السبت، يناير 08، 2011

فَـنُّ التَّشليـح!

انطلقتْ بنا سيّارةُ الأجرة من جراج "شارل الحلو" في بيروت نحوَ حلب شهباء سورية. كنّا أربعةً: السّائقُ خلفَ عجلتِه، وأنا في المقعدِ الأماميِّ، وخلفَنا جلسَ أخوان: شابٌّ وفتاةٌ. في حقائبي، كنتُ أحملُ عددًا من الكتبِ المتنوّعة الموادِّ والأشكال، وحملُك المعرفة ثقيلٌ، كفيلٌ بإيقافِك على حدودِ وطنِك "سورية" ساعاتٍ وساعاتٍ تكرّسها لسيناتٍ كثيرة وجيماتٍ أقلّ! وما أدراك أينَ وكيف! وألفُ ويلٍ لكَ ولسائقِك من بعدِكَ إن أنتَ أخفقتَ فعرضتَ ذكاءَك وسخاءَك وأكثرتَ من جيماتِك... والبقيّة لا تُذكر لشهرتها!
.
وصلنا حدودَ بلادي "العريضة" الساحليّة، وهي، وإن كانت تحملُ اسمَ "العريضة" إلا أنّها ضيّقةٌ، وضيّقةٌ جدًّا، إلى حدٍّ لا تتّسعُ فيه لمواطنٍ واحدٍ يحملُ كتبًا. قد تتّسع له ولأمثالِه عراةً جسدًا وروحًا وفكرًا! واقبلْ، إن كنتَ تقبل، أن تكونَ عاريَ الرّوح والفكر، فقد سبقَ أن عُرّيتَ جسدًا وهندامًا، وللتخصيصِ أكثر، سبقَ أن عَرّوكَ جيبًا. ألستَ في بلادِ الاشتراكيّة، وموطن الوحدة، ومعقل الحريّة؟! ألستَ تذكر هذه الأمّة ورسالتَها الخالدة التي ما بَرِحْتَ تترنّمُ بها كلَّ صباحٍ منذ دخولك المدرسة حتّى خروجك منها؟!
.
قلتُ وصلنا حدودَ "العريضة" الضيّقة، واُضطرَّ السّائقُ المسكين أن يدفعَ "خمسين" ليرةً سوريّة، عدًّا ونقدًا، قطعةً واحدةً، إلى ضبّاطِ الحدود، لئلا يبقوه واقفًا دون سبب، ويبقونا نحن جالسين دونَ سببٍ أيضًا. على كلِّ حال، يجب أن أعترفَ ولا أخفي عن القارئ، أنَّ "خمسين" ليرة أفضل ألف مرّة من فتحِ الحقائب، وقراءة الأسفار التي تحتويها.
.
انتهت المعاملات أخيرًا، فبعدَ ختمٍ ودفعٍ، ركبَ السّائقُ وأطلقَ العنانَ لسيّارتِه التي لم تكد تجتاز الحدودَ حتّى أوقفتها سيّارةٌ هرمةٌ، أنهكتها دولةُ البعثِ بكثرة نهبِها وفسادِها، وما لبث سائقُنا الصّامت أن أوقفَ عربتَه ونزلَ واضعًا يدَه في جيبِه مخرجًا "خمسين" أخرى، ليهبها إلى ركّاب السيّارة الهرمة الذين لم يكونوا في الحقيقة سوى بضعة ضبّاطٍ جمركيّين! أخذها أحدُهم لاعنًا بخلَ السّائقين، ورافعًا يدَه في الهواء دليلاً إلى إطلاق السّبيل!
.
ركبَ السّائقُ من جديد، وأدارَ محرّكَ السيّارةِ وانطلقَ ولم ينطلق، ويا للأسف، فمن بعيد لمحنا سيّارةَ جيبٍ تشيرُ إلينا بأنوارها الأماميّة حتّى نقف. أوقفَ السيّارةَ ثُمَّ نزلَ وأخرجَ من جيبِه المتململ، لكثرة الدّاخل فارغًا والخارج ملآنًا، خمسينًا ثالثة. وعرفتُ في ما بعد أنَّ هؤلاء الأربعة الذين كانوا في تلك السيّارة يتبعون المخابرات العسكريّة السّاهرة ليلاً ونهارًا على أمن الجيشِ والعساكر، فتأمّل!
.
إنَّ الخمسينَ ليرة سوريّة مبلغٌ زهيدٌ، هو أكثر بقليل من دولارٍ أميركيٍّ واحد. وكيفَ لكَ، وأنتَ سوريٌّ، أن تحتملَ مشهدَ ضبّاطِ بلادِك يبتزّون السّائقين، جميع السّائقين، ليسلبوهم مثل هذا المبلغ الزهيد؟! قلتُ: وكيفَ لكَ، وأنتَ سوريٌّ... وقد أكون مخطئًا، لأنّك، وأنتَ سوريٌّ، قد اعتدتَ مشهدَ السّلبِ والنّهب، ليلاً ونهارًا، صغارًا وكبارًا، قيامًا وقعودًا، رُكّعًا وسُجّدًا، في بيتِك وفي محلِّ عملِك، وفي مركعِ صلاتِك، وفي كلِّ مؤسّسة ومعملٍ ومكان حتّى في مخدعِك. فكيفَ أسألُ أن تحتملَ شيئًا قد اعتدتَه منذ أن وُلِدْتَ ووُلِدَ أطفالُك؟! وقد يعتادُه أطفالُ أطفالِك... إلخ!
.
تلك السيّارات تسلبُ كلَّ سائقٍ خمسين ليرة، وفي كلِّ يومٍ تمرُّ مئاتُ السيّارات، والخمسون تضافُ إليها أصفارٌ جديدة، وعلى هؤلاء اللصوص أن يشلّحوا أكبرَ قدرٍ من السيّارات، فعليهم هم أيضًا واجب الدّفع لذاك اللصِّ الذي منحهم هذا العمل، وكلُّ لصٍّ يدفع للصِّ الأكبرِ منه، فتصل هذه الخمسون ليرة أصغرَ لصٍّ في بلادي بأكبرِهم، يا لهذا التّواصل المتين! أليس ممّا يدعو إلى العجبِ والدهشة، وفغرِ الأفواه بلا إغلاق؟!
.

قَدْ أكونُ ساخرًا، متهكّمًا، قاسيًا... لكنَّ الحالَ ينطقُ، بي وبدوني، بقلمي هذا وبدونه، بريشةِ غيري وبدونها، فحالُ البلادِ باتَ أقسى من كلِّ قلم، وأغلظ من كلِّ ريشة!

ليست هناك تعليقات: