الخميس، أبريل 01، 2010

خمسة أيّام في العراق تحتَ الحرب (2 / 2)

حالما دخلنا المدينة توقّفنا بالقربِ من مقهى فيه بضعة رجال سألنا أحدهم عن فندق بابل فأجابنا بكرديّة لم نفهم منها إلا القليل، وبمعونة إشاراته وإيماءاته عرفنا الطريق، فبلغنا البيتَ بعد دقائق لم تخلُ من عناء. سلّمنا على أصحابِه الذين يمتّون بصلةِ القرابة إلى أبي بشّار، وبعدَ استراحةٍ قصيرة تخلّلتها القهوة العربيّة خرجنا في زيارةٍ قصيرة إلى سوقِ المدينة، وهناك جذبني السجّادُ الفارسيُّ بألوانه الحارّة والنّقوش التي تزيّنه، ولم يطل الأمرُ حتّى انطلقنا متّجهين إلى زاويثا بحسب الخطّة المرسومة!

.

خرجنا من دهوك عندَ منتصف النّهار لنعبرَ الجبالَ نحوَ الشّمال من جديد. كانت الأوبّل الألمانيّة تزمجر وهي ترتقي تلك المرتفعات المزيّنة باخضرارٍ لا مثيل له، وتقتربُ من زاويثا المشهورة بنوعٍ فريد من أنواع شجر الصّنوبر، ومعها سحنا في أحضان طبيعةٍ تضمُّ كرومًا ولوزًا وشعرنا أنّنا فعلاً في خدرِ العراق الحقيقيّ. بلغنا مقصدنا في زاويثا وفيها توقّفنا والتقطنا صورتَين ثمَّ أخذنا الطّريقَ صعوداً نحوَ "سره سنك". ثُمَّ مررنا ببلدة "سوارا توكا" وسيّارتنا تواصل ارتقاءَها كسيزيف دافعًا صخرته بلا كللٍ أو ملل، وفي أعلى هذه البلدة نزلنا حيثُ عثرنا على مطعمٍ واستراحةٍ صغيرةٍ تنعشُ تصلّب جسدَينا! رحتُ أنا آخذُ الصّورَ للوادي والجبال العملاقة المخوفة بينما أفرغَ أبو بشّار تعبَه في سجائره عراقيّة الصّنع! جلسنا في زاوية الحديقة وشربنا الشّاي وبدأ قريبي يقصُّ عليَّ شيئاً من طفولته التي يذكرها بحسرة، عندما كانَ يُرافق أباه في أعمالِه التي صرفها في هذه المنطقة في بناءِ المصايف والمطاعم لسنوات خلت.

.

تركنا المكانَ بعدَ وقتٍ ملأته أحاديث أبي بشّار العذبة وخفايا طفولته وشقاواته، وانحدرنا هذه المرّة نزولاً نحوَ "سره سنك"، وعلى قمّة جبلِ "جارا" رأينا أحدَ قصور الرّئيس الرّاحل. وبالقربِ من ذاكَ المكان مررنا بأرضٍ مسوّرة بحجارةٍ صفراء متينة عرفتُ لاحقاً أنَّ هذه الأرض ليست سوى بقايا قصرٍ صدّاميٍّ آخرَ لم يعدْ موجودًا اليومَ بعدما نهبَ الأكرادُ حجارتَه وقسمًا كبيرًا من حجارةِ سورِه ليبنوا بها منازلَهم! لفحنا هواءٌ رطبٌ قادمٌ من بحيرة قائمة على سدٍّ صغيرٍ توقّفنا عندَها لحظات وسحبتُ آلة التصويرِ وصوّبتها نحو المياه وضغطتُ بسبّابتي إلا أنّها خانتني في تلك اللحظة وتعطّلت... شتمتُها شتيمةً سوريّةً ثقيلةً، وكدتُ أرمي بها على الأرض لولا أن قالَ لي أبو بشّار: لا تقلق سنجدُ في سوق البلدة فيلمًا أضعه في آلتي السّليمة! بالقربِ من شابٍّ نحيفٍ طويل فتحَ قريبي نافذتَه وقال: "عندي سؤال بَلا زَحْمَة! أكو مصوّر قريب؟!" رفعَ الشابُ يدَه مشيرًا إلى يسارنا وقال: "في السّوق"! وفي محلّ التّصويرِ اختلطَ الحابلُ بالنّابلِ فقد تعطّلتْ آلةُ أبي بشّار بعدَ وضعِ الفيلم الجديد، والمصوّرُ غائبٌ، وصبيُّه يشرحُ لنا بكرديّة ممزوجةٍ بإشارات يديه البهلوانيّة... وضاقَ صدري ونفذ صبري فقرّرتُ شراءَ واحدة جديدة ما زلتُ حتّى اليوم أحتفظ بها ذكرىً لتلك المصيبة. دفعتُ أربعًا وخمسين ألف دينارٍ أي حوالي ثمانية وثلاثين دولارًا وأخذتُ أيضًا فيلمين وضعتهما في جيبي وعُدنا إلى السيّارة التي سارتْ بنا صعودًا نحوَ "إينشْكي" وهي قريةٌ مسيحيّةٌ صغيرة قريبة في شكلها وأزقّتها من قرى الوادي السوريّة القريبة من السّاحل.

.

في هذه الأثناء هاتفتُ أختي وتكلّمتُ معها كي تطمئنّ... ثمَّ نزلنا باتّجاه "سُلاف"، وفي الطّريقِ إليها، وأمامَنا مباشرةً، على بُعدٍ بعيد فوق ذروة الجبل، كأنّها مائدةٌ مستديرة اصطفّتْ عليها شتّى ألوان الطّعامِ؛ جثمتْ مدينةُ "العَمّاديّة"! أوقفَنا جنديٌّ وقالَ بالكرديّة: الطّريقُ إلى العَمّاديّة مقطوعٌ! فنزلنا "كلي سُلاف" ("كلي" كلمة كرديّة تعني "وادي" تلفظ الكافُ فيها جيمًا مصريّة)، ومن هناك برزتْ العَمّاديّة من جديد كتاجٍ يزيّن هامة الجبل مرصّعةً ببيوتها المرصوفة فيها كجواهر من كلِّ شكلٍ ولون. وبعدَ لأيٍ وجدنا الطّريقَ الموصلَ إليها، لكنّنا قبل بوّابتها الحجريّة انعطفنا إلى اليسار نحوَ "شيلادزَّه" وخلال الطّريق كنتُ أجوبُ بنظري الأنحاءَ فشاهدتُ لافتةً مكتوبٌ عليها "إلى كنيسة مار عوديشو"، وعندَ مفترقِ طرقٍ لمحتُ لافتةً أخرى تقول "عمليّات إزالة الألغام"، تظلّعتُ إلى أبي بشّارَ وأشرتُ إليها بدون كلمة، فقال وعيناه ترقبانِ الطّريقَ: تعودُ هذه الألغام إلى الحرب التي شنّها صدّام على الأكراد، ثمَّ سكتَ فسكتُّ معه وعدتُ إلى مشاهدي وتلك الخربشات التي خططتُها على وريقات كنتُ أحملها!

.

عندَ نهر الزّاب توقّفنا قليلاً وأخذنا بضعَ صورٍ بين حناياه الصخريّة، ثمَّ أكملنا الطّريقَ إلى شيلادزّه متخوّفين من نفاد الوقود، إلا أنَّ اللهَ منَّ علينا بمحطّةِ وقودٍ أشبعت السيّارة وأشبعتنا من الغبطة والارتياح، ومن عمّال المحطّة حصلنا على خريطة الطّريق إلى موضع التقاء الزّاب بأرضِ العراق. في الرّابعة والرّبع وصلنا المدينة المنشودة واجتزناها نحوَ الشّمال، لكنَّ اقترابَنا من الحدود التركيّة، وخلوّ المنطقة من البشر بعثا القلقَ في قلبِ مرافقي، فقال لي: سنعودُ أدراجَنا، ولم ينتظرْ جوابًا مني بل أدارَ مقودَ السيّارة وعادَ من حيثُ أتينا! وعلى ضفاف الزّابِ الأكبر جلسنا في مطعمٍ صغيرٍ تلامسُ مياهُ النّهرِ صخورَه، وأوصى أبو بشّار على "التكّة" وهي "الشّقف" السّوريّة، أي قطع لحمِ الخروفِ المشويّة! وفي الفترة التي أمضاها الشّاوي في إعدادِها نزلَ أبو بشّار إلى ضفّةِ النّهرِ الصّاخبة بهديرِ المياه المندفعة اندفاعَ سيلٍ عرمرم من جبلٍ عالٍ، فتبعتُه حذرًا من الانزلاقِ على الأرضِ المنحدرة المبلّلة بالرذاذ المتطاير، وبقربِه جلستُ على صخرةٍ نابتة في قلبِ التّراب أرقبُه بقلبٍ واجفٍ، فما كانَ منه إلا أن خلعَ نعلَيه ثمَّ جوربَيه وبدأ يغتسلُ في المياه الباردة المُنعشة. تاقتْ نفسي إلى ملامسة المياه ولكأنّها تبغي ملامسةَ الماضي والحاضرَ وكلَّ أمجاد هذه الأرض الخالدة، فخلعتُ أنا أيضاً حذائي ثمَّ جوربيَّ وقرّبتُ قدمي اليُمنى برجفةٍ من النّهرِ المليء بالأسرار والألغاز، وما إن احتضن التيّارُ الهادرُ القدمَ حتّى شعرتُ بأنّ النّهرَ قطعةٌ من الثّلجِ تذوبُ شيئًا فشيئًا، كانت باردةً إلى حدٍّ رفعتُ فيها قدمي مرّات قبلَ إعادتها من جديد إلى المياه، وبدأتُ طقسَ الاغتسالِ بنشوةٍ لم أعهد لها مثيلاً من قبل. المفارقةُ جعلتني أغيبُ عن المكان بفكري وبصيرتي، فالشّمسُ من علا السّماء تكوي الأرضَ بلهيبِ أشعّتها، والنّهر من قاعِ هذه الأرض يبرّدُ ما احترقَ ويُنعشُ ما ذبل.

.

كانَ الغداءُ لذيذًا فلم يبقَ في الأطباق شيءٌ، واللذّةُ المجبولة بجوعِ السّفر أتت على الفتات الباقي، وكانَ شرابُنا من ماءِ النّهرِ إمعانًا منّا في اقتبالِ هبة الخالق كما خرجتْ من بين كفّيه! لم أنسَ قبلَ الرّحيل تصويرَ المكان، فإن خانت الذّاكرةُ يومًا ولم تسعف في الإبقاء على ذاك السّحر والجمال، فالصّورةُ أوفى عهدًا ولا خوفَ عليها من فواجع النسيان.

.

عُدنا أدراجَنا قبلَ أن تُسدلَ الشّمسُ السّتارَ وتفسحُ بغيابِها مكانًا لكوكبِ الليلِ المتلألئ وسط نسيج السّماء الأسود. وفي طريقِ العودة مررنا بمدينة العمّاديّة، وتجوّلنا فيها بسيّارتنا، وعندما وصلنا مكانًا فسيحًا فوجئ أبو بشّار بدبّابتين جديدتين وحاملة جنود يلمعُ حديدُها تحت ما تبقّى من نورِ النّهار، علمنا أنّها تعودُ إلى جيشِ الأتراك القادمين لمحاربة "البَكَكَة". وهكذا بدأت شمسُ يومِنا ذاك تنفخُ في البوقِ معلنةً انسحاب جيوش أنوارِها إلى ما وراء الجبال، وأعدنا عبورَ الطّريقِ مرّةً أخرى فمررنا ببحيرةٍ من صنعِ قائدِ العراق الرّاحل، واسترحنا قليلاً في بلدة "سواراتوكا" في مَقْصَفٍ يعود إلى العهدِ الذي سبقَ استقلال دولة العراق الحديث، ثُمَّ أكملنا الطّريقَ نحوَ الجنوب.

.

وصلنا دهوكَ في الثّامنة مساءً وقمنا بزيارةِ رجلٍ عجوز مُقعَد من عائلة النجّار يعرفه أبو بشّار منذ زمنٍ بعيد، وما إن رآنا حتّى أخذَ يبكي كطفلٍ رضيع. ومن تلك الزّيارة التي فطرت فؤادي توجّهنا إلى دارِ الأسقفيّة حيثُ قابَلَنا صاحبُ عرشِ الكاثدرا بابتسامةٍ وطيبةٍ لم أعتدْها من أحدٍ في مثلِ هذا المنصب. عُدنا إلى نزلنا حيثُ حضرَ العشاءُ فأكلتُ والتّعبُ يأكلُ من جسدي كلَّ موضع، والوسنُ يثقل جفنيَّ ورأسي. وعندَ منتصفِ الليلِ استلقيتُ على الفراش متدثّرًا بالعتمات ورحتُ في نومٍ عميقٍ أنهيتُ بهِ يوميَ الثّاني في أرضِ العراق.

ليست هناك تعليقات: