الجمعة، أبريل 29، 2011

بينَ الوطنِ والأمّ...

يتلفّظُ الصّغارُ في الشّرق أوّلَ لفظةٍ فينطقونَ باسمِ الأمِّ "أَمّا"، ويفتتحون مشوارَ لغتهم باسمها، وهم لا يدركون أنّهم يلفظون بلفظة "الأمّ" اسمَ الوطن "أمّة"! لا بل إنَّ لفظتهم الأولى هذه تسمُ لغتهم طوال حياتهم فيُقال عنها "اللغة الأمّ"...

في الثقافتين اليونانيّة واللاتينيّة الوطنُ ذكرٌ، واسمه منحوتٌ من الرّجل - الأب، فيدعونه وطنًا Patria، من Pater (أب). وذكوريّة الأوطان في تلك الثّقافات سادت مفاصل عوالمهم، وولدت الأنظمة البطريركيّة، وأصبح هذا النّظام يُطلق على كل تفصيلٍ ومفصل ولفظه مركّبٌ من لفظين يونانيّين: Pater وArkhi أي أبُ البدء! حتّى أنَّ الجمال في اليونان القديمة، والجنس عند الرّومان (بومباي)؛ تمثّلا في الرّجل (الذّكر)!

بيدَ أنّنا نحن الشرقيّين ألطف منهم بكثير، فوطننا لغةً هو "الأمّة"، وهي أمّ حنون اشتقّت من اسم الأمّ. وهو كذلك في اللغات الساميّة القديمة كالآراميّة فالوطنُ فيها "أومثا" (أمّة)، وفي لهجاتها "ماثا". وهذه الأمّة - الوطن هي التي تلدُ الأفرادَ من رحم واحدٍ يصلهم بها. وإذا كانت الأمّ تشرك أبناءَها بصلة الرحم الجسديّة، فالأمّة - الوطن تشركهم بصلة الرّحم الروحيّة والمعنويّة، بصلة العيش المشترك والغاية المشتركة وبكلّ ما يجمعهم بها من أرضٍ ولغةٍ وتاريخ...

الوطنُ في حقيقته ليسَ من وطنَ واستوطنَ فهو ليسَ مسكنًا تقيم فيه وترحل إلى غيره متى شئت، ولا يجمعك به غير الإقامة! بل هو أمّتك - أمّك، والأمّ لا تُفارَق ولا تنقطع الصّلة بها ما دامت الحياة. تحملك أمّك تسعة أشهر في رحمِ حشاها وتربطك إليها بحبلٍ يغذّيك ويدفع فيك الأنفاسَ وينمّيك ما دمتَ إليها مشدودًا به، وإن فارقتها خارجًا من رحمها تتبعك في أولى سنيك وتحرص عليك حتى اللحظة الأخيرة. وهكذا أمّتك - وطنك تحملك في أرضها ومنها تغذّيك وتدفع في رئتيك أنفاسها وعبيرها، وتشدّك إليها بكلّ جزءٍ فيك من شكلٍ ولونٍ ولغةٍ وتفكير... أنت مربوطٌ إليها في ذاتك وتكوينك وتفصيلك... وإن كنتَ تفارق رحمَ أمّك بعد تسعة أشهر لتخرج إلى النّور، فإنّك لا تستطيع أن تفارقَ رحمَ أمّتك - وطنك حتّى في موتك فإن كنتَ خرجتَ إلى أرضها ففي موتك تُدفن في الأرض ذاتها. وعدم قدرتك على مفارقتها ليس غصبًا أو قسرًا أو غير ذلك، هو لأنّك صرتَ جزءًا منها، لا بل أصبحت في ذاتك صورةً صغيرةً عنها، وأينما حللتَ وارتحلتَ فهي فيك. ولهذا فإنّ ابتعادَك عن أمّك - أمّتك يؤجّج عواطفك ويشعل حنينك ويشعرك وكأنَّ المشيمة التي تجمعك بها تراخت أو انقطعت ولا بُدَّ لك من لحمةٍ وتواصل يشبعان فيك هذا الانتماء.

كلُّ فردٍ مولودٍ من رحمِ هذه الأمّة - الوطن هو ابنٌ لها، وجميع مواليدها أخوة له وأخوات، فإن حاولَ هذا الفرد أن يفصلَ بين "الوطن" و"الأمّة" بحجّة أرحام مختلفة كالدّين أو المذهب أو الفكر أو العقيدة، أصبح قايينَ آخرَ (قابيلَ) لا همَّ له سوى قتل أخيه والطّواف في الأرض ضياعًا وتشرّدًا وهربًا من وجه أمّه - أمّته الوطن!

هناك 3 تعليقات:

ضياء يقول...

فاتتني قراءة هذه قبل الآن..
أسجل إعجابي الصريح بما جاء فيها، رسالتك قوية ومحكمة البناء، والإرجاع إلى الأصل اللغوي يحمل في طياته دوماً مفاجآت لطالما استند إليها الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والتاريخ و و و

هل تعلم أن جدتي رحمها الله كانت تدعى "ميثا" وهو ما يمكن أن يرد إلى كلمة "ماثا".

طابت يداك، وطاب يومك

سيمون جرجي يقول...

عزيزي ضياء

وصلَ تعليقُك بعد جدبٍ وقحطٍ وأيّامٍ عجاف حملتني مرّاتٍ عدّة على التفكير في أسبابِ وجود هذه المدوّنة على قيدِ الحياة! ولم أنتهِ منه بعد!

لستُ أملك في الحقيقة أدوات الكتابة كاملةً، ولهذا فلن تجدني راضيًا عن نفسي وعن قلمي، ففقري المعرفيّ وضعفي الثّقافيّ وسذاجة وهشاشة قلمي تمارس كلّ يومٍ هوايتها في فكري وعقلي، فتشدّهما إلى عمود الواقع وتروح تجلدهما بسوطٍ مجدولٍ من طموحٍ أرقى!

يومًا بعد يوم أجدني لا أستحقّ الاستمرار، وأجد أنّ اليوم الذي أكسر فيه قلمي قد اقترب!

جميلٌ اسمُ جدّتك، وإذا كان من الساميّة فهو أقرب إلى جذر "الموت" منه إلى "الأمّة". وفيه يعني "المائتة". ولكنّي أعتقد أنّه يونانيّ الأصل ومن اليونانيّة دخل اللاتينيّة وبصورته هذه تجده في اللغات اللاتينيّة الحديثة بمعنى "أسطورة".

أهلاً بكَ يا صديقي الذي أحبّه يومًا بعد يوم...

ضياء يقول...

سيمون،
قلمك ينبض انسانية معافاة يحسدك عليها كثيرون..
قلة رضاك عما كتبت يعكس عطشك للأفضل، ويعلي من شأن ما تكتبه الآن...

أرى أنه لن تكسر قلمك إلا لتبريه

بوركت مدداً
وإلى الأمــــــــــــام.

تحية ود