الأحد، فبراير 01، 2009

خمسة أيّام في العراق تحت الحرب (2/1)

الأحد 13 حزيران 2004 (اليومُ الثّاني)
.
ومثلما اعتادَ أصحابُ الأديارِ، كانت الصّلاةُ في السّابعة صباحاً، لكنّي وبسبب تعب البارحة وكثرة التجوال والتأمّل دخلتُ عليهم متأخّراً أكثر من عشرِ دقائق! وكنتُ أقولُ في سرّي سأدخلُ متمهّلاً بخفيةٍ وأمكثُ في الخلف... لكنّ الرّئيس كانَ أحذقَ منّي فقد أخّرَ سكّان الدّير بانتظارِ الزّائر النّائم، وحالما دخلتُ دعاني أمامَ الجميع إلى مساعدته في الصّلاة، يا إلهي! صرتُ كتلةً محمرّةً ورغبتُ في داخلي أن ألبسَ عباءة الخفاء، لا بل رغبتُ أن تبتلعني الأرضُ وتهضمني وتُخرجني في الخلاء. لكنّ المحالَ محالٌ ولم أستطع أن أنبس ببنت شفة، أحضروا لي ثوباً أبيضَ قصيراً قديماً أحالني إلى قطعةٍ من عالم الآثار والقرون البائدة، وجعلَ منّي حجراً من حجارةِ هذا الدّير النائم على هضبةٍ دون أن يستفيق. بدأَ صلاتَه بألحانٍ شجيّة ومقامات تطربُ لها الأذهانُ قبلَ الأسماع، وراحَ يلعبُ بصوته ومقطوعاته الروحيّة متنقّلاً بين المقامات الشرقيّة مركّزاً على البيات، فيجيبُه شمّاسُه، وأنا بينهما مثلَ أطرشٍ في زفّةٍ صباحيّة!
.
انتهت الصّلاةُ وحمدتُ الله على ذلك آلافَ المرّات، ومكثتُ للحظاتٍ أسألُ النّفسَ عن هذا الطّريق الذي قادني يوماً إلى اجتماعِ مثل هذا في دير الشّهيد بهنام! بعدَ عدّة دقائق كانَ الفطورُ مُعدَّاً مؤلّفاً من جبنة بيضاء مالحة، وزيتون أخضر وأسود، ومرتديلا، وشاي ثقيل. أن تأكلَ على صوتِ الأشجار والعصافير في بستان صغيرٍ، فهذا يُطعمك غذاءً روحياً لا يعبأ بأغذية الجسد. لم أردْ أن ينتهي احتفالُ الطّعام، لكنّ كلمة الرّئيس عن مكتبة المخطوطات الثّمينة عجّلتْ في ذلك! أعادنا من جديد حيث مكتبة البيع وأهداني صوراً وكتباً، ومن هناك سرْنا إلى ركنٍ بعيدٍ مهمل في صدرِه اضطجعَ أكثرُ من أربعمئة مخطوطٍ عربيٍّ وسريانيّ مرميّة على رفوفٍ حديديّة صدئة، مما فطرَ قلبي فأفلت لساني من لجامه وانطلقَ معنّفاً الرّئيسَ دونَ أن أتنبّه إلى لهجتي القاسية. اعتذرتُ منه على عجلٍ وقلتُ له إنَّ مثل هذه الثّروة الأدبيّة يليق بها مكانٌ مناسبٌ لحفظها، وألقيتُ على مسمعه دروساً في حفظِ المخطوطات تعلّمتها عبر دراسةٍ نظريّة وعمليّة لأكثر من خمس سنوات. وفي أحد الأطراف انثنى مخطوطٌ صغير بدون غلاف، حتّى مالَ نصفُه بزاويةٍ حادّة وكادَ أن ينشطرَ نصفين، سحبتُه من موضعه ووضعته منبسطاً في مكانٍ قريب، وعيناي لا تصدّقان ما تريا. وودتُ لو أمكث في هذا المكان أيّاماً أرتّب ما عبثتْ به أيادي الجهل والأميّة الحمقاء وقلّة الحيلة بدون رقيب، لكنّنا كنّا بأمسّ الحاجة إلى هذه الدّقائق للوصول إلى بغداد في الوقت المناسب. وفي ساحةِ الدّير خارجاً وقفنا أمامَ البوّابة الضّخمة والتقطنا بضع صورٍ ثمَّ ودعناهم شاكرين وغادرنا على بركةِ الله.
.
دخلنا الموصلَ من جديد في حوالي التّاسعة والنّصف، وفي أثناءِ المرور شاهدنا كنيسةَ النبيّ يونان التي حُوّلت في عهود العبوديّة والذمّية اللاعادلة إلى جامع النبيّ يونس، قبّتها منشأَة على الطّراز الأرمنيّ ذي الشّكل الهندسيّ الجميل، ومئذنتُها لا تحمل من عناصر الفنون إلا الإسلاميّة. عبرناها وانحرفنا إلى الشّرق باتّجاه دهوك.
.
تركنا الشّمسَ وراءَنا إلى اليمين وأخذنا طريقَ الشّمال، وعندَ إحدى السّاحات تقدّمت ثلاثُ سَيّارات من نوع الهَمَر الأميركيّ تحملُ المارينز، وفي أعلى السيّارة المتوسّطة برزتْ فتاةٌ شقراء تحملُ مدفعاً رشّاشاً مصوّباً نحوَ الأمام وشعرها الطّويلُ يندفعُ من تحت خوذتها متطايراً مع الهواء! اصطفّتْ آثارُ النينويّين إلى اليمين، وبرجٌ عملاقٌ توسّط الطّريقَ. وأمامنا ارتفعَ قصرُ صدّامَ المليء بالعلوج على حدّ تعبير الصحّاف وزير الإعلام العراقيّ السّابق، خلفه مباشرةً كانَ فندقُ أبروي نينوى، وفي غمرة هذه المشاهد والتّصاوير دخلنا الكورنيش وعبرنا فوق دجلة العريض وشمسُ الظّهيرة تعلو في السّماء دون انتظار.
.
في شمال المدينة الحدباء أوقفنا عربتنا أمام محلٍّ لإصلاح العجلات، وأنزلَ أبو بشّار العجلة التي وجدناها صباحاً فارغة من الهواء "على الجنط"! لم يطل الأمرُ كثيراً فامتطينا مركبتنا وحثثنا السّيرَ نحوَ الشّمال الكرديّ جنّة العراق على حدّ قولِ العراقيّين. بلغَ شهرُ حزيران منتصفه وما زالَ الحصّادون يحصدونَ القمحَ المُصفرَّ تحت وقع الشّمس الرّتيب، وأمامَ أبصارِنا بدتْ سلسلة جبالٍ كأنّها خيال ضباب جاثم على الأرض. وإحدى لافتات الطّريق قالتْ: زاخو 80 كم، دهوك 42 كم، سدّ الموصل 17 كم وهذا بلغناه والسّاعة تعلنُ العاشرة والنّصف. كانَ هذا السدُّ يُسمّى سدّ صدّام وهو ضخمٌ ورائع كبحرٍ صغيرٍ على سطحه تغفو سماء زرقاء بين جبال جرداء تُذكّر بسكينة الخالق ونسّاك وزهّاد كانوا يملأون هذه الأرضَ يوماً وينثرون بوجودهم عبقَ طيبِ القداسة ويُظهرون جمالَ اللهِ وكمالِه بين البشر.
.
بعدَ عشر دقائق دخلنا ناحية فايدة وهي إحدى النواحي التي قامتْ على ما يبدو حديثاً بجانب صوامع الحبوب. وعلى تلٍّ بعيد انتصبتْ واحدةٌ من قلاع الديكتاتور الرّاحل. وهكذا أوقفنا كلَّ شيءٍ في العاشرة وخمسين دقيقة عندما بلغنا حدودَ كردستان. ولأنَّ سيّارتنا تحملُ لوحةً مكتوب عليها "بغداد" فقد أنهكنا العسكريُّ الكرديُّ بتفتيشه وتقليبه حاجاتنا. وعلى الحاجز الثاني اقتربُ عسكريٌّ آخر مدجّجٌ بالأسلحة وقالَ بالكرديّة: ﭼاوايِه... باش؟! أي كيفَ الحال... أبخير؟! وعندما اقتربَ أكثر ورأى الصّليبَ معلّقاً في السيّارة، ابتسمَ وقالَ بالسّورث وهي اللهجة الآراميّة المنتشرة في العراق: ܣܽܘܪܰܝܰܐ... ܒܫܶܝܢܐ ܐܚܽܘܢܺܝ: سورايا... بْشِينا خوني، أي: مسيحيّ... بالسّلامة (أهلاً) يا أخي. كانَ آشوريّاً من حزب ܙܰܘܥܐ "زَوْعا". تغيّرَ كلُّ شيء فاكتست الطبيعةُ بالأخضر واعتدلَ الهواءُ وانتعشَ ببرودة الجبال القريبة التي صرنا عندَ أقدامها، وأمامَنا انبسطتْ مدينةُ دهوك مرحّبةً بكلمة الآثوريّ الآراميّة.
.
حملتني الجبالُ واخضرارُها ورطوبة نسائمها إلى لبنان الذي قضيتُ فيه سنوات دراستي الست... وتذكّرتُ فيه كلَّ جميل وذكرى ختمتْ نفسي بختم تلك البلاد الرّائعة المتعبة بسبب قلاقل أبنائها! فتحتْ دهوكُ ذراعيها تستقبلنا كأمٍّ سريانيّة تقتبلُ بنيها بعدَ غيابٍ طويل وتحدّثهم عن ماضيها الحافل بكلّ اغتصابٍ وانتهاك، تخبرهم عن لغتها وأرضها وكلّ قطعةٍ من جسدها وطئها الأغرابُ فأحالوها إلى رمادٍ لا جمرَ تحته!!! امتلأت الأجواءُ بالرّوائح الكرديّة حتّى لافتات الطّريق المكتوبة باللغة الكرديّة كانت تلحّ في إيقاظنا لتكشفَ عن عيونِنا البراقع التي حجبتْ عنها رؤية دولة كردستان الجديدة.

ليست هناك تعليقات: