الاثنين، أكتوبر 15، 2012

صورٌ من السّويد

في بلادِ البردِ والجليدِ والغرباء، والوجوه البيضاء ذوات الشّعور الشّقراء، في القطارات ومترو الأنفاق والحافلات، في مدينةٍ تبتلعُ الأنفاسَ والبشر؛ عشتُ أشهرًا ستّة متنقّلًا من مكانٍ إلى آخر بلا عملٍ ولا بطاقة إقامة... جسلتُ ذاتَ يومٍ في القطار وإلى جانبي عجوز أسّوجيّة تحوكُ الصّوفَ تصنعُ جوربين لحفيدها الصّغير يقيانه قسوة الشّتاء وبرده.

أمامي جلستْ تلكَ الحسناء الشّقراء التي التقيتُ بها ذاتَ يومٍ في رحلة القطار عينها، التقاءً عابرًا خفيفًا كالظلِّ رقيقًا كالنّسيم. جميلةٌ هي الحسناءُ الصّغيرة، وأجملُ ما فيها كلُّ ما فيها، لا تلتفتُ، بل تُمعن في التّحديق بوجهِ محدّثتها ضاحكةً غاويةً كلَّ رجلٍ قريب، فأمّا فرحها فيجلجل القطارَ على جلجلته فوق قضيبي السكّة الحديد. عيناها الواسعتان كغابتين أسّوجيّتين تذيبان الحديد فما بالك برجلٍ مقهورٍ من لحمٍ ودم! قطعةٌ من طبيعة السّويد جلست قبالتي، وتلك العجوز تمضي في حياكة الجوربين لحفيد أشقر بحكم العنصر!

كنتُ أحيا في بلاديَ الجميلة القريبة إلى فؤادي كلَّ قربٍ يُرتجى، كنتُ أعرفُ بلاديَ وأهلَها وكلَّ ما فيها من ترابٍ وشجرٍ وحجر، واليومَ أسوحُ غريبًا حزينًا أتسوّل وثائق الإقامة، وثائقَ انتماءٍ إلى بلدٍ غريبٍ باردٍ قاسٍ!

كيفَ تستطيعُ هذه العجوز أن تداوم الحياكة دونَ كللٍ أو مللٍ أو التفاتةٍ لصوتٍ أو حديث؟! عقدةً عقدة، وقضيبا الحياكة الرّفيعان يرصفان خيوط الصّوف الحمراء والصّفراء لتخرجَ من صنعِ يديها ومهارتها قطعةً ملوّنةً جميلة التّفاصيل، بثباتٍ ورصانة تجدُّ في صناعتها، وبهدوءٍ تامٍّ تواصل الحياكة.

هذه البلاد المعتمة مليئةٌ بالفتيات، وأكثرهنّ جميلات شهيّات كثمار الصّيف عندَ أوان القطاف، ينقصهنّ التذوّق. لا أجملَ وأشهى من المرأة في هذا الكون الفسيح الواسع بلا لحظةِ أزلٍ أو رفّة أبد. ولربّما جارت الطّبيعةُ على الرّجلِ فطرةً إذ ثبّتت فيه هذه الغريزة تجاه كلِّ امرأةٍ دون أن تلقي بالًا للأخلاق النّامية بارتقاء الإنسان!

قضمتْ الفتاةُ الحسناء أمامي قضمةً صغيرةً على وسع ثغرها من تفّاحةٍ أخرجتها من الحقيبة، فابتسمتُ متذكّرًا حوّاء! قضمةٌ واحدة أودت بفردوسنا الموعود وأحالته أرضًا من عرقِ الجبين والأتعاب، ومخاضًا أليمًا به تلد المرأة بنيها وبناتها. كم كنتَ قاسيًا يا إله الأديان، أين رحمتك وغفرانك؟! أتستحقُّ قضمةٌ صغيرةٌ من امرأةٍ عاريةٍ حسناء كلّ هذا العقاب والغضب؟! صارت التفّاحةُ الشهيّة رمزًا لعبوديّتنا! وصارت أيضًا رمزًا لغضبِ الإله اللارحمة!

حين تكتب لا تقبض على الأفكار بل لامسها بلطفٍ كما تلامس خدَّ طفلٍ صغير، أنتَ لا تعلمُ عنها الكثير حتّى تلج فكرَك ثُمَّ تجسّدها يدُك على الصّفحة، ومع ذلك فإنّك لا تستطيع أن تدركها إدراكًا تامًّا، فكلُّ ما في الحياة ضعيفٌ وناقصٌ لا يكتمل إلا بلملمة الأجزاء الخارجة عنك! الكتابةُ محيطٌ خاصٌّ يخرجك عن الواقع الذي يلمّك، تسمع فيه جميعَ الأصوات، جميعها، حتّى صوت المسلّتين الحديديّتين الرّفيعتين لعجوز تحوك جورب الحفيد. لكنّك برغمِ كلِّ الأصوات والأحاديث والبشر والصّور لستَ توجد إلا فيك.

الفتاةُ أكلت التفّاحة كاملةً ولم تبقِ على سوى العود الصّغير تداعبه بين أسنانها البيضاء، الفتاةُ شعراءُ السّاقين، حتّى أنَّ الشّعر نابتٌ على ركبتيها، ولكأنّها بلقيس الفاتنة حين صوّرها الجنُّ لسليمان بشعرِ ساقين كشعرِ الماعز!

الرّياحُ قويّةٌ في الخارج والسّحبُ كعادتها تملأ السّماء لتجعل من السّويد حقًّا بلاد البرد والعتمات.

عن الحوار المتمدّن.

ليست هناك تعليقات: