الجمعة، أكتوبر 31، 2008

القطيعُ المُساق إلى الذّبح!

في مظاهرة جمعت عشرات الآلاف من السوريّين في العاصمة على بعد أمتار من السّفارة الأميركيّة، ندّد المتظاهرون بالولايات المتّحدة الأميركيّة بسبب سياستها الجائرة وخصوصاً رداً على ما قامتْ به مؤخّراً في غارة جويّة برية قتلتْ فيها عدداً من المدنيين السوريّين في مدينة ألبوكمال شرق سورية!
.
وضمن ما حمله المتظاهرون لفتَ نظري شعارٌ من شعاراتهم يقول:"يا أميركا لمّي جيوشك بكرة الشعب العربي السوري يدوسك"!
.
من المضحك والمبكي معاً أن ترد مثل هذه الكلمات على لسان شعبٍ مقموعٍ خاضعٍ ذليلٍ لا يعرفُ طعمَ الحريّة ولا بأي شكلٍ من أشكالِها!
.
الشعبُ السوريُّ الذي ما عادَ يجدُ ما يقتات به بسبب جورٍ وظلم ونهبٍ لم يعرفْه تاريخ سورية الحديث على الإطلاق، يهدّد أقوى دول العالم وأكثرها تقدّماً في كافّة المجالات... يهدّدها بالدوس!!!
.
هذا الشّعبُ الخانع الذي لا يُمكنه أن يتكلّم عما يحدث في بلادِه لا عن الفساد الذي بلغ الأعناق لا بل طمى عليها وتجاوز... ولا عن القيود التي لفّته من كلّ حدبٍ وصوب... ولا عن موت الحريّة في بلدٍ يموتُ بسرطان الحاكم!
.
أقولُ للمتظاهرين: لمّوا بعضُكم بعضاً إذ لن تلقوا دوساً أكثر مما أنتم فيه... لمّوا بعضُكم بعضاً وعودوا إلى جحورِكم حفظاً على آخر رمق من كرامتكم وشرفكم المداس تحت أقدام الطّاغية!

الدّراسة وما بعد!

الخميس 27 آذار 2003 (جبل لبنان)
.
لم أتزحزحْ عن الفراشِ حتّى الثّانية بعدَ الظّهر، وهذا يعني أنّي داومتُ في عملي هذا، أي النّوم، اثنتي عشرة ساعةً بالتّمام والكمال. وهذا يعني أيضاً أنّي قضيتُ نصفَ يومٍ في غياهبِ النّسيان والموت! ويجرّني هذا معه إلى التفكيرِ في رغبتي في الموت مقدار رغبتي في الحياة. لكنّي نكزتُ رأسي وقلتُ: دع عنكَ هذا الاستنتاج الخاطئ، وتذكّر يا هذا أنّك استيقظتَ رغماً عن أنفِك لا بل نهضتَ من السّرير ورأسُك تؤلمُك من كثرة الرّقاد، ولم تفعلها حبّاً في الحياةِ أو العملِ أو ما تبقّى عليك من واجب، بل قمتَ به لأنّك أردتَ الهربَ من آلامِك... كفى! كفى! اسكتْ!!! دعني أُكمل: باختصار كلُّ ما جاءَ في تلك المقدّمة يعني أنّك تحبُّ الموتَ أكثر من الحياة، فبئسَ حياةٍ هي حياتك وطوبى لموتك فأنت تستحقّه عن جدارة.
.
شارفتْ سنتي الجامعيّة الأخيرة على الانتهاء، وما زلتُ أشعرُ بأنّي فتىً يلهو مع أقرانِه في لعبةِ الحياةِ هذه، ولستُ مستعدّاً لمواجهة أيّ شيء. ماذا تعني الشّهادة؟ أليست إنذاراً يخبرك أنَّ العملَ على الأبوابِ يقرع؟! من كثرةِ التفكير في الأمرِ شعرتُ بعجزي لا بل رأيتني شيخاً لم يتعدَّ الجيلَ الثّالث من عمره، شيخاً هرماً تطعنهُ الحياةُ كلَّ يومٍ وكأنّها لم تقتبلْه ولا تريدُ أن تراه. تمزّقه بمخالبها وتفترسُه بأنيابها وتجعلُ منه عظاماً ملقيّةً أمام نسور الأزمان. في الحقيقة أنا نفسي أحسُّ مثلها، وينتابني الشّعورُ نفسُه وكنتُ أتخيّلُ الحياةَ كلَّ لحظةٍ رجلاً فأطعنُه بخنجري المسنون المعقوف ولا أكفُّ عن الطّعنِ حتى أرى الموتَ بين أجنابِها، أطأها برجليَّ كما وطئ المسيحُ الموتَ... فأمّا وهي ليست كذلك، ليست على ما أتصوّره في مخيّلتي، فهذا مجرّد أضغاث أحلام يؤلمني جداً معرفتها على ما هي عليه في الواقع!!!

الخميس، أكتوبر 30، 2008

اسقِ العطاشَ... في سوقِ الجُمعة!

ماذا يعني كلُّ قديمٍ؟ ولماذا أشعرُ كلّما اقتربتُ منه بشعورٍ غريبٍ؟! ما هو الدّافعُ الذي يشدّني إليه، أهوَ التاريخُ والماضي، أم رائحتُه التي تحملُ في لفحاتها عبقَ الذّكريات وصورة الأجيالِ الماضية؟
.
هكذا تساءلتُ وأنا مزمعٌ على الذّهابِ إلى سوق الجمعة في مدينةِ الشّهباء! أشرتُ إلى سيّارةِ أجرة فتوقّفتْ وولجتُ داخلها مُسرعاً هرباً من صراخِ السيّارات خلفنا... إلى أين؟ قالَ السّائقُ الشّاب وهو ينظرُ يميناً ويساراً. سوقَ الجمعة، أجبتُه باختصارٍ. بعد عدّة دقائقٍ نظرتُ إليه وقلتُ: إلى أينَ أنتَ ذاهب؟ هذا الطّريق لا يوصلنا إلى السّوق! أجابَ: ألم تعلمْ بأنّ المحافظة اليقظة السّاهرة على المواطنين وراحتهم نقلتْ السّوقَ من جانب المخيّم إلى طريقِ الرّاموسة؟ لا واللهِ، فآخرُ مرّةٍ مررتُ به كانت السّنة الفائتة... فضحك وقال: في سنةٍ بلدُنا بحالِه يتغيّر، فكيفَ بسوقِ الجُمعة وأصحابِه وروّادِه المساكين؟!!
أردف: تصوّر يا رجل بلديّتنا ومن ورائها المحافظة ليس لهم لا ضميرٌ ولا وجدان، يضعون سوقاً بأكمله على الطّريق العام السّريع (الأوتوستراد) حيث الشّاحنات والحافلات، لا يهمّهم إن تعثّرت شاحنةٌ ما فانحرفت ووطئت السّوق بمن وما فيهِ، وأعقبَ ذلك بشتيمةٍ من العيارِ الثّقيل لا تُسمع إلا قرب السّائقين!
.
وصلنا الأوتوستراد، ومن بعيدٍ لمحنا السّوقَ في الجانبِ الآخر، فقال لي: إذا حملتُك إليه مباشرةً، عليّ أن أقطعَ مسافةً طويلةً جداً، فنهاية الأوتوستراد بعيدة، فأمّا إن أردتَ السّير راجلاً إليه، فهذا شأنُك، ماذا تقول؟ قلتُ: عُدْ أدراجَك وادخل بين الحارات ولنسأل هناك عن طريقٍ فرعيٍّ قريب. دخلنا حياً فقيراً بيوته متآكلة الجدران ومحلاته بسيطة جداً، وهناك سألنا مجموعةً من الشبّان عن غايتنا، فأشاروا إلينا بالطّريق. نزلتُ عند بداية السّوقِ، وهالني أنّه مقسومٌ بين جهتي الطّريقِ السّريع ممتداً حتى الجسر المشيّد فوقه. اجتزتُ الأوتوستراد بعد أن قفزتُ فوق صبّات الإسمنتِ التي تفصلُه شطرين وتوجّهتُ إلى الجسر حيث فُرشت البضاعة التي تحملُ من كلِّ وادٍ عصا! كنتُ أشتهي الكتبَ القديمة وبعدَ قليلٍ عثرتُ على بعضها مرمياً على الترابِ مكدّساً دون ترتيبٍ... جلستُ القرفصاء أقلّبُ بينها، حتى لمحتُ كتاباً مصفرّاً قرأتُ عنوانَه: "كتاب النّشيد والموسيقا للمرحلةِ الإعداديّة، للصفوف الأوّل والثّاني والثّالث، تأليف نهاد الفرا وهاشم فضة وإبراهيم الدرويش" طُبع في سنة 1960 في مطابع دمشقَ والاتّحاد. رفعتُه مع كتابٍ قديمٍ بالأرمنيّة وسألتُ البائعَ عن الثّمن فأجابني وهو يصيحُ: كل واحدٍ منها بخمس عشرة ليرةٍ، دفعتُ له خمساً وعشرين ليرة فرضي بها، وتركتُ المكان ظافراً بهذه اللقية.
.
في طريقِ العودةِ قلّبتُ الكتابَ فوجدتُه مقسوماً بين الموسيقا والأناشيد، فأمّا الدروس الموسيقيّة فكانت موزّعة على ثلاثةِ أجزاءٍ كلّ واحدٍ منها لصفٍّ. في الأوّل يتعلّمُ الطالبُ ماهيّة الموسيقا والصّوت وعلاماتها الزمنيّة ثمّ التدوين الموسيقيّ فموازينه، فالسلّم الموسيقيّ وعلامات التحويل والقراءة الإيقاعيّة والصولفيج الغنائيّ. الجزءُ الثّاني يتخصّص في السلّم وأبعادِه واشتقاقه وتسميته وتكوينه. فأمّا الثالث فكان منصبّاً على تكوين السّلالم الموسيقيّة على اختلافِها. يلحقُ بهذه الأجزاء ملحقٌ مدعوٌ بـ"قسم التذوّق الموسيقيّ" يتحدّث عن الآلات الموسيقيّة وتركيبِها، والفرق الموسيقيّة بأنواعها، فالتأليف الغنائيّ الغربيّ فالعربيّ، ويذكر علمين من الأعلامِ العربِ أوّلهم أحمد الأوبري الحلبيّ السوريّ (1895- 1952)، وثانيهم سيّد درويش المصريّ (1892- 1923).
.
في إحدى الصّفحات عثرتُ على مقالٍ يُسمّى "الفاصل الغنائيّ (اسقِ العطاش)"! ومن منّا لا يعرفُ هذا الفاصل الحلبيّ الشّهير الذي أبدعَ فيه الفنّان السوريّ صباح فخري؟! ومن منّا لم يطرب بسماعِه مع هزّات هذا المطرب المُمتِع؟! أعجبني حقاً لأنّه يبحثُ في نشأته وشرحه بشكلٍ سلسٍ موجز، فرمتُ في نفسي أن أنقله إليكم لفائدته. جاءَ في الصّفحة 22 و23 من "قسم التذوّق الموسيقيّ" وقد سبق ذكرُ العنوان:
.
"يا ذا العطا يا ذا الوفا يا ذا الرّضا يا ذا السّخا اسقِ العطاشَ تكرّماً.
بهذا المطلع يُستهلُّ هذا الفاصلُ الغنائيُّ الرّائعُ الذي جادتْ به قرائحُ السّلفِ الصّالحِ في بدائع الفنِّ الموسيقيِّ الشرقيِّ العربيِّ السوريّ وهو من آثارِ حلبَ الشّهباء العريقةِ النّسب بالفنِّ الموسيقيّ.
وقدْ أُخذَ هذا الفصلُ الفنّي عن كتاب (سفينة الألحان) وكان قدْ جمعَه المرحومُ الشّيخُ محمّد الورّاق مُنشدُ التكيّةِ الهلاليّة بحلب، حوالي عام 1880م. الذي كانَ يتحلّى بالعلمِ والفَضلِ ومن أئمّةِ المؤلّفين والمُلحّنين وقدْ تخرّجَ على يديه عددٌ كبيرٌ من أربابِ المُنشدين والمُلحّنين في ذلك الحين.
.
اسقِ العطاشَ: إنَّ الأقوالَ بتسميةِ هذا الفصل متضارية [يُريدُ متضاربة]، فمن قائلٍ: "إنَّ قحطاً أصابَ مدينةَ حلب ذات سنةٍ فشحّتْ مياهُها وجاعَ النّاسُ فتضرّعوا إلى الله أن يسقيَ عطاشَهم". ومن قائلٍ: "إنَّ اسقِ العطاشَ رمزٌ صوفيٌّ إلى قولٍ غزليّ وُجّه إلى الذّات العُليا مجازاً وهو بمثابةِ (دور) يُتلى في الأذكار والمقامات الدينيّة". ومن قائلٍ: "إنَّ الحادثةَ وقعتْ في مصرَ قديماً بدليلِ العادةِ المتّبعةِ في هذا البلدِ، حيثُ يجتمعُ رؤساءُ الأديانِ المختلفةِ عندَ حدوثِ انخفاضٍ في مياه النّيلِ، ويبتهلونَ إلى الله باستمطارِ غيث الرّحمة. فيذهب الأذى عن النّاسِ". وصفوة القولِ أنّ كلَّ ما يُقالُ في هذا الموضوع يُمكنُ أن يكونَ صحيحاً، لأنَّ الطّقوسَ المُتّبعةَ في أكثر المدن الشّرقيّة وفي البلادِ العربيّة خاصّةً لا تُنافي ما جاءَ عنه.
.
إنَّ منظومة وغنائيّة فاصل اسقِ العطاشَ يُمكن أن تكونَ تضرّعاً أو مديحاً أو رمزاً تصوّفياً، غير أنّنا إذا بحثنا عن موسيقا هذه المنظومة وألحانها وما تتضمّنه من أدوار وموشّحات وتهاليل وتجاويد نجدُ عندَ تحليلِنا ألحانَها والأسلوب الذي صيغتْ به تلك الألحانُ والأنغامُ، نجد أنّها سوريّةُ المنبت حلبيّةُ اللهجة والأسلوب والطّابع الغنائيّ. وأكثر الموشّحات التي تُنشدُ في هذا الفاصل هي من نظمِ وتلحينِ الشّاعرِ المتفنّن المرحوم الشّيخ أمين الجنديّ الحمصيّ. وينتهي هذا الفاصلُ عادةً برقصٍ شهيرٍ يُطلقُ عليه (رقص السّماح).
.
وإذا ما قُدّم هذا الفاصلُ بفرقةٍ كاملةٍ من المُنشدين (كورس) برفقة فرقةٍ موسيقيّة كاملة على أحد المسارح، وروعي في تقديمِه الاعتناءُ بالرّقصات والتّأديةُ الغنائيّة والموسيقيّة والتّمثيلُ المُتقنُ والإخراجُ المسرحيّ؛ فقد يُعتبرُ هذا الفاصلُ بحقٍّ (أوبريت عربيّة موسيقيّة غنائيّة راقصة)، وقد تُشبه (الباليه) الرّاقصة عندَ الغرب، وتمجّد هذه التّحفة الغنائيّة الفنَّ والتراثَ العربيّ الأصيل".
.
هُنا ينتهي ما جاءَ في الكتاب عن فاصل "اسقِ العطاشَ" الحلبيّ السوريّ.
.
نقلتني الذّاكرة إلى الدروس الموسيقيّة التي حصّلناها في المدرسة الإعداديّة في ظلّ المنهاج التعليميّ البعثيّ، وتذكّرتُ معلّمتنا الشّابّة المتخرّجة من المعهد الموسيقيّ والتي ما كانت تلمّ ولا حتى بمعرفة السلّم الموسيقيّ، تدخلُ علينا تحملُ حقيبتها ثمّ تسلّم وتقول: مين بيعرف يغنّي؟ يعني بالمشرمحي مين صوته طيّب؟ فنهتف بأجمعنا: معلمة، فراس طوشنا مالصّبح للمسا بالغناء شو رأيك تجربيه؟! تجيبُ بنشافٍ وتقول: اطلع عاللوح ولى، شو ما سمعت؟ فيقفُ فراس العربيّ بثياب المدرسة العسكريّة ووجهه إلينا وظهره إلى السبّورة ويُنشدُ خجلاً محمرّاً ويقول: "مراسيل أنا ودّيت، مراسيل... ولا مرّت على البيت، مراسيل... يا ناس والله أحبهم، اشقد قاسي قلبهم...". وهكذا مضى العامُ الدراسيّ وفراس ينشد مقطوعته الشّهيرة "مراسيل أنا ودّيت"! حفظها جميعُ الطلاب وصرنا نترنّم بها نحنُ أيضاً في منازلنا، في الشّوارعِ، وفي تحيّة العلم!!!
.
في العامِ التالي جاءتنا معلّمةٌ جديدة، واُستبدلَ فراس الشاويّ بفتى آشوريّ، كما اُستبدلت أغنية "مراسيل" بأغنية لجورج وسّوف يقولُ في مطلعها: "أنتِ وأنا يا ريت عنّا كوخ ... مخبّا بفيّ الحور والكينا. ولا يكون عنّا كهربا ولا جوخ ... ونعيش ما يعرف حدا فينا".
.
الكتابُ الذي اشتريتُه من سوق الجمعة من بين الأتربة يعلّم الطالبَ أصولَ الموسيقا وقواعدها وفنونها لأنّه طُبع في بداية الستّينات أي ما قبل ثورة الثّامن من آذار التي نسخَ فيها حزبُ البعث العربيّ الاشتراكيّ كلَّ فكرٍ وعلمٍ ومعرفة. فأمّا ما يتعلّمه الطالبُ السوريُّ المسكين في قيادة البعث الحكيمة اليوم، فلا يتعدّى موّال "مراسيل" بلهجة الأعراب البدو، أو على الأكثر موّال "أنتِ وأنا يا ريت عنّا كوخ" بلهجة أهلِ السّاحل.

الأربعاء، أكتوبر 29، 2008

"عقيد" ماسح الأحذية

كنتُ واقفاً أمامَ مكتبِ "إيزلا" للسياحة والسّفر، وهي شركة سريانيّة آشوريّة، في "جراج" حلب المُسمّى "إبراهيم هنانو"- وهو أحد أبطال الثورة السوريّة الكُبرى التي قامت في العشرينات من القرن الماضي ضدّ الانتداب الفرنسي- أنتظرُ الحافلة التي ستقلّني إلى مدينة الولادة والطفولة، مدينتي الجميلة.
.
بعد فترةٍ قصيرة تقدّم مني فتىً أسمرُ اللونِ بثيابٍ رثّة يحملُ علبةً خشبيّة تُستعمل عندَ ماسحي الأحذية وسألني إن كنتُ أرغبُ في مسحِ حذائيَ الأسود المُغبرّ، تطلّعتُ إليه مبتسماً وقلتُ له:
ـ لا، شكراً.
إلا أنّه لم يكتفِ بإجابتي المُختصرة، بل ألحّ عليّ مراراً وتكراراً وقدّم لي عرضاً في تخفيضِ الكلفة حتى العشر ليرات، فتمنّعتُ من جديد.
أخيراً اقتربَ قليلاً وسألني إن كنتُ أقبلُ أن يُلمّعَهُ فقط، وأمامَ إلحاحه ودعواته المتكرّرة رضختُ لما سمّيتُه أمراً واقعاً ووافقتُ، لكني سرعانَ ما قلتُ له:
ـ لي شرط وحيد، وهو أن تأخذ أنت الحذاء لتعملَ عليه، لأنّي أمقتُ أن أضعَ رجلي بهذا الشكل أمام الآخرين.
.
وفي الحقيقة كان هذا السّببَ الرئيس لتمنّعي المتكرّر، لأني أشعرُ بالحرجِ والإهانة وأنا أضعُ رجلي أمام طفلٍ راكعٍ لمجرّد صبغ الحذاء، وهو من الأمور التي أقوم بها بنفسي بشكلٍ دائم. أشعرُ أحياناً أنّ الأمرَ لا يحتمل مثل هذا التفكير، لكني أواظبُ على حشره في زوايا عقلي دون تمحيصِ الأسباب والدوافع!
.
جلستُ على حافّة الرّصيفِ المتّسخ وشعرتُ أنّ بنطاليَ قد صار جزءاً لا يتجزّأ منه، لكنّ قبولي حملني على أن أُشاطر ماسحَ الأحذية الصّغير جلسته مهما كانت.
أخذَ فردةَ اليمين ووضع عليها قليلاً من المعجونِ الأسود اللونِ، فسارعتُ وقلتُ له:
ـ ألمْ تسألني تلميعَ الحذاءِ فقط، فلماذا فعلتَ هذا؟
بقي صامتاً وتجمّدتْ يداه وبقيتا فوق الحذاء والمعجون، لكنّ نظرتَه الثاقبة الحزينة اخترقت الموقف، فأضفتُ بسرعة وتلبّك:
ـ افعلْ ما تُريد.
سُرّ وأعاد رسمَ ابتسامته على وجهه من جديد وتابعَ العملَ متلقّفاً الفردة اليُمنى فاليُسرى ثُمّ اليُمنى فاليُسرى وهكذا دواليك. سألتُه:
ـ ما اسمُك؟
أجابَ بسرعة ودون أن يلتفتَ إليّ مواصلاً عمله:
ـ "عقيد"، لافظاً حرف القاف على طريقة الأعراب البدو، أي جيماً مصريّة.
ـ ومن أينَ أنتَ؟ بادرتُه من جديد.
أجابَ موجّهاً وجهه نحوي ومندهشاً بعضَ الشيء من هذا الزّبون الفضوليّ:
ـ من هُنا، من حلب حيّ "الشيخ مقصود".
ـ كم عمرُك؟
ابتسمَ وقال:
ـ أربع عشرة سنةً.
لم أكتفِ بل قلتُ له:
ـ هل تركتَ المدرسةَ يا عقيد؟
أجاب:
ـ نعم.
ـ وهل تعرف القراءة والكتابة؟
قال:
ـ لا، لأني خرجتُ من المدرسةِ منذ زمنٍ بعيد.
.
قالها وكأنّه رجلٌ خارجٌ لتوّه من ماضٍ سحيق الأيّام والخبرات. سحبتُ سيجارةً من علبتي "المالبورو لايت" وأشعلتها، ثمّ قدّمتُ أخرى إليه وفي هذا اختبارٌ وخطيئة، لكني أردتُ أن أعرفَ إن كان يُدخّن أم لا! رفضَ شاكراً، فعاجلتُ وقلتُ:
ـ حسناً فعلتَ وتفعل، فالتدخين يضرّ بصحّتك وهو من العادات السيّئة، ومن الأفضل ألا تُقدم عليه لا اليوم ولا غداً.
أنهيتُ عِظتي وخطابي وشعرتُ كم أنا كاذب بترديدي مثل تلك العبارات الطبيّة والأخلاقيّة والسيجارة تحترقُ بين أصابعي والدخانُ يخرجُ من فمي مبدّداً عبارة المعلّم الأوّل: "يا طبيب اشفِ نفسَك"!
ـ ولماذا لا تعملُ عملاً آخر أو تتعلّم حرفةً أجود؟
أجابَ بمرارةٍ لكن بصوتٍ عاديٍّ:
ـ لأنّ أخي لا يقبل.
ـ إذاً هو مَن يُرسلك إلى العمل؟
ـ نعم هو.
ـ وهو مَن يأخذُ غلّةَ نهارِك وأتعابِ عملك؟
ـ أجل.
ـ وكم يُعطيك منها؟
ـ أحياناً النصف.
ـ وكم تبلغ الغلّة اليوميّة في العادة؟
قال بعدَ أَن رفعَ يدَهُ عن الحذاء وتوقّف عن العملِ لبُرهة:
ـ بين الثلاثمئة والأربعمئة ليرة سوريّة.
سكتُّ وفي قلبي غصّة قَدْ حشرها الزّمن وقسّاها فعلقت وبقيت في حلقي لا تريد أن تنزاح، سكتُّ وأنا أرى وأسمع عن ظلمِ مجتمعٍ وعائلةٍ وأميّةٍ طغت على فتىً في عمر البراعم، ورغم ذلك لازالَ يتمتّع بابتسامةٍ برّاقة تُشرقُ بين بحرِ اتّساخه بالأصباغ والضّعف. قطع عليّ عقيد حبلَ أفكاري متسلّماً زمام الحوار قائلاً:
ـ لقد رأيتُك من قبل، لكن لا أذكر أين!
أكملَ وقال:
ـ هل تعرفني؟ أعني هل رأيتني من قبل؟
أجبتُه:
ـ وجهك ليس غريباً عني.
وتابعتُ:
ـ أظنني التقيتُك هُنا في الجراج منذ عدة سنوات.
قال:
ـ أنا أيضاً أظنّ ذلك، لكنني كنتُ صغيراً آنئذ.
انتهى من عملِه فارتديتُ الحذاءَ المُلمّع ونفحتُه ضعفَ ما سألني، شكرني بعطفٍ وبابتسامته الجميلة التي مزّقتها قساوةُ الأيّام والتفتَ وغابَ بين الآخرين.
نفضتُ أنا أيضاً ما علق من غبارِ الرصيف على بنطالي وقلتُ في نفسي: هل يشعرُ حقاً عقيد بأنّه كالآخرين؟ هل يعلمُ بأنّ له من الحقوق ما للآخرين منها؟ فتىً يسحقُه جور أخيه الأكبر وإهمال المجتمع وقساوة البشريّة فإلامَ وإلى أينَ المسير؟

حجبٌ واعتقالات... قمعٌ للحرية ومساحات الفكر!

تكثرُ العناوين المتحدّثة عن الشبابِ وربطهم بالأملِ، هذه الفضيلة الإنسانيّة، في مواجهة مصاعبِ الحاضر ومشكلاته، فهم رجاءُ الغدِ وأملُ المُقبِلِ، وحياةُ الأوطان العتيدة... ويلجأ الشبابُ العربيّ المثقّف، الذي يُعاني في الواقعِ من عوائق عدّة في وجه إبداعه الفكريّ والعمليّ، إلى الشبكة العنكبوتيّة في مجمّعات تعنى بالحوار والمحادثة وتبادل الآراء حول مسائل شتّى اجتماعيّة أو سياسيّة أو دينيّة دُعيت اصطلاحاً "منتديات". ومن النادرِ ما يجتمعُ في منتدىً معيّن أطيافٌ تنتمي إلى أعراقٍ وأديانٍ ومذاهبٍ وجنسيّات مختلفة، لأسبابٍ تدور في معظمها حول الهالة المقفولة المكوّنة حول الأديان المنتشرة في بلاد التيوقراطيّة، وأسبابٍ أخرى تتعلّق بحرية التعبير المُغيَّبة في بلاد القمع والإرهاب الأوتوقراطيّة!!!
.
هذا ما يدفعُ الكثيرين في مجتمعات تعاني من أمراضٍ مختلفة وتضييقٍ وقمعٍ واستعبادٍ إلى الهربِ من واقعهم وقضاء ساعات النهار والليل في مجتمعاتهم الافتراضيّة تلك يعبّرون فيها، تحت أسماءٍ وألقابٍ مستعارة، عن حريّة قد تتجاوز كلَّ حدود وأطر، لا بل تتمرّد أحياناً لتبلغ ذروتها في التخلّص من كلّ عادةٍ أو تقليدٍ، والتعرّض لما يُسمّى بقدسيّة الأديان، وطغيان الأنظمة وفسادِها، ضمن الحماية التي تؤمنها لهم تلك الأسماء المستعارة التي قد تصبح أحبَّ إليهم من عالمهم الحقيقيّ.
.
يبقى الكلامُ عامّاً إن لم نشرْ بالاسمِ والمثال إلى مجتمعٍ ومنتدىً معيّنين، وستكونُ سوريّة صاحبة هذا المثال، لاقتحام أجهزتها الأمنيّة خصوصيّات مواطنيها وصولاً إلى طعامِهم وشرابِهم وكتابِهم وأسرّة رقادهم.
.
لم تتعرّض أجهزة المخابرات السوريّة القمعيّة للسياسيّين أو المثقّفين أو الكتّاب فقط، بل طالتْ يدها لتشملَ الشباب في قلبِ مجتمعاتهم الافتراضيّة تلك. فبعدَ إجراءات تعسّفيّة قامت على مراقبة مقاهي الإنترنت وخطوط هذه الشبكة، لملاحقة كلّ من يتجرّأ على الدّخول إلى منتدىً أو موقعٍ عملتْ السّلطات على حجبِه، خوفاً من لسانه الحرّ، وصلَ هذا الضّغطُ الأمنيُّ المنحرفُ حداً لا يُصدَّق، إذ شدّدَتْ تلك الأجهزة على أصحاب المقاهي مؤخّراً بتدوين تفاصيل الهويّة الشخصيّة لكلِّ من يدخلها ويخرج منها باليومِ والسّاعةِ، وتسليم هذه البيانات مرّةً كلَّ شهرٍ بشكلٍ دوريٍّ مقيت، بقرارٍ صُدرَ مؤخّراً عن أحد الفروع التابعة للمخابرات العسكريّة، وكأنَّ التعرّضَ للفسادِ بشتّى أشكالِه باتَ خطراً على أمن بلادنا عسكرياً!!! "يلعن أبو هالبلد" هكذا علّقَ أحدُ العاملين في مقهىً سوريٍّ للإنترنت. تنسى سلطات القمع هذه أنَّ الفكرَ هو الشيء الوحيد غير المراقب، وإن استطاعت اليومَ كمَّ الأفواه فهي لن تستطيعَ أبداً أن تمنع عقولَ المتحرّرين من العملِ يوماً بعدَ يوم على محاربة الفساد بشتّى أشكالِه، والنّهوض بالمجتمع.
.
في خضمّ هذه الظّروف العنيفة يتعرّض منتدىً شبابيّ معروف لمحنة شديدة بسبب الملاحقة الأمنيّة المستمرّة، يُعرف باسم منتدى "أخويّة" www.akhawia.com نشأ هذه المنتدى في نهاية سنة 2003 في كنف الكرمس الخيريّ التابع لأخويّة سيّدة السّلام في مدينة حمص السوريّة. وقامَ بالسّهر عليه مجموعة مميّزة من شبّان الأخويّة فاقتصر الانتسابُ بدايةً على هذه العناصر. في وقتٍ لاحق ولأسبابٍ عدّة بدأ المنتدى يجمعُ عناصرَ غريبةً عنه تعود إلى انتماءات دينيّة وفكريّة واجتماعيّة مختلفة.
.
وهكذا انتقلَ منتدى الأخويّة إلى حيّز علمانيّ أوسع، خرجَ بعدَها من مجموعة الأُطر التي كانت تحدّه ضمن لونٍ دينيّ ثقافيّ بيئيّ واحد، وصارَ محفَلاً يضمُّ بالإضافة إلى الشبابِ السوريّ، وهو العنصر الأساسيّ فيه، مجموعات أخرى تنتمي إلى مذاهب دينيّة وعقائد فكريّة عديدة تعود إلى بلدان عربيّة أهمّها مصر. كما وانتقالِه إلى العلمانيّة أطلقَ العنانَ لنموٍ غير محدود، فـ"في سنة 2006 فقط تضاعفَ عددُ الأعضاء أكثر من خمسين مرّة!" هكذا قالَ ياس وهو شابّ سوريّ يدير مجموعة المشرفين والمنسقّين الذين يتعاونون في إدارة المنتدى وصفحاته المتعدّدة. يقول ياس (وهو لقبُ عضويّته): منتدانا مستقلّ تماماً وهو لا ينتمي إلى أيّة جهة أو حزب أو منظّمة، بل ينتمي إلينا كشبّان يطمحون في نشر قيمٍ تساهم في توعية وتنمية بلدنا سوريّة وشعبِها الرّازح في ظلّ عبوديّة ثقيلة على صعدٍ كثيرة أهمّها الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصادية... إلخ. وأكملَ يقول: "منتدانا ليس موقع معارضة سياسيّة، وخاصّة لأنّه لا يمتّ بصلة إلى أيّ حزب أو تنظيم، بالإضافة إلى وجود أعضاء لا يتّفقون مع الآخرين في تسليط الضّوء على ما يحدث من أخطاء كبيرة أو صغيرة في سوريّة. رسالتنا تدور حول صقل فكر الشّباب والأسس التي يبنون عليها أفكارهم وتوجّهاتهم. فمع مراقبة عدد من الشباب المنتمين إلى الأخويّة، يُلاحظ تقدّم إيجابيّ سريع في أسلوبهم وطريقة نقاشهم، وهذا يُسعدنا لأنّنا في الحقيقة لا نهدف إلى تغيير الأفكار، بل إلى تغيير نمط التفكير والسّعي إلى قبول الآخر بكل ما فيه من اختلاف، وأظنّ أنَّ هذا سيجمع أطياف المجتمع السوريّ حول مائدة واحدة مهما بلغت اختلافاتهم"!.
.
القيام بجولة سريعة في المنتدى بغاية إحصاءٍ موجز يدهشنا لكبر الأرقام التي نتعامل معها، فحتّى اليوم فاقَ عددُ المنتسبين 175 ألفاً، حوالي عشرة آلاف منهم عضوٌ ناشط، بينما تجاوز عددُ المواضيع مئة ألف وفاقت المشاركات كاملةً الـ "مليون".
بالتأكيد نحن لا نتحدّث عن مواضيع ومشاركات وأعضاء في مجالٍ معيّن فقط، إذ يُعدّ المنتدى مجمَعاً ثقافيّاً وفكريّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً (دون انتماءٍ واحد) بالإضافة إلى كونِه أداة ترفيه وتلاقي بين مختلف الأعمار، وقد يكونُ هذا سبباً رئيسيّاً في هذا العدد الكبير! ويُمكننا أن نشهدَ إقبال فئة واعية على الأقسام السياسيّة ومن بينها "المنبر الحرّ"، بالإضافة إلى بعض الأقلام الواعدة في الصّفحات الأدبيّة.
يبلغ عددُ الأعضاء الذين يرتادون المنتدى يوميّاً ألفاً، بينما يفوقُ هذا العدد بكثير الزوّار والقرّاء. ويتوزّع الطاقم الإداريّ بتراتبيّة هرميّة تبتدئ بالقائم فالمشرف الإداريّ فالأمين فالمشرف فالمنسّق. كما ومن الملفت أنَّ الإصدار أصليّ وهذا يمنح الأخويّة أماناً وحماية كافية. ولا ننسى أن نذكر أنَّ المشاركات غالباً ما تعتمد في صياغتها على لهجات سوريّة مما يمنحها واقعيّة أكثر وحيويّة مستمدّة من تراث شعبيّ واسع. ويقوم المنتدى أحياناً باستضافة شخصيّات عربيّة ضمن حوار خاصّ ومفتوح، ومن ضيوفِ الأخويّة حتّى اليوم السيّد الدكتور مصطفى البرغوثيّ الأمين العامّ للمبادرة الوطنيّة الفلسطينيّة، والفنّانة التشكيليّة السوريّة سارة شمّة.
.
وبسبب حريّة التعبير والتفكير التي تُعدُّ من أهمّ الأسس التي بُني وما زال يُبنى عليها المنتدى، يسلّط الكثيرون من المهتمّين بالشّأن السياسيّ الضوءَ على الحالة المترديّة للواقع السوريّ الرّاهن، فينالوا بأقلامهم من الإجراءات القمعيّة السّائدة في هذا البلد منذ أكثر من أربعة عقود. ولا يميّزون في نقدِهم بين رئيسٍ أو وزيرٍ أو نائبٍ فالكلّ يخضع لميزان مراقبة الفساد دون محاباة. هذا الأمر أقلقَ أجهزة الأمن والمخابرات لأنَّ التعبير الحرّ هو بداية انتفاضة عمليّة ستجرُّ وراءَها كلّ من يؤمن بتجسيد أقوالِه على أرضِ الواقع حتّى لو أدّى به الأمر إلى دواليب التعذيب وقضاء سنوات عمره في قاع السّجون المعتمة. فقامت مؤخَّراً إحدى السّلطات الأمنيّة غير المعروفة بحجبِ الموقع من على صفحات الشبكة الإلكترونيّة، أضرمَ هذا الحجب الحماسة في قلوب عناصر إدارته فأنشأوا روابط عدّة بعناوين مختلفة من أجلِ الحفاظ على هذا الرّابط الشبابيّ، ممّا دفع بقوّات الظّلام إلى حجب السيرفر كاملاً فتعطّل مع الأخويّة حوالي 300 موقع، أغلبيّتها لا تمتّ بصلة إلى السّياسة لا من بعيدٍ ولا من قريب. هذه الإجراءات القمعيّة تدلّ على إفلاسٍ لا مثيل له، فكتم الأفواه بالقوّة ليس إلا دليلاً ساطعاً على الضّعف. كما ومن المؤسف أن يتراجع عددُ الزوّار، بسبب هذه السياسات التعسّفيّة، من 85 % في سنة 2006 إلى 65 % هذه الأيّام، وخاصّة بعد استدعاء بعض الذين يتولّون الإشراف الإداريّ على أقسامِه (في الماضي)، والتحقيق معهم. وبرغم ذلك يجدُ "ياس" المشرفُ الإداريّ الأوّل الأرقامَ جيّدةً وتبعث في التفاؤل مع وجود هذا الحجب والتضييق وكلّ ما من شأنه أن يسكتَ هذا الصّوت.
.
ما هو أهمّ من كلّ هذا ما حدث في السنتين الأخيرتين، إذ تعرّض بعضُ الأعضاء للاعتقال والخضوع لتحقيقات سريّة ومحاكمات غير قانونيّة بتهم إضعاف الشّعور القوميّ والسّعي في إنشاء تجمّع مستقلّ يضادد النّظام الحاكم وسياسته في الحكم، وتراوحت العقوبات بين الخمس والسبع سنوات من السّجن.
حدث هذا عندما قامت مخابرات القوى الجويّة وهي فصيلٌ تابع للمخابرات العسكريّة باعتقال كلّ من حسام ملحم (كليّة الحقوق)، وعلي علي (إدارة الأعمال) بتاريخ 24 كانون الأوّل 2005، ثمَّ اعتقلت زميلهما طارق غوراني في 19 شباط 2006. وواصلت سلسلة اعتقالاتها لمجموعة أخرى من زملائهم وآخرين ليبلغوا ثمانية. وبعدَ حوالي سنة من الاعتقال أصدرتْ محكمة أمن الدولة العليا بدمشق أحكاماً بالسّجن على سبعة منهم، جاءت كالتالي:
سبع سنوات على طارق غوراني (25 سنة)، وماهر إبراهيم أسبر (26 سنة). وخمس سنوات على كلّ من حسام ملحم وأيهم صقر وعلام فاخور ودياب سرية وعمر العبد الله.
.
في هذه الأثناء شعرَ أحد أعضاء الأخويّة المميّزين وهو من دمشقَ ويُدعى "كريم عربجي" (31 سنة) بوصولِ البللِ إلى ذقنِه. كريم تخرّج من قسم المحاسبة في كليّة الاقتصاد بجامعة دمشق، وكانَ يدير مكتباً استشاريّاً لما يتعلّق بالمحاسبة في الشّركات التجاريّة. استُدعي العام الماضيّ إلى أحد فروع المخابرات العسكريّة بشكلٍ متكرّر، حتّى استدعاء اليوم السّابع من حزيران العام الماضي حيث اعتقلَ دون إعلام ذويه ودون السّماح لأحد بالاتّصال به، ونُقلَ على الفور إلى فرع فلسطين ومنه إلى سجن صيدنايا العسكريّ. مثلَ أمام محكمة أمن الدّولة العليا الاستثنائيّة في آخر جلساتها ضمن قضيّته بتاريخ 20/ 4/ 2008 واتُّهمَ بنشر أخبارٍ كاذبة من شأنها إضعاف الشعور القومي وفقاً للمادة 286 من قانون العقوبات. ثمَّ عيّنت المحكمة نفسُها تاريخ 8/ 6/ 2008 موعداً لجلسة أخرى، إلا أنّها قامت مؤخّراً بإلغائها بحجّة واهية تقوم على أنَّ المبنى الجديد للمحكمة الواقع في منطقة المزّة (دمشق) لم يكتمل بناؤه بعد. اليوم وبعدَ مضيّ أكثر من عامٍ وشهرين على اعتقالِه يقبع كريم في سجنِه بانتظار اكتمال مبنى المحكمة ليخضع للمحاكمة!!! وماذا لو بقي المبنى على حالِه إلى أجلٍ غير مسمَّى على شاكلة المشاريع الوطنيّة الأخرى؟! علمُ هذا عندَ أصحابِ القضاء السوريّ العادل!
.
قبل أن يغادرنا، شعرَ كريم بما يُحاك له في عتمات المكاتب السّوداء، فكتبَ وصيّته لنا على صفحات محفلنا، لتبقى ذكرى وحافزاً يدفعنا على مواصلة المسيرة التي لن تنتهي باعتقالِنا أجمعين، جاءَ فيها: "مرحبا شبيبة... بيجوز هاليومين يعزموني جماعة صحابي على سينما بيت خالتي أحضر هنيك فيلم "نجوم الضهر" المشهور بالألوان. بتعرفوها للسينما ما هيك؟ سابع قبو بعد جهنّم الحمرا... فرع فلسطين!!! لهلأ ما بعرف شو هي التهمة! بس بيقولوا أنو محضرينلي ياها من قبل ما أخلق. مشان هيك قرّرنا مع إدارة "أخوية" أنو نتّخذ بعض الإجراءات الاحترازية في حال ضبّوني الشباب ببيت خالتي، واللي ما بيحسب ما بيسلم. الآن أتركُ لكم وصيّتي:
إلى الملحدين... يا ملحدين، يا كفرة، يللي ما بتعرفوا ربنا، اذكرونا بالخير كلما استمعتم إلى فيروز ومارسيل خليفة.
إلى المؤمنين... ادعولنا يا شباب وصبايا، ادعولنا الله يشيل عنّا وعنكم وعن حبابكم، ادعولنا الله يتوّه طريقهم وما يعرفولنا طريق.
إلى جماعة المعارضة... عباية يا شباب عباية، وخصوصي بنّوتة عيونا زرقا، خراسْ وسدْ بوزَك هالكام يوم، الشغلة مو عنترة... لازم حدا يضلّ برّا مشان يتابع الأخبار والنّضال.
إلى جماعة الموالاة... لك نيّالكم ما أهنا بالكم.
إلى المشرفين... أنتو أحلى عيلة ممكن حدا يتعرّف عليها، خليكم إيد وحدة متل ما بعرفكم.
إلى الحكيم... لا تواخزنا خيّو... وجّعنالك راسك، شكراً جزيلاً على مساحة الحرية يللي وفّرتها للشباب والصّبايا، وسامحني على أخطائي وإذا خيّبت أملك، لك دخيل رب سوريّا ما أحلاها. ودمتم للحرية".
.
تجدرُ الإشارة إلى أنَّ الأجهزة الأمنيّة تقوم بحملة اعتقالاتها متفيّئةً بقانون الطوارئ السوري، الفاعل منذ 8 آذار 1963، ولا سيّما المادة 4 (أ) من المرسوم التشريعيّ رقم 51، التي تمنحها صلاحيات واسعة للقبض على الأفراد واحتجازهم. وهذا في الحقيقة ليس مبرّراً أو سبباً لاعتقال هؤلاء الشّباب، الذين عبّروا عن آرائهم بحريّة تامّة، دون مراعاة القضاء وأسسه العادلة. وخاصّة مع ذكر المادة 38 من الدّستور السوري التي تنصّ، ضمن ما تنصّ عليه، على أنَّ "لكلّ مواطن الحق في أَن يعرب عن رأيه بحرية علنية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى وأن يسهم في الرقابة والنقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي".
.
ونحن من موقعنا كأعضاء في منتدى جمعَ طارق وعليّ وحسام ودياب وعمر وكريم، نطالبَ الحكومة السوريّة بالإفراج عن أصدقائنا، والكفّ عن سياسة الإرهاب الفكريّ، والحجب المتواصل للمواقع والمنتديات التي تساهم في نشر الوعي في مجتمعٍ مهدَّد بالسّقوط في أيّة لحظة، بعدَ توافر الأسباب الكافية لسقوطه هذا. والعمل على تحرير الطاقات الثقافيّة والإبداعيّة وتوجيهها في ما يعود بالخير على كلّ من المجتمع وأفرادِه.
.
كلمة أخيرة: نحن لا نهدف إلى إسقاط نظام أو حكومة أو تغييرها، هدفنا الأوحد هو أن تسعى الحكومة بكافّة أنظمتها (وخاصّة الأمنيّة) إلى تغيير نفسِها بنفسِها، وأن تقبلَ الآخر باختلافِه، وتفتح الطريق المغلق أمام الحرية بكافّة أشكالها، وتسعى إلى بناء مجتمع يسوده السّلام والعدل.

الثلاثاء، أكتوبر 28، 2008

من ذكريات الوطن: يومُ الانتخابات الأبديّة!

منذ صغري وأنا أتطلع إلى تلك البطاقة الصغيرة المتداولة بين أيدي البالغين، كحلمٍ لابدَّ لي من نيله، تلك البطاقة التي تحمل كامل حريّة الشعب وديمقراطيته في التعبير عن حقه الطبيعي في اختيار ممثليه لحكم الوطن الصغير الكبير في آن معاً. لم يطل الأمر كثيراً حتى حصلت على تلك البطاقة المدعوّة "البطاقة الانتخابيّة" والتي تمكنني أسوة بالبقيّة من التعبير عن آرائي وأفكاري، من خلال الاختيار الحرّ والواعي لمن هو أهل ومستحق أن يمثل المواطن في المجلس النيابي أو في منصب رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
.
استعملتُ حقّي هذا مرة واحدة وإلى الأبد، وفي لبنان، وهنا تكمن المفارقة. أن أعبر عن حقي في انتخاب رئيس وطني في أرض شقيقة كما يقولون، في وطن آخر كما هو الواقع. كنتُ طالباً جامعيّاً آنذاك في سنتي الأولى عندما حان موعد الانتخابات الرئاسيّة. فتجمعنا نحن الطلبة السوريين وذهبنا نحو المركز الوحيد للتعبير عن حقِّنا ورأينا في انتخاب رئيس الوطن.
.
لم يكن مجال التعبير هذا واسعاً، لا بل على العكس كان ضيّقاً جداً، فالمرشّح الوحيد كان الرئيس الراحل حافظ الأسد. وأمام هذا المجال الضيّق الخانق، اصطففت بدوري منتظراً تعبيري "الديموقراطي" للمرة الأولى في حياتي وعلى ما أعتقد أنها الأخيرة. كانت المناسبة مميّزة فعلاً، فالانتخابات وُضعت تحت تسمية "إلى الأبد"، ما يعني أن تنتخب مرشّحاً وحيداً وإلى الأبد. هذه الكلمة الحافلة بالخلود والتي لا نسمعها أبداً إلا في الطقوس الدينيّة التي تعتمدها المبدأ الأساسي والنهائي في عبادة الله الواحد والوحيد. ومن شأنِ هذه الكلمة هنا أَن تُذكّرنا بعبادة الامبراطور كإلهٍ أبديّ إليه تُقدّم العبادة والسجود عندَ الرّومان. وإليها نفسها كانت تُشير هتافات الجماهير محيّين رئيسهم المفدّى زعيم الأمة وحامل أمجادها: "حَلَّكْ يا الله حَلَّكْ، حافظ يقعد مَحَلَّكْ"!!!
.
المهمّ حانَ دوري، وكانت امرأةً من قدّمت لي البطاقة التي سأوقّع عليها قبولي بهذه القيود الأبديّة بكامل حريتي وإرادتي وبكامل وعيي وتعبيري الشخصيّ. ما أزعجني في الأمر ليس كلّ هذا، بل شيء واحد فقط وهو أنّ البطاقة، التي كانت مقسومة إلى قسمين أحدهما ممهور بكلمة "نعم" كبيرة والآخر بكلمة "لا" أصغر، وكأنها هي الأخرى لا تُريد الظهور خوفاً على عنقها؛ كانت موقّعة في قسم الـ"نعم" وجاهزة للوضع في صندوق الاقتراع. كثيرون وقعوا بدمائهم، سبق أن أحضروا معهم شفرات حلاقة ليحفروا في أباهمهم قنواتٍ تفيض دماً به يوقّعون على عبوديّة لطالما أراقت دماء الحرية. تمنّيت تلك اللحظة أن تأتيني الشجاعة لأحدّث بمشاعري وأصرخ قائلاً: دعوني أقلّه أمهر "نعمي" هذه. تكاملت المنغّصات عندما وضعت تلك المرأة بنفسها بطاقتي في صندوق الاقتراع، حينها لم أتمالك نفسي من التمتمة بكلمات شئت لها ألا تُسمع قائلاً: اتركوا لي آخر مجال، فأضعها أنا بنفسي في ذاك الصندوق اللعين، ذلك الصندوق الذي احتوى ليس فقط على تذلل شعبٍ بأكمله، لا وليس فقط عبوديّة أفراد علمونا هاتفين على لسان عمر بن الخطاب: متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا. بل احتوى أيضاً على أشياء وأشياء.
.
انتهى الاقتراع بطقوس لا تخلو من المُبكي المُضحك و"شرُّ البليّة ما يُضحك"، باسترداد هويّتي المُشيرة إلى مواطنيّتي السوريّة. كانت العمليّة سهلة جداً: قدّم هويّتك واستردّها بعد عدة ثوانٍ لا أكثر. وطني يُقدّر ألا يُحمّلني جهداً في الشطب والحك، والمهر والتوقيع، لا بل يُقدّر ألا يدعني أتعب نفسي بالتفكير أمام بحر الاختيارات بين المرشّحين، ولهذا سبق ورشّح واحداً، سبق وقال نعم منتهزاً فرصة قبولي بسكوتي عن حقي، وأخيراً شاءَ ألا أُتعب يدي هي الأخرى في وضع الـ"نعم" في صندوق الاقتراع. لملمنا بعضنا وركبنا حافلتنا عائدين من حيث أتينا وفي قلبنا غصّة لا قدرة لنا على انتزاعها.

دعوة!

عندَ المساء دعاني صديقٌ فراتيّ من الرقّة إلى الإقدامِ على إنشاءِ مدوّنة خاصّة بي. لم يكن الأمرُ يعني ليَ الكثير... لكنّي قرّرتُ قبولَ الدّعوة، حبّاً به وشهوةً في الكشفِ عن عالمي الصّغير المخفيّ بين الأوراق، وفي طيّ الدّفاتر!
.
وها أنذا أقبلُ على عالمٍ واسعٍ قد يغرقُ المرءُ بين أمواجِه العاتية...
.
وآملُ عندَ خطّ البداية أن تسنحَ لي الفرصة في الكشفِ عن ذاك المخفيّ الغائب حتّى اليوم... وقد آنَ له أن يصل!
.
سيمون