا يُحصي إلى الأبدِ
فإنّه ولو أعدد يرحمُ بحسبِ كثرةِ رأفتِه
عيني تقطرُ ولا تسكتُ لأنَّه لا قرارَ لي
إلى أن يطلِعَ وينظُرَ الربُّ من السَّماء
دعوتُ باسمِك يا ربِّي اسمعْ صوتي
لا تحجبْ أذنَك عن استغاثتي
اقتربْ يومَ أَدعوك.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
قامت مريم
قامتْ مريم بنتُ داود إزاءَ العود
تندبُ ابنَها المصلوب بأيدي الجنود
رُمحُ الحُزنِ غائص في نفسِها
ومن آلامِه غابتْ عن حسِّها
ثمَّ أفاقت الوالدة
وصاحتْ آه يا ولداه
حبيبي حبيبي يا ولداه خاطبني
كيف أراك عريان ولا أبكيك يا ابني
أوجاعُكَ حرقتْ أكبادي
آلامُكَ خرقتْ فؤادي
أحياةٌ لوالدتِك يا ولداه بعدَ موتك؟!
يا أمَّ يسوع بنت الآب الأكرم
يا عروسَ الرّوح القدّوس الأعظم
أشركينا بآلام فادينا
زيّنينا بنعمة بارينا
لنخدمَكِ مديدَ الدّوام
على الأيّام والأيّام.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
كاملُ الأجيال
كاملُ الأجيالِ تُقرِّبُ التّسبيحَ لدفنِك يا مسيحي
حاملاتُ الطّيبِ أهدتْ لكَ الطّيوبَ بشوقٍ يا مسيحي
با ربيعي العذبَ يا بنيَّ الحلوَ أينَ اختفى جمالُك؟!
أيُّها الثّالوثُ الآبُ الابنُ الرّوحُ ارحمْ جميعَ العالم
كاملُ الأجيالِ تُقرِّبُ التّسبيحَ لدفنِك يا مسيحي.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
وا حبيبي
وا حبيبي وا حبيبي أيُّ حالٍ أنتَ فيه!
من رآكَ فشجاكَ أنتَ أنتَ المُفتدي
يا حبيبي أيَّ ذنبٍ حمّلَ العدلُ بنيه
فأزادوكَ جراحاً ليسَ فيها من شفاء
حينَ في البستانِ ليلاً سجدَ الفادي الإله
كانت الدّنيا تُصلّي للذي أغنى الصّلاة
شجرُ الزّيتونِ يبكي وتناديه الشّفاه
يا حبيبي كيفَ تمضي أترى ضاعَ الوفاء؟!
.
حمّل الترتيلة:
.
.
يا شعبي وصحبي
يا شَعبي وصَحبي أينَ عهدُ الإيمان؟!
أينَ الوفا بالحبّ والوداد والرّضوان؟!
كالقاتلِ والعدوّ دفعتموني للهوان
وما بينَ لصّين تركتموني عريان
يا مريمُ أمّي نحيبُك يزيدُ أدمعي
ارحميني واسكتي، اتركيني وارجعي
يا أبتاه لماذا تتركُني لوجعي؟!
خنقتْني الحسرات ومزّقتْ أضلعي.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
يا يسوع الحياة
,Η ζωή εν τάφω
κατετέθης, Χριστέ
,και αγγέλων στρατιαί εξεπλήττοντο
.συγκατάβασιν δοξάζουσαι την σήν
إي زويي إِن تافو
كاتيتيثيس، خْريستِه،
كِه أنجِلون سْتْراتيِّه إكْصِبليتونْتو،
سينجاتافاسين ذوكصازويسِه تينْ سينْ.
يا يسوعُ الحياة في قبرٍ وُضعتَ
فالجنودُ السَّماويّةُ انذهلتْ
كلُّها ومجَّدتْ تَنازُلَك
المسيحُ الحياة حينَ ذاقَ الممات
أعتقَ النّاسَ مِن الموت
ولقدْ منحَ الآن الحياةَ للجميع
فاضَ مِن جَنبِك كَمِن نبعٍ واحد
جدولٌ مضاعفٌ منهُ نستقي
مثمرٌ لنا الحياةَ الخالدة
نُعظِّمُك باستحقاقٍ يا مُعطي الحياة
يا من بسطَ يديه على الصَّليب
ساحقاً قُدرةَ سُلطانِ العدوّ
نعظِّمُك باستحقاق يا خالقَ العالم
فبِآلامِك نِلنا كلَّ شِفاء
ونَجونا كلُّنا مِن الفساد
حَبّةُ الحِنطة المُثنّاةُ ذاتُ الطَّبيعتين
زُرِعتْ بالعَبرات في حُضنِ الأرض
وسَتُفرعُ السُّرورَ للجميع
يا مُخلّصي إنَّ الشَّمسَ والقمرَ أَظلما معاً
وكعبدين أمينين التحفا حُللَ الليلِ الدَّجيّ الضّافية.
.
حمّل الترتيلة:
.
.
- موقع للاستماع أو التحميل على شكل MP3:
.
- موقع آخر: