الأحد، أبريل 05، 2009

الجزّار الأفريقيّ

مساء الأحد 27 تموز 2008 (القاهرة)
.
قرّرنا الخروجَ هذا المساء ونبذ اعتزالنا المنزليّ، فطرحَ صديقي مشروعَ العشاء على الطاولة وتلقّفته أيادينا وأعملنا فيه المشاورة بين أن نتعشّى هنا ونخرج، أم نتناوله خلال الطّريق! رجّحت الأصوات عشاءَ الطّريق، فاستعجلنا الترتيب والتوضيبَ وهرعنا إلى الخارج كطيرٍ أقامَ في قفصٍ أعواماً طوال وبصر البابَ مفتوحاً!
.
بالقربِ من حيّنا الغمراويّ دخلنا مطعم "كوك دور" الذي اشتهرَ في مصر بوجباته السّريعة، وطلبنا صندويتشاً، وكانت حصّتي واحدة محشيّة بصدرِ دجاجٍ مشويّ. حملنا هذا الغداء وبلغنا به كورنيش النّيل حيث اقتربَ منّا أصحابُ المراكب يعرضونها علينا. بعدَ أخذٍ وردٍّ اتّفقنا مع واحدٍ منهم على استئجار مركبه بمئة جنيهٍ لمدّة ساعتين، وهي المدّة المسموح بها لبقاءِ مراكبِ الأجرة في النّيل بشكلٍ متواصل بحسب القوانين السّائدة.
.
لم أشهدْ نهراً عريضاً مخيفاً كما شهدتُ ذاك المساء. كان عريضاً كتنّين فغر فمه لابتلاع الفرسان الذين يسعون إلى امتطاء أذيالِه الطّويلة السوداء الدّاكنة بغير قرار. كان نهراً عميقاً يبعثُ الرّهبةَ في نفوس ركّابه، كغورٍ لا يشبع من ابتلاع الأشياء! هكذا كان نيل مصر العظيم... بدأ المركبُ الطّويلُ يشقُّ العبابَ الخجول لقلّة الرّياح، وأصوات السّامرين فوق الكوبري والأضواء المنبعثة من المراكب أضفتْ على مشهدنا جواً مصرياً بلدياً مليئاً بالرَّوح والرّاحةِ والرّيحان.
.
رفعَ ريّسُ مطيّتنا صوت المسجّل فارتفعَ الصّخبُ ينادي بالأغاني البلديّة وسمعتُ مطرباً لا يُطربُ يقول: "عَمّال تِغلَط في النّاس ليه، خُدلَك كرسيّ واقعد عليه". ولذلك حملتُ وسادة ورميتها عند مقدّم المركب الحديديّ وجلستُ مع البقيّة أتأمّل في كلّ شيءٍ: السّماء والنّيل الدّاكن والأبنية الشّاهقة المضاءة والمراكب الصّاخبة المارّة بالقرب منّا وأحاديث الأصدقاء... نسيتُ في غمرة ذاك الجمال نفسي ومتاعبي ومشاغلي وتمنّيتُ البقاء في ذاك المكان بلا انتهاء!
.
ارتفعت الفنادق الضّخمة تضيء عتمة الأمواج الهادئة، وتحدّث عن السّياحة في العاصمة المصريّة وكثرتها، فهذا هو الهيلتون وذاك الشيراتون فالفصول الأربعة الذي فاجأني بوجوده في هذا المكان، إذ يُعتبر من النّزل القليلة في العالم بنجومه السّبعة التي تزيّن صدره. وعلى بعدٍ منّا برز برجان مرتفعان متّصلان أخبرني صديقي أنّهما يعودان إلى ملكيّة نجيب ساويريوس أغنى أغنياء مصر. كنّا نجتاز الكباري الإسمنتيّة الضّخمة الرابطة بين القاهرة المنفصلة على يدِ الجزّار الإفريقيّ الغارس مديته في قلب ضحيّته المسكونة.
.
انتهت السّاعتان على عجلٍ كأنّهما برقٌ لمع وخفتَ وبقي نورُ شرارتِه منعكساً في عيون النّاظرين. وآلمني أن نعودَ بهذه السّرعة. نزلنا جميعُنا وكنتُ آخر الرّاحلين، نفحتُ الكابتن (الريّس) ما تبقّى من "الفكّة" وتلك السيجارة الوحيدة التي صمدتْ في علبتي حتّى المساءْ.
.
في المنزلِ جلستُ أمام رفيقَ دربي الإلكتروني لأخطَّ هذه السّطور وأحدّث عن النيلِ واهب الحياة والجمال والاستمرار. هذه هي مصر هبة النيل كما وصفها نابليون. وعند الواحدة توقّفتُ عن الكتابة وجلستُ أمام التلفاز أرقبُ لميسَ وهي تسمعُ قصّة تيم عبّاس كما هو على حقيقته!

هناك تعليقان (2):

حسام الأخرس يقول...

وصفك جميل لم ارى النيل شخصيا ولكني سمعت عنة احسدك على جلستك الرائعة شكرا لانك اصطحبتني معك تدوينه موفقة صديقي

سيمون جرجي يقول...

عزيزي حسام
لم يكن وصفي شيئاً أمام عظمة وجمال النّيل، أرجو أن تتيح لك الأقدار فسحةً من الوقت تقضيها وأنت تتمتّع بسحره!
شكراً لك مع المودّة.