الاثنين، أكتوبر 15، 2012

صورٌ من السّويد

في بلادِ البردِ والجليدِ والغرباء، والوجوه البيضاء ذوات الشّعور الشّقراء، في القطارات ومترو الأنفاق والحافلات، في مدينةٍ تبتلعُ الأنفاسَ والبشر؛ عشتُ أشهرًا ستّة متنقّلًا من مكانٍ إلى آخر بلا عملٍ ولا بطاقة إقامة... جسلتُ ذاتَ يومٍ في القطار وإلى جانبي عجوز أسّوجيّة تحوكُ الصّوفَ تصنعُ جوربين لحفيدها الصّغير يقيانه قسوة الشّتاء وبرده.

أمامي جلستْ تلكَ الحسناء الشّقراء التي التقيتُ بها ذاتَ يومٍ في رحلة القطار عينها، التقاءً عابرًا خفيفًا كالظلِّ رقيقًا كالنّسيم. جميلةٌ هي الحسناءُ الصّغيرة، وأجملُ ما فيها كلُّ ما فيها، لا تلتفتُ، بل تُمعن في التّحديق بوجهِ محدّثتها ضاحكةً غاويةً كلَّ رجلٍ قريب، فأمّا فرحها فيجلجل القطارَ على جلجلته فوق قضيبي السكّة الحديد. عيناها الواسعتان كغابتين أسّوجيّتين تذيبان الحديد فما بالك برجلٍ مقهورٍ من لحمٍ ودم! قطعةٌ من طبيعة السّويد جلست قبالتي، وتلك العجوز تمضي في حياكة الجوربين لحفيد أشقر بحكم العنصر!

كنتُ أحيا في بلاديَ الجميلة القريبة إلى فؤادي كلَّ قربٍ يُرتجى، كنتُ أعرفُ بلاديَ وأهلَها وكلَّ ما فيها من ترابٍ وشجرٍ وحجر، واليومَ أسوحُ غريبًا حزينًا أتسوّل وثائق الإقامة، وثائقَ انتماءٍ إلى بلدٍ غريبٍ باردٍ قاسٍ!

كيفَ تستطيعُ هذه العجوز أن تداوم الحياكة دونَ كللٍ أو مللٍ أو التفاتةٍ لصوتٍ أو حديث؟! عقدةً عقدة، وقضيبا الحياكة الرّفيعان يرصفان خيوط الصّوف الحمراء والصّفراء لتخرجَ من صنعِ يديها ومهارتها قطعةً ملوّنةً جميلة التّفاصيل، بثباتٍ ورصانة تجدُّ في صناعتها، وبهدوءٍ تامٍّ تواصل الحياكة.

هذه البلاد المعتمة مليئةٌ بالفتيات، وأكثرهنّ جميلات شهيّات كثمار الصّيف عندَ أوان القطاف، ينقصهنّ التذوّق. لا أجملَ وأشهى من المرأة في هذا الكون الفسيح الواسع بلا لحظةِ أزلٍ أو رفّة أبد. ولربّما جارت الطّبيعةُ على الرّجلِ فطرةً إذ ثبّتت فيه هذه الغريزة تجاه كلِّ امرأةٍ دون أن تلقي بالًا للأخلاق النّامية بارتقاء الإنسان!

قضمتْ الفتاةُ الحسناء أمامي قضمةً صغيرةً على وسع ثغرها من تفّاحةٍ أخرجتها من الحقيبة، فابتسمتُ متذكّرًا حوّاء! قضمةٌ واحدة أودت بفردوسنا الموعود وأحالته أرضًا من عرقِ الجبين والأتعاب، ومخاضًا أليمًا به تلد المرأة بنيها وبناتها. كم كنتَ قاسيًا يا إله الأديان، أين رحمتك وغفرانك؟! أتستحقُّ قضمةٌ صغيرةٌ من امرأةٍ عاريةٍ حسناء كلّ هذا العقاب والغضب؟! صارت التفّاحةُ الشهيّة رمزًا لعبوديّتنا! وصارت أيضًا رمزًا لغضبِ الإله اللارحمة!

حين تكتب لا تقبض على الأفكار بل لامسها بلطفٍ كما تلامس خدَّ طفلٍ صغير، أنتَ لا تعلمُ عنها الكثير حتّى تلج فكرَك ثُمَّ تجسّدها يدُك على الصّفحة، ومع ذلك فإنّك لا تستطيع أن تدركها إدراكًا تامًّا، فكلُّ ما في الحياة ضعيفٌ وناقصٌ لا يكتمل إلا بلملمة الأجزاء الخارجة عنك! الكتابةُ محيطٌ خاصٌّ يخرجك عن الواقع الذي يلمّك، تسمع فيه جميعَ الأصوات، جميعها، حتّى صوت المسلّتين الحديديّتين الرّفيعتين لعجوز تحوك جورب الحفيد. لكنّك برغمِ كلِّ الأصوات والأحاديث والبشر والصّور لستَ توجد إلا فيك.

الفتاةُ أكلت التفّاحة كاملةً ولم تبقِ على سوى العود الصّغير تداعبه بين أسنانها البيضاء، الفتاةُ شعراءُ السّاقين، حتّى أنَّ الشّعر نابتٌ على ركبتيها، ولكأنّها بلقيس الفاتنة حين صوّرها الجنُّ لسليمان بشعرِ ساقين كشعرِ الماعز!

الرّياحُ قويّةٌ في الخارج والسّحبُ كعادتها تملأ السّماء لتجعل من السّويد حقًّا بلاد البرد والعتمات.

عن الحوار المتمدّن.

الجمعة، أكتوبر 05، 2012

لكم جبرانكم ولي جبراني للباحث جان دايه

نشرَ البحّاثة جان داية كتابًا سمّاه "لكم جبرانكم ولي جبراني، مع خمسين نصًّا مجهولًا لجبران"، يهدفُ من خلاله إلى تصحيح أخطاء المؤرّخين والأدباء في ترجمة جبران سيرةً وأدبًا. وقد صدر الكتاب عن منشورات مجلة قب الياس في طبعته الأولى في بيروت سنة 2009.

جاءَ في الصّفحة السّابعة والثّلاثين من كتاب الباحث دايه: "يحتضن متحفُ جبران في بشرّي عدّة دفاتر، تحتوي على مسودّات مقالات وقصائد، ومنها دفتر كُتب على غلافه: "من دفاتر جبران خليل جبران تشرين الأول 1900". وكتب جبران، في الصفحة نفسها، بيتين طريفين من نظمه:

ألا يـــــا مـستـعـير الكـتب دعـني ... فإن إعارتي للكتب عارُ
وجدت كتابي في الدنيا حبيبي ... حبيبي لا يُباع ولا يُعارُ.
ومما ضاعف من غرابة وطرافة البيتين، أنَّ جبران كتبهما ثلاث مرّات في الصّفحة نفسها".
 
يعتقد الباحث دايه كما جاءَ في الاقتباس أعلاه أنَّ هذين البيتين من نظمِ جبران (على حدّ تعبيرِهِ)، وفي الحقيقة يعود البيتان أصلًا إلى الشّاعر التونسيّ محمّد بن خليفة الذي أنشدهما من البحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن فعولن):
ألا يا مستعير الكتب دعني ... فــــإنّ إعـــارتي للكـتب عارُ
فـمحبوبي مــن الدّنيا كـــتابٌ ... وهل يا صاحِ محبوبٌ يُعارُ.

فأمّا نسب هذين البيتين إلى الشّاعر التونسيّ محمّد بن خليفة فوجدناه في كتابِ الفيكونت فيليب دي طرّازي "خزائن الكتب العربيّة في الخافقين"[1]. وما فعله جبران لم يكن أكثر من نسخِ البيت الأوّل وإعادة تركيبِ البيتِ الثّاني. فأمّا كتابة البيتين ثلاث مرّات فهي من عادة الطّلبة في إعادة نسخ أبيات الشّعر المميّزة أو النّصوص التي تلفت أنظارهم!
 
والطّريف في الأمر أنّ مُطالع المخطوطات العربيّة غالبًا ما يعثر على هذين البيتين بصيغ مختلفة، منها:
ألا مَن يستعير الكتب دعني ... فـــإنّ إعــارتي للكتب عار
فـمحبـوبي مـن الـدّنيــــا كـتابـي ... وهل أبصرتَ محبوبًا يُعارُ؟
 
وقد عارضَ التونسيَّ شاعرٌ آخر قائلًا:
ألا يــا مالكًا للكتب عـــرْها ... فما بــــإعارة للكتب عـــارُ
لئن أحببتَ في الدّنيا كتابًا ... فمحبوبُ الأحبّة قد يُزارُ
 
وقد شطر شاعرٌ آخر البيتين بقولِهِ:
"ألا يا مستعير الكتب دعني" ... فلي في الكتب يا صاح افتخارُ
إذا ســــــلواي كــــانت في كـــــتابي ... "فـــــإنّ إعـــــارتي للــكتب عــــــــــــــــارُ"
"فــمحبوبي مــن الدّنيا كــتابٌ" ... ومجدي الــكتب لا مجدي اتّجارُ
فهلْ شاهدتَ مجدًا بــيعَ بخسًا ... "وهـــل أبـــصرتَ محبوبًا يُــــــــــــعارُ؟"[2].

عن موقع الحوار المتمدّن.



[1]  المجلّد الثّالث، ص 927.
[2]  راجع أبيات الشّعر في الفصل الخامس عشر "الكتب المستعارة" من المرجع السّابق، ص 927 – 928.

الأربعاء، فبراير 15، 2012

قراءة في مقال الحكيم البابليّ "الكلمات النابية الدخيلة في اللهجة العراقية الدارجة"

تحت عنوان "الكلمات النّابية الدّخيلة في اللهجة العراقيّة الدّارجة" كتبَ السيّد الحكيم البابليّ مقالًا رائعًا ونشره على صفحاتِ العدد 3598 من الحوار المتمدّن بتاريخ 5 كانون الثّاني 2012. لا يسعني أمام هذا البحث الموثّق إلا أن أقولَ له بلهجتِه بلفظٍ غير ناب "عاشت إيدك"! ومقالُه في الحقيقة متميّز جميل كونه يبحث في أحد أهمّ العناصر الثقافيّة لدى الشّعوب، أعني اللغة المحكيّة المتداولة بين العامّة. وقد أضحت للغات والبحث فيها علومٌ متعدّدة واسعة ليسَ يسيرًا الإلمام بها لتداخلها الشّديد بالتّاريخ والاجتماع والفلكلور وغير ذلك من العلوم الإنسانيّة.

إنّ دراسة اللهجات التي تتداولها العامّة في مختلف مناطق البلدان النّاطقة بالعربيّة، تحتاجُ في الحقيقة إلى دراسة اللغات القديمة والحديثة التي استخدمتها الشّعوب التي سكنتها وما زالت! بالإضافة إلى الاطّلاع على لغات أخرى قد تكون تركت آثارَها فيها، أي في هذه اللهجات، لأسباب عديدة ذكرَ الكاتبُ الحكيم البابليّ الكثيرَ منها في مقاله الـمُشار إليه، كالتّجارة والتّرحال واعتناق العقائد والتثاقف والعلوم والتزاوج والحروب... إلخ.
ولم يتعرّض البابليُّ في مقالِه للهجات العراقيّة بكليّتها، بل اقتصرَ منها على دراسة الألفاظ النّابية الدّخيلة إليها من اللغات الأخرى غير العربيّة كما ذكرَ ذلك في عنوان المقال وفي متنه أيضًا. وليسمحْ لي الآن، بعد التحيّة من جديد، ببضع ملاحظات قد تنفع هذا البحث الهامّ:

الملاحظة 1:
وهي ملاحظة تتعلّق بعنوان المقال ومدى دقّة اختيار ألفاظه: "الكلمات النّابية الدّخيلة في اللهجة العراقيّة الدّارجة"! هذا يعني أنّ المقال يتعرّض للكلمات النّابية، حصرًا، الدّخيلة إلى اللغة العربيّة، أي الغريبة عنها، المتداولة في العراق. وفي اعتقادي إنّ الكاتب أخطأ في اختيار جملة "اللهجة العراقيّة الدّارجة" بدلَ لهجات العربيّة المتداولة أو المحكيّة في العراق، إذ ليسَ ثمّة لهجة عراقيّة واحدة، بل مجموعة من اللهجات العربيّة المتمايزة بعضها عن بعض بحسب شعوب العراق وأقوامه وأديانه ومذاهبه وأماكن انتشار هذه الشّعوب. ما عدا لهجات اللغات الأخرى المتداولة اليوم في العراق كلهجات الآراميّة – السريانيّة والكرديّة... إلخ، التي يُمكن اعتبارها "دخيلة" لأنّها تنتمي إلى لغات غير العربيّة! ولهذا أقترحُ على الكاتب عنوانًا آخر لعلّه يكون أدقّ "الألفاظ النّابية الدّخيلة في لهجات العربيّة المحكيّة في العراق"! واقتراحي ينبع من بحثٍ أقدمتُ عليه في الماضي ولمّا أُتمّه بعد يتّصل بالموضوع عينه لكن في بقعة جغرافيّة أخرى.

الملاحظة 2:
يقول الكاتب في مقدّمة المقال: "ليس من الغريب أن نجد أن اللغة العربية إحتكت تأريخياً - بعمق - وعلى جميع الأصعدة ، مع شعوب وأقوام كُثَّر قد يصعب تعدادهم وحصر تسمياتهم ، ومنهم على سبيل المثال : السومريون ، الأكديون... إلخ"! ولستُ أدري إلى أيّة دلائل تاريخيّة أو أثريّة استندَ الحكيمُ البابليّ ليقول إنّ اللغة العربيّة احتكّت بشعبٍ كالشّعب السومريّ أو الأكّاديّ أو أيّ شعب آخر أقدم من أقدم آثار اللغة العربيّة!! ألعلّه ظنَّ أنّ بقايا لغات تلك الشّعوب في لهجات شعوب اللغة العربيّة اليوم هو احتكاكٌ تاريخيّ عميق؟! أم أنّه يريد القول إنّ العربيّة تأثّرت كأيّة لغةٍ غيرها بما تبقّى من رواسب تلك اللغات المنقرضة وهو ما يظهر في بعض اللهجات المتداولة هنا وهناك، وهذا أسلم؟!

الملاحظة 3:
يقول أيضًا: "... اللغة العربية الفصحى التي أصبحت لُغة منطقة وادي الرافدين الرسمية منذ دخول العرب والإسلام إلى العراق وبقية أقطار المشرق"! إنّ الرّبط بين "أصبحت" و"منذ" في هذه الجملة ربطٌ غير دقيق لا سندَ له ولا دليل! فالعربيّة الفصحى لم تصبح لغة تلك البلاد "الرسميّة" مباشرةً (منذ غزو المسلمين)، بل احتاجت إلى زمنٍ توطّدت فيه مملكة المسلمين العرب في دمشق (فبغداد)، والبرهانُ هو أنّ الدواوين لم تستخدم العربيّة لغةً إلا في فترة لاحقة متأخّرة، ولم يكن في وسع الحكّام العرب التخلّي عن المترجمين والموظّفين الذين اعتمدوهم لتسيير إدارة البلاد قبلَ انتقال لغة الدواوين شيئًا فشيئًا إلى العربيّة اللغة التي لم تنتشر انتشارًا واسعًا في العراق وسورية وغيرها من بلاد المشرق إلا بعد عدّة قرون من بداية الغزو العربيّ الإسلاميّ، وما كانَ لها هذا الانتشار لو لم تكن في آنٍ واحد لغة السّلطة السياسيّة والدينيّة (القرآن) آنذاك!

الملاحظة 4:
يقول: "والجدير بالذكر أن الكثير من اللغات المحلية القديمة هن أخوات للغة العربية ، مثل الأكدية والآرامية والعبرية والحبشية". أنتَ يا عزيزي تتحدّث عن العراق ولغات العراق ولهجاته، وليسَ صحيحًا إذًا اعتبار "الحبشيّة" و"العبريّة" لغتين محليّتين! إلّا إن كنتَ تتحدّث عن اللغات الساميّة عامّة، ولهذا تلزم الإشارة إلى ذلك!

الملاحظة 5:
يدعو التسمية "السّاميّة" التي استخدمتها التّوراة للإشارة إلى اللغة الأمّ (ومجموعة اللغات النّاشئة عنها) "اعتباطيّ8� �ديّة"! أتساءَل: وما معنى "اعتباطيّة كيديّة"؟! هلّا فسّر لنا الكاتب هذا الوصف؟! وإذا كانت هذه التّسمية مرفوضة من قِبل اللغويّين والمؤرّخين فهي حتّى اليوم مستخدمة في جميع دراساتهم وأبحاثهم ومنشوراتهم، فما معنى قولك إذًا إنّها تسمية مرفوضة من قبل هؤلاء العلماء وهم في الوقت عينه لا يملكون سواها في الدّرس والبحث؟! فأمّا الاستطراد الذي قادَ الكاتب البابليّ إلى الحديث عن التّوراة وعلاقتها بثقافات الشّرق القديم، فلا معنى له، لأنّه استطراد أخلّ بمنهج المقال الذي يبحث في اللغة واللهجة، لا بالدّيانات وأصولها الثّقافيّة!

الملاحظة 6:
يكتبُ الحكيمُ البابليّ: "وفي اللغة الأكدية والآرامية وكذلك في اللغة الكلدانية التي هي لغة قومي المحكية إلى حد اليوم : ( شْلاما )"! إنّ اللهجة الأكّاديّة التي تكلّم بها الكلدان القدماء انقرضت منذ أمدٍ بعيدٍ جدًّا، فأمّا اللهجة التي يتكلّم بها كلدانُ اليوم فهي إحدى لهجات اللغة الآراميّة وتُسمَّى لهجة الـ "سُوْرَثْ" (ܣܘܪܬ) وهي لفظ محرّف عن كلمة "سوريَــإيث" (ܣܘܪܝܐܝܬ)، وليسَ في الدّراسات والأبحاث من يعتقد أنّها "لغة كلدانيّة"!! ما يعيب هذه النّسبة أو التّسمية هو الخلط المتعمّد بين "اللغة" و"القوميّة" (أو المذهب)، فإذا كانَ الكلدانُ يتحدّثون بالآراميّة فهل تصحّ تسميتها "بالكلدانيّة"؟! وكذلك: إذا تحدّث كلدانُ اليوم المقيمون في السّويد بالسويديّة، فهل تصحّ تسمية السويديّة "بالكلدانيّة"؟! وهذا ينطبق على الكثير الكثير من الأمثال، ومنها مثل أبناء الكاتب عينه المقيمين في الولايات المتّحدة الأميركيّة والمتكلّمين باللغة الإنجليزيّة أفضل بكثير من أيّة لغة أخرى! (لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أنّ اللهجة الآراميّة التي نعتها الكاتبُ خطأً بالكلدانيّة يستخدمها أيضًا الآشوريّون وسريانُ العراق في شتّى مناطق انتشارهم)!!

الملاحظة 7:
في مقارنة سريعة بين العربيّة واللغات الساميّة الأخرى يكتب: "يقال في العربية ( مَلِكْ ) وفي بقية اللغات التي تم ذكرها يُقال ( مَلكا ، مَلخا ، مَلاخا )". صحيحٌ هذا التّقارب بين ألفاظ اللغات السّاميّة لاشتراكها في الجذر وفي أمور أخرى كثيرة. فأمّا لفظة "مَلاخا" فلا علاقة تجمعها بلفظة "مـَلـِك" العربيّة (إلّا في الثّنائيّة) لأنّها تعود إلى جذرٍ مختلف هو "ل أ ك" (الكاف تُلفظ خاءً في التّركيخ أي التليين) أي أرسلَ، وفي العربيّة تُقابل "مَلَك" (بفتح اللام) و"ملاك"، والملاكُ أصلًا جاءت في معنى الرّسول حتّى اتّخذت معنىً دينيًّا ميثولوجيًّا يعرفه الجميع!

الملاحظة 8:
يقول: "وكذلك من اللُغات التي لا زالت محكية في العراق من قِبَلِ أقوامها في الوطن العراقي ، مثل الكردية والكلدانية والآرامية - السريانية والتركمانية والآيزيدية والمندائية والشبك". يعودُ الكاتب إلى الخلط بين "القوميّة" و"اللغة" وما ينتج عنها من لهجات. فاللغات المعنيّة هنا هي الآراميّة والكرديّة والتركيّة وما نتجَ عنها من لهجات بحكم التّداول بين الشّعوب. فأمّا الكلدانيّة والمندائيّة والإيزيديّة فهي مذاهب دينيّة عقائديّة تتكلّم لهجات معيّنة تعود إلى اللغات المذكورة آنفًا. الكلدانيّون يتحدّثون بلهجة السّورَث الآراميّة، والمندائيّون باللهجة المندائيّة الآراميّة (أو "المندعيّة" لقلب العين همزةً في اللفظ).

الملاحظة 9:
يشيرُ الكاتب إلى أنّ لفظة "عبيط" العربيّة والمستخدمة في العاميّة المصريّة بمعنى "الأبله" أو "الغبيّ" أو "الأثول" تعودُ أصلًا إلى معناها الفصيح "اللحم الطّريّ غير النّاضج"! وفي تحليله الكلمة يستندُ إلى اللغة بدلَ الواقع، فيقول: "ومنه بالضبط جاء إستعمال العرب لهذه الكلمة في وصف بعض الناس بالعبط ، أي أن فكرهم ومداركهم لم تستوِ أو تنضج بعد . وهو إستعمال مجازي ذكي". بيدَ أنّ تحليل الألفاظ العاميّة يستندُ أوّلًا إلى واقع الموصوف لا الصّفة، وهذا ما يفسّر أنّ الكثير من معاني الألفاظ العاميّة مستنبطة لا صلة لها بمعاني الألفاظ في لغاتها الأصليّة (الفصحى)، مثل كلمة "سَرْسَريّ" التي تعني لغةً "العاطل عن العمل"، ومَن ليسَ له عمل سيقضي أوقاتَه بالتسكّع هنا وهناك، وبملء هذه الأوقات بما يناسب حاله وحال أمثاله، وبالتّالي سيكون الأقرب إلى رذائل المجتمع من غيره! وعن هذا نتج المثلُ الشعبيُّ السّائر: "الـ ما لو شغل يشتغل مع الشّيطان". ولهذا وذاك فقد اُستنبط معنى لفظة "عبيط" العاميّ من واقع العبيط عينِه، أي حاله الظّاهر. نقرأ في لسان العرب لابن منظور: "عَبَطَ الشيءَ والثّوبَ، شقَّه صحيحًا فهو معبوط وعبيط، قالَ أبو ذؤيب: فتخالسا نفسَيهما بنوافذ ... كنوافذ العُبُطِ التي لا تُرقَعُ، أي كشقّ الجيوب وأطراف الأكمام والذّيول". وغالبًا ما يكون مجنون الأحياء أو القرى في أثوابٍ مشقّقة بالية، فصحّت فيه تسمية "العبيط". ثُمّ حملت هذه الكلمة معاني أخرى كالأبله أو الغبيّ وباتت تُحصى بين الشّتائم. كما أنّ قاموس ابن منظور عينه نقلًا عن الأزهريّ يذكر معنىً آخر فصيح وهو أنّ هذه الصّفة تحملها "الدابّة" فيقال عنها "عبيطة" و"معبوطة"، إلا أنّي أرجّح المعنى السّابق.

الملاحظة 10:
يذكر البابليُّ أنَّ لفظة "جربزة" فارسيّة، ثُمَّ يقول: "ويوجد مُشابه لها في العربية الفصحى : ( جربز ) ، وتعني : الخبيث المخادع". ألعلّه لم يتنبّه إلى أنّ معاجم العربيّة الفصحى تذكر اللفظة على أنّها فارسيّة معرّبة؟!

الملاحظة 11:
تحتَ لفظة "أَدَبْ سـز" يذكر أنّها  تُستخدم في العراق "حصرًا"! أتساءَل: ألعلّه خَبِر جميع لهجات الشّعوب المجاورة ليجرؤ على قصر هذا اللفظ على أهلِ العراق؟! أم نسي أنّ الكثير من ألفاظ العاميّة مشتركة بين أهلِ الموصل وأهل الجزيرة السوريّة؟! نعلمه أنّ هذا الاستخدام دارج حتّى اليوم في أنحاء الجزيرة السوريّة، مثلها مثل "إيمان سز"، و"دين سز"... إلخ!

الملاحظة 12:
يشير في كتابة "كور ممش" إلى كافِها المصريّة أو الفارسيّة! فهل ثمّة كاف مصريّة تختلف عن الكاف العربيّة؟! ألعلّه يعني "الجيم المصريّة"؟!

ملاحظات سريعة:
- كانَ يُرجى من الكاتب العزيز ترتيب ألفاظ المقال أبجديًّا لتيسير الرّجوع إليها.
- هل يُمكن أن تُحصى لفظة "پُرتِكـَيشي" بين الألفاظ النّابية، والكاتب نفسه يذكر أنّها ليست شتيمة؟! وهل يُمكن إضافة لفظة "كْلاوْجي" إلى مجموعة ألفاظ المقال (وهي من الألفاظ النّابية الدّخيلة)؟!

أودّ أخيرًا أن أحيّي الحكيم البابليّ الذي أضفى على المقال بصمتَه الطّريفة ولم ينسَ أن ينقل بين الحين والآخر بعض الحكايات الشعبيّة التي أثرته من كلّ جانب، وأن أقولَ له: كلّ عامٍ وأنتَ وعائلتك وأحبابك بألف خير، كما أتمنّى لكَ ولجمهور إدارة الحوار المتمدّن والكتّاب والقرّاء سنةً مليئة بالخيرات والمسرّات.




الثلاثاء، يناير 24، 2012

سورية تُصلب على خشبةِ العار!


هي ذي روما تحكمك يا بلادي من جديد، وهو ذا بيلاطسُ البنطيُّ جالسًا على عرشِهِ يغسل يديهِ تبرئةً من دمِكِ البار المسفوك على ترابك! حاكمَكِ الأحبارُ والأئمّة وأصحاب العمامات والعروش والمناصب، وأبرموا فيك حكمَ الإعدام لقسوتهم وتطرّفهم ولكثرة وضاعتهم وجهالتهم. تجمّعوا مِن حَولك وبصقوا في وجهكِ وصعروا خدّكِ ومزّقوا ثيابَك، وأسلموكِ يا بلادي إلى الصّلبِ والموت، إلى أيدٍ غريبة تحكم قلوبهم القلفاء غير المختونة ختانَ عهد المواطنة وحبّ الوطن!

جميعهم من الأممِ الغريبة تآمروا عليكِ وأحاطوا بكِ كزمرةٍ من الأشرار، وكقطيعٍ من الضواري الجائعة الشرسة نهشوا لحمَك وشربوا دمَك. حتّى أبناءك يا بلادي خانوكِ، وبزناهم دنّسوكِ، يزنون مع بلادٍ بعيدة وشعوبٍ بعيدة وغايات غريبة، يفترشون ثوبَ عرسك مغموسًا بدماء زناهم وقذارات فحشهم وعارهم. جعلوا من أنفسهم رمزًا للخيانة، وشعارًا لكلّ مَن يقتل أمّه بيديه، ولقايين الجديد قاتل أخيه!

على عمودٍ من الأحجار، في ساحة ترابيّة، أركعوكِ، ورفعوا السّوط يجلدونكِ، ويثخنوك بالجراح والكلوم، خطوط حمراء تنزّ منها الدّماء بغير التئام. من نزاعاتهم وصراعاتهم حول أرضٍ أو سماء، التفّوا يجدلون لكِ إكليلَ شوكٍ يغرزونه في رأسك، بدلَ إكليل غارٍ يزيّنون به صدركِ. وبعدَ كلّ هذا العذاب الذي جرّعوكِ، ألقوا القرعةَ على أثوابِك وثرواتك، وراحوا يتناهبونَكِ كلصوصِ المغارة، فهذا لذاك، وذاك لهذاك، حتّى عرّوكِ إلا من ورقة تين تستر ما تبقّى.

شربتِ كأسَ الآلامِ باحتمال، بغيةَ الفداء، ولـمّا تكفيك بعد كلّ هذه الأوجاع. حكموا عليكِ بالموت، وحين همّ الطاغية بتبرئتكِ إذ لا ذنبَ لكِ في كلّ هذا الحدث، صرخوا جميعُهم أبناء وغرباء: "اصلبها، اصلبها، اصلبها... "، فأمّا أنتِ أيّتها العروس المغتصَبَة فوقفتِ تنظرين كل هذا الحشد الصّارخ بالصّلب الآتي من أفواه الأحقاد والرّذائل والجاهليّة، مَن أرضعتهم وسقيتهم وغذّيتهم، مَن فجّرتِ جسدكِ قمحًا وزيتًا وعسلًا في سبيلِ إحيائهم، مَن نسجتِ مِن شعرِك الأبيض الطّويل أرديةً وأكسية لتغطيتهم وتدفئتهم!



دفعوكِ في دربِ جلجلتكِ، ترتقينها نازفةً متوجّعةً ممتلئةً باليأسِ وعارِ الموتِ القريب! صليبُك الخشبيّ ثقيلٌ ثقيل، على منكبيكِ الهزيلين رفعتِهِ تمشين نحو قمّة الموت. في طرقات الأرضِ المقدّسةِ سرتِ، كلّ المدن والبلاد المحترقة تنظرُ إليكِ، وأنتِ تصبرين، تعزّين النّفسَ، تقولين: "مَن يصبر حتّى المنتهى يخلص"! في آخرِ الطّريقِ رميتِ خشبة العار، فجندلكِ الأوغادُ ومدّدوكِ على الصّليب وفي يديكِ ورجليكِ دقّوا مساميرَ الخيانة والتشفّي انتقامًا من إله الحضارة. حينها رفعوا الخشبةَ ورحتِ من أعلاها تصرخين: إلوهي إلوهي اغفر لهم على السّواء أيدرون أم لا يدرون ماذا يفعلون! ألعلّ قطرات الدّم التي نزفتِها من جبهتِك ويديكِ ورجليكِ ثُمَّ جنبكِ تُنزل دمعةً واحدة من جفن الإله؟!


الثلاثاء، يناير 10، 2012

مجتمعٌ ذكوريّ... امرأة تُعجز نفسَها: ردًّا على أسماء صباح!


نشرت السيّدة أسماء صباح في العدد 3594 من صحيفة الحوار المتمدّن مقالًا بعنوان "مجتمع ذكوري... امرأة عاجزة"، بتاريخ الأوّل من كانون الثّاني 2012. وأعقبتُ عليه بردّ عنونته "مجتمع ذكوريّ... امرأة تُعجز نفسَها"، نشرته الصّحيفة عينها في عددها 3595 الصّادر في اليوم التّالي، أنقل إلى القرّاء الكرام الردّ والمقال تتابعًا، عن الصّحيفة المذكورة:

مجتمعٌ ذكوريّ... امرأة تُعجز نفسَها
كنتُ عزمتُ المشاركة في صفحة التعليقات أدنى المقال، والإيجاز خوفًا من الحشو والتكرار، إلّا أنّ طول نصّ التعليق ألجأني إلى صياغته في صورةِ ردٍّ قصير يُجمل الأفكار التي عرضت لي إبّان القراءة!

عزيزتي الكاتبة، أسعدَ اللهُ مساءَك وأجزلَ لكِ الثّناء على مناصرتِك حقوقَ المرأةِ في مجتمعاتنا الذّكوريّة، لا أُخفي عنكِ، بدايةً، امتعاضي من إهمالِك التطرّق إلى أسباب ذكوريّةِ المجتمعات واستمرارِها وتضخّمِها في مجتمعٍ دونَ آخر، ومن إهمالِ التَّسميات الحقيقيّة واستبدالها بأخرى (عمدًا أو عن غير عمد)، ممّا جعلَ مقالَك أعلاه عرضًا لا يُعالج موضوعَ المقال بشكلٍ كافٍ وافٍ، ويُهمل الأسبابَ وأساليبَ التحرّر منها فالمعالجة وصولًا إلى الهدف.

وبغضِّ النَّظر عن السَّبب الرئيسيّ الطبيعيّ الذي أدّى، منذ البدء، إلى سيطرة جنسٍ على آخر، كما عرضَ ذلك الأستاذُ نعيم إيليا في مقالٍ له "ضد عبد القادر أنيس وفاتن واصل"، على صفحات العدد 3394 من الحوار المتمدن ، فإن الأسباب المتعلّقة بثقافة المجتمع غائبة كليًّا في المقال، وقد تكون مغيّبة إمّا خوفًا من ذكرِها، أو جهلًا بها، ولا يُمكن إزاء عالم اليوم، وأمام وفرة مقالات الكاتبة وثقافتها إلا الإقرار بالتغييب القسريّ تهرّبًا منها ومن النتائج التي قد تترتّب عن ذكرِها في ظلّ مجتمعات متخلّفة مريضة.

تتساءل الكاتبة في مقدّمة مقالها عن سبب قلّة عدد النّساء اللواتي يعرفن بحقوقهنّ ويسعين إلى انتزاعها، ثُمَّ تجيب على تساؤلها سريعًا وتقول: "لأن المجتمع العربي الذكوري خلق امرأة عاجزة عن التطلع للامام". وتختم مقالها كما لو كانت تعرضُ أمام القارئ الحلَّ الرّئيسيّ في معالجة قضيّة الانتقاص من حقوق المرأة، تقول: "ان مجتمع ذكوري كالمجتمع العربي بحاجة الى اعادة صياغة، اعادة تربية، واعادة ترتيب للاولويات". وفي المقدّمة والخاتمة تتعمّد الكاتبة تسمية هذه المجتمع (أو المجتمعات) بالمجتمع العربي، بدلًا من استخدام التسمية التاريخيّة الدّقيقة "المجتمع الإسلاميّ"! وشتّان ما بين التسميتين! المجتمعات العربيّة يا سيّدتي كانت، ما قبل نشأة الإسلام، منحصرة في مناطق جغرافيّة معيّنة، كما أنّ ثقافتها كانت محدودة جدًّا في تلك المناطق. ومع نشأة الإسلام فانتشاره وُئدت كلُّ ثقافة لتحلّ الثّقافة الدينيّة شيئًا فشيئًا مكانها أجمعين! فنشهد أسلمة العادات والتّقاليد وكلّ عنصر ثقافيّ آخر تحت حكم الله المطلق وشريعته وشريعة رسولِه المتمثّلتين في القرآن والحديث والفقه... إلخ!

إنَّ الكاتبة في حماسها، وهو حماس مشروع، وغيرتها على جنس حوّاء، وغيرتها حقّ؛ لم تتنبّه إلى أنّها عابت المجتمع لاعتباره جسد المرأة عورة (ولعلّها تنبّهت فغضّت الطّرف)، وهذا اعتبارٌ دينيّ إسلاميّ حصريّ يرى في المرأة عورة، لا بل مجموعة من العورات لا يسترها إلا النّقاب. ألم تقرأي في القرآن: "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (سورة النّور 31)؟! أوَ لم تقرأي أيضًا ما قالَه نبيُّ هذا المجتمع: "إنَّ المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان وأقرب ما تكون من وجهِ ربّها وهي في قعرِ بيتِها" (سنن الترمذيّ). أوَ لم تسمعي عزيزتي الكاتبة ما قالَه أحد أشهر شيوخ بلادك أبو إسحق الحويني السلفيّ: "إنَّ وجه المرأة كفَرْجها"؟! من أين لمخيّلة السلفيّ الحويني هذا الإبداع الذي ساوى وجهَ المرأة بفَرْجها، لو لم يقرأ ويتأمّل في سورة النّور هذه، وفي زبدة أقوال علماء التفسير فيها، وفي هذا التّسلسل العجيب الذي بدأته الآية الواحدة والثّلاثون منها في إلحاقِ الفروجِ بالأبصار؟! من أين له هذه الصّورة في جعل كلّ ثغر في المرأة عورة لولا قول نبيّه في الترمذيّ؟!

ألم تفطن الكاتبة أيضًا إلى أنّها اتّهمت المجتمع باعتبار المرأة أقلّ من الرّجل، والمجتمع يستوحي هذا الاعتبار مرّةً أخرى من كتابِه الكريم في آياتِه التي تحطّ من شأن المرأة، ومن سنن نبيّه الذي لا يرى في النّساء سوى ناقصات عقل ودين! لماذا تنتفض الكاتبة على الرّجال الذين لا يرون في النّساء، على حدّ قولها، سوى المتعة، وسبقَ القرآنُ وصرّح: "نساؤكم حرثٌ لكم... "، و"انكحوا ما طابَ لكم من النّساء... "؟!

تختم أسماء مقالها بمجموعة من النّصائح تنصحُ بها المجتمعَ ليعيدَ ترتيب الأولويّات، فهل ستسمح له إذًا بإبعاد الدّين ونصوصه عن احتلال صدارة الأولويّات؟! تنصحُ للنساء بتربية جيلٍ من الذّكور قادرٍ على تصوّر المرأة كشريكة، فهل تنصح للأمّهات أن يُبعدن عن وسائل تربيتهنّ "الدّينَ" ونصوصه المهترئة؟! تنصحُ للمجتمع ألا ينظر إلى المرأة نظرةً دونيّة، فهل تقبل بأن يمسحَ المجتمعُ عينُه من ذاكرته وفكره نصوص الإله المقدّسة التي رسّخت فيه هذه النّظرة؟!

حتّامَ يتعامى المثقّفون العرب عن مشكلة المشاكل؟! وحتّامَ يبحثون عن الفلس الضّائع في النّور وهم يعرفون أنّه ضاعَ في الظّلام؟! حتّام يسخرون من أنفسهم ومن جماهير النّاس والقرّاء في إغفالهم المتعمّد أسباب التخلّف الرئيسيّة؟! حتّام يا أمّة الأعراب يا أمّة النّعام؟!

مصدر المقال: الحوار المتمدّن.


هو ذا نصّ مقال السيّدة أسماء صباح:

مجتمع ذكوري...امرأة عاجزة

لا زالت المرأة العربية تناضل من اجل الحصول على حقها، الا ان اللافت والمثير للاهتمام حقا هو قلة عدد النساء اللواتي يعرفن اصلا ان لهن حقوقا وعليهن السعي لتحقيقها، لماذا؟
لأن المجتمع العربي الذكوري خلق امرأة عاجزة عن التطلع للامام، همها اداء ادوارها التقليدية على وجه الدقة، الطبخ والغسل والكنس، وكانها خلقت لهذا فحسب!
البارحة لفت نظري رجل دخل الى عربة السيدات في مترو القاهرة، ليبيع للنساء "الة حفر الكوسا" وليقنع السيدات بشرائها استعمل دعاية جعلت كل النساء يشترين الالة "متخليش حماتك تعلم عليكي وقوري الكوسا من غير متكسريها"، ضحكت الفتيات كثيرا، واشترين الالة من اجل تسهيل عملية "عمل المحشي".
اذا فالمجتمع عن بكرة ابية وحتى هذا البائع يساهم في تشكيل امرأة تسعى لتكرار وقبول الدور الجندري المنسوب لها، على المرأة الطبخ والتنظيف وعلى الرجل العمل خارج المنزل من اجل ان يأتي بلقمة العيش، وتظل المرأة تعمل في صمت ومن دون ان يكون لهذا العمل قيمة "عائد" وتظل تشعر بانها على الهامش وبأنها مستهلك وغير منتج.
الاان بعض النساء ادركن، مبكرا، أهمية مشاركتهن في الحياة العامة على كل الاصعدة، ورحن يعملن بلا كلل ولا ملل من اجل تغيير نظرة المجتمع للمرأة، ففي ثورة 25 يناير رأينا النساء يشاركن بأعداد كبيرة في المظاهرات التي اطاحت بالرئيس المصري السابق حسني مبارك.
الا اننا فوجئنا بعد الثورة بحوادث مست كرامة المرأة بشكل خاص، فقد تم اجراء فحص العذرية لبعض الناشطات اللواتي كن يعتصمن في التحرير، وسحلت اخريات وعريت وضربت نساء كبيرات في السن بالهراوات على رؤوسهن ولم يمنع شعرهن الابيض الاهانة.
فلماذا تستهدف المرأة بشكل خاص؟ ان المجتمع الذي نعيش فيه هو مجتمع ذكوري بحت، وبالتالي كان لابد له من ان يتصرف هكذا مع "المرأة" التي يعتبرها اقل من الرجل ولا يجوز لها ان تعبر عن رأيها أبدا فكيف لها ان تقول رأيها فيما يحدث على الساحة السياسية؟؟
ان السياسة حرام على المرأة، هذا ما يقرره الذكور المتمثلين بحكام البلاد، ولأن جسد المرأة يعامل أيضا على انه عورة، تمت تعريته لتلقين المراة درسا قاسيا لا تنساه في حياتها، ولتتعلم النساء الاخريات اللواتي لديهن طموح في السياسة والتعبير عن الرأي، على هؤلاء النساء ان يعدن الى مطابخهن كما قال احد السائقين معلقا على امرأة كانت تقود سيارتها وسط الزحمة، ولانها هادئة ولا تقحم سيارتها او "تخانق وتزعق" قال بأن "السواقة حرام للنسوان والله، دي اخرتها تطبخ طبخة للعيال وتغسل الهدوم".
اما هم فلهم الحق في القيادة والسيادة والسياسة وكل ما يتعلق بالمناصب العليا لانهم يعرفون كيف يصرخون ويشتمون ويقتلون ويعرون ويعربدون، ويتكرر صنع هؤلاء يوميا، ويربون على كره كل ما يتعلق في النساء الا كونها اداة للمتعة فهذا يحبونه.
ان مجتمع ذكوري كالمجتمع العربي بحاجة الى اعادة صياغة، اعادة تربية، واعادة ترتيب للاولويات، لذلك نحن بحاجة الى توعية النساء المربيات ليربين جيلا من الذكور قادر على تصور المرأة كشريكة في الحياة والوطن وفي كل شيء، وان يحترمها لانها انسان مثله، والا ينظراليها نظرة دونية..

مصدر المقال: الحوار المتمدّن.