الأربعاء، فبراير 04، 2009

الغابة!

في قديمِ الزّمانِ وسالفِ العصرِ والأوانِ كانَ أسدٌ عجوزٌ يحكمُ في غابةٍ قريبة، وكانَ قد سلّمَ وكالةَ مملكته إلى ثعلبٍ ذكيٍّ ماكرٍ استطاعَ أن يثبتَ للجميع أنّه قادرٌ على الحكمِ بدهاءٍ وأن يسوسَ سكّانَ المملكةِ بفطنةٍ لا تخلو من المكر والتصنّع! واستطاعَ بنفوذِه أن يقرّبَ من بلاطِ الملكِ أتاناً (أنثى الحمار) مسنّةً حاقدة على تناغمِ سكّان الغابةِ وصفائهم تُدعى "نهيق"، وكلباً غدّاراً نبّاحاً ينبحُ في وجه الجميعِ ويعضّ الجميعَ بدون رادعٍ أو حساب يُدعى "عواء"، وخفاشاً قبيحاً سيّءَ الطلعةِ والطالع يعتاشُ من دماءِ الآخرين ويتبوّل فوقَ النّعَم يُدعى "ليل".
.
وما لبثَ الثّعلبُ بعونِ صحبِه الأوغاد ومشورتهم الفاسدة أن استكبرَ واستنكرَ وطغى وبغى، فامتلأ ديوانُ القضاءِ بالدعاوى، لكنّه كانَ محشياً أيضاً بالرّشاوى! وهكذا مرّتِ الأيّامُ والغابةُ تحيا في ظلِّ نهيق وعواء وليل، حتّى أتى ذلك اليوم الذي بزغَ فيه الفجرُ عن شبلٍ استطاعَ بمكانته وحظوة بني جنسِه أن يقتحمَ البلاطَ ويلجَ مخدعَ الأسد العليل، ويقصَّ عليه كلَّ ما كانَ...
.
هرولَ الأسدُ لهولِ ما سمعَ وزمجرَ في وسطِ البلاط فخافَ الثعلبُ على نفسِه وآثرَ الهربَ والاختباء في وكرٍ بعيدٍ بناه يوماً عند سفحِ الجبل.غادرَ الشبلُ بعدَ مشورته وعاد إلى عرينِه في دغلٍ كثيف. وفي اليوم التالي دعا ملكُ الغاب صحبَه وعبيدَه ليعطيَ أحداً منهم الوكالةَ الجديدة على سائرِ المملكةِ!
.
قالت الكلابُ: يدعوننا خيرَ الأمناء وأفضل الأصحابِ، ليس لأحدٍ آخر مثل إخلاصِنا وأمانتنا فنسألُ جلالتكم أن يكونَ الوكيلُ "عواء". ارتفعَ الضّأضاءُ وهبّت الحيوانات بين معترضٍ ومؤيّدٍ إلا أنَّ الأسدَ أسكتهم بزئيرِه وقال:
لا تأسفنَّ على غدرِ الزّمانِ لطالما ..... رقصـتْ على جثثِ الأسودِ كلابُ
لا تحسبنّها برقصِها تعلو أسيادها ..... تبقى الأسودُ أسوداً وكلاباً الكلابُ
فلوتْ الكلابُ أذنابها ونبحت نباحاً منخفضاً منقطعاً وانسحبت!
.
فتقدّمَ حمارٌ عجوزٌ ذو لحيةٍ بيضاءَ وقال: تشتهرُ الحميرُ بالصّبرِ والتّعبِ والخدمة من الصّباح حتى المساء دون أيّ مقابل، ولا أحسبُ أحداً أصبرَ منا على مآسي الدّهرِ وأتعابه، ولهذا فقد أجمعنا نحنُ معشر الحمير على ترشيح "نهيق" لكرسيّ الوكالة.
فعادَ الصّخبُ وارتفعت الأصواتُ بالرّفضِ والغضبِ، فضربَ الأسدُ الأرضَ بيده وزأرَ وقال:
يهمهمُ للشّعيرِ إذا رآهُ ..... ويعبسُ إن رأى وجهَ الكتابِ
فارتدعتِ الحميرُ وعادتْ من حيث أتتْ!
.
فقامَ خفّاشٌ أسودُ من بعيدٍ وقال: نحنُ أسيادُ الليلِ وسمعنا لا يُجارى، فأين لأحدٍ أن يفوقنا في هذا، نقدّم رئيسَنا "ليل" فهو الأنسبُ لهذا المكان. ولم ينهِ كلمتَه حتّى عاجلهُ الأسدُ وقال:
سكتتْ بلابلةُ الزّمانِ ..... وأصبحَ الخفّاشُ ناطقا
فطارت الخفافيشُ إلى كهوفِها ولم تعدْ منذ ذلك الحين.
.
أجالَ الأسدُ ناظريه في المكانِ وقال: من كانَ على شاكلةِ نهيق وعواء وليل فليفرّ من قبضتي قبلَ أن أمزّقه إرباً إربا! فتراجعَ الذئبُ والخنزيرُ والضبعُ وغادروا المجلس. وبقيتْ المملكةُ زمناً دونَ وكيل تنتظرُ السّماءَ علّها ترسلُ غيثاً يسقي تربتها الطيّبة فتزهرَ من جديد.
وتوتة توتة خلّصت الحتّوتة .

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

يا جبل ما يهزّك ريح..
ما تقلق من كتر التجريح..
لأنّك أسد وما بيخوفك فحيح..
وما تنسى، باللآخر ما بيصح غير الصحيح..

سيمون جرجي يقول...

عزيزي جرجي
أنتَ معي هنا تقتاتُ مثلي من اختبارات الحياة، وما أكثرها! كلُّ يومٍ يمضي يحملُ إلينا في جعبتِه شيئاً جديداً، لنقتبله منه بروحِ العقلِ أخيراً كانَ أم شرّاً!
تحيّتي لمرورِِ نحلتك بين أزهاري.