الأحد، نوفمبر 02، 2008

رسالتان... وفاتورة كهرباء!

في شهر أيلولَ الفائت حللتُ منزلَ صديقي ضيفاً، ومنزلُه يقعُ في "حيّ الأرمن" في مدينة حمص السوريّة. كانَ عامٌ قد مضى على آخر لقاءٍ لنا! عرفتُه يومَ التقينا في الجامعة في لبنانَ ودامتْ صحبتُنا حتّى اليوم. كانَ مسروراً جداً لهذا اللقاء وتحدّثنا في أمورٍ شتّى وقصَّ عليّ رواية حبّه الجديد وحلمه في توطيد العلاقة لبناء مستقبلٍ زوجيّ قريب. تسامرنا طوالَ المساء ندخّنُ ونشربُ المتّة "عصير" أهل حمص المُفضَّل.
.
في اليوم التّالي خرج إلى عملِه وذهبتُ أنا إلى سوق الجمعة! مررتُ بالسّوق الملقى على جانبي الطريق طولاً وعرضاً ووقفتُ أمام "بسطةٍ" طويلةٍ لبيع الكتب والمجلات وأشياءَ أخرى كثيرة، وأمام تلّة من "مجلّة العربي" الكويتيّة وضعتُ ركبةً على الأرض وأخرى تسندُ ذراعي الأيسر ورحتُ أقلّبُ في أوراقِ أعدادها التي تعود إلى الستّينات من القرن المنصرم.
.
في أحد الأعداد عثرتُ على رسالتين إحداهما خطّية والأخرى مكتوبة على الآلة الكاتبة وفي آخرها ملاحظة بخطّ اليد. كما وجدتُ بينهما فاتورة عتيقة من فواتير الكهرباء.
.
هاتان الرّسالتان موجّهتان إلى رجلٍ واحد، ليس فيهما من الثّمين ما يُذكر، وبرغم ذلك شئتُ أن أنقلهما إليكم، لطرافتهما، وذكرى لأولئك الذين تبادلوهما يوماً!
.
ملاحظة: عدّلتُ قليلاً في إملاء ونحو اللغة دون المسّ بالكلمة أو النصّ، كما أضفتُ طائفةً من علامات التّرقيم لإيضاح المعنى كما ورد.
.
الرّسالة الأولى (على الآلة الكاتبة):
"الأخ العزيز السيّد عبد الباسط المحترمتحيّة صادقة، ويكفيها أنّها صادقة. تحيّة شوق، وجمّها أنّها تحيّة شوق. لو تدري معنى الشّوق، لكنتَ غير الذي أنت عليه الآن، ترغبُ لنفسِك، وتدورُ حولَ ذاتِك، ولا ترى إلا بعينِكَ. أتمنّى لكَ أن تسيرَ الأمورُ على وتيرةٍ واحدة، حتّى لا تُفاجأ بغير الذي ترغبُ به، ولكي لا تلفّ ذاتَك حول محاورٍ أخرى لا ترضى عنها، ولكي لا ترى بعيونٍ غير العيون التي ترضى عنها. لكنْ يا صاحبي، الذي أؤمن به غير الذي أتمنّاه لك. هناك رغبات شتّى ومئات من المحاور، كل واحد في اتّجاه معيّن، وألف عين، كلّ واحدة تنظرُ لزاوية خاصّة بها. يجب أن لا نعيشَ لأنفسِنا، ولا تسألني لماذا! فالحياة تسع الجميع، الحياة تمنحنا الكثير، وعلينا أن نردَّ جميلَ الحياةِ. الحياةُ تجمعُ من عطاءات الأفرادِ، وتكون الحياض الفيّاضة، وتوزّعها ترعاً، كلّ واحدٍ يرتوي من ترعة. فإن نحنُ لم نزوّد الحياضَ، ستجفّ يوماً! لا تسألني عن السّبب، أنت تعلم يا أخي عبد الباسط.
عندما تحضرُ والدتي لطرفِك أرجو أن تُسلّمها مبلغ 25 خمسة وعشرين ليرة سوريّة فقط لا غير.
أرجو أن تبلّغ سلامي لجميع من يسأل عنّي بطرفكم. وأخصّ بالذّكر الأخَ السيّد "أبو المجد"، أرجو أن تبلّغه أنّني أبداً لا ولن أدسَّ السّم في الدّسم، لأنَّ هذا يتنافى مع خلقي. وسلامي إلى الإخوة رفيق ورشيد والسيّد صبحي الرّفاعي والأخ طاهر، أتمنّى له التوفيقَ، ولباقي الأصحاب جميعاً ألف تحيّة عطرة.
واسلمْ لأخيك صالح
[الملاحظة التالية مكتوبة بخطّ اليد]: أخي عبد الباسط، لا أريدُ أن ألفت انتباهَك لموضوع دراسة أهليّة التعليم، ففيها ترك مؤقّت للدراسة الجامعيّة. ثمَّ أنتَ الذي رغبتَ بذلك. أرجو دائماً أن تصلني كافّة المعلومات بما يختصّ بالدّراسة ومواعيد الفحص، لأنّني هنا عامل استعصاء ضمن المؤسّسة.
أصبح لدينا هاتف برقم 27054. خبّرنا في الأمور المستعجلة.
.
الرّسالة الثّانية (مكتوبة باليد):
"دمشقَ في 3- 11- 1965
أخي العزيز عبد الباسط المحترمتحيّة عطرة وسلامات حارّة وبعد
لقد ظهرتْ نتائجُ الامتحانات البارحة، ولكن يا للأسف العميق، لم أستطع قراءة اسمَكم ولا في أيّة مادّة سوى الإنكليزي. وكلّي أمل أن يكونَ نصيبُكم في المرّة القادمة أحسن وأفضل من ذلك.
إذا كانَ من الممكن أن تُكلّفَ السيّد رشيد بأن يحصلَ لي على كتاب يُشعر بأنّي كنتُ [كلمة غير مفهومة] مع البلديّة من التاريخ الفلانيّ إلى التاريخ الفلانيّ، أو يحصل على صورة مصدَّقة عن العقد وذلك لتقديمها إلى نقابة المهندسين بدمشق، حتّى يُسمحَ لي بمزاولة المهنة، وذلك بعدَ أن تمَّ تأميلُنا.
لقد طلبتُ في هذا اليوم إجازة أسبوع تبتدئ من [كلمة غير مفهومة]، ولكنْ على الأغلب سوفَ لن أحصلَ عليها! آملُ أن آخذَها في الأسبوع المُقبل إن شاءَ اللهُ!
أرجو أن تبلّغ سلاماتي إلى جميعِ الأصدقاء، ودمتم سالمين.
المخلص[توقيع يبتدئ بحرف العين].
.
تنتهي الرّسالتان وبالاطّلاع على فاتورة الكهرباء نقرأ الاسمَ "عبد الباسط السـ اج". رقمُه المتسلسل في المؤسّسة العامّة لكهرباء سوريّة (مديريّة المنطقة الوسطى) "8045". ومجموع ما صرفه في شهر كانون الأوّل لعام 1971 يبلغ "6,97" ليرة سوريّة.
.
نسيتُ أن أقول إنَّ صاحبَ "البسطة" طلبَ ثمناً للنسخة الواحدة خمس عشرة ليرة سوريّة، وبعد "بازارٍ" طويلٍ عريض (بس للحركشة والنكوشة) باعني النسخة بعشر ليرات! العمى شو غليان سوق الجمعة.
.
حملتُ ما استطعتُ حملَه من الأعداد وحاولتُ أن أجمعَ منها الأقدم، وسألتُه أن يعطيَني كيساً، إلا أنّه اعتذرَ فنفحتُ صبيّه عشر ليرات فذهبَ يبحثُ لي عن كيسٍ بين الخرائب! عادَ بعدَ قليل وفي يده كيسٌ أزرق مهترئ على شاكلة جيبي. قلتُ في نفسي "لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله" ووضعتُ كنوزي فيه وحاولتُ حملَه إلى أقرب سيّارة أجرة حملتني إلى المنزل، ومكثتُ طوالَ ذاك اليوم موضوعَ سخريةٍ من صديق الدّراسة!!!

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

اعترف لك ان مقالتك هذه قد اعتبرها من المقالات المميزة في هذا الموقع (سيريانيوز) والتي تندر بوجود قصائد الحب والهجر والشوق المملة (كل كاتب يعتقد ان الادب قد تمثل فيه) لكن ما كتبته انت هو الادب بحد ذاته رغم ان البعض قد يعتبره مجرد خاطرة او اقتباس من مذكرات يومية شكرا لك ولو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء واشتريت كل الاعداد مارأيك لو تبحث عن هذا الشخص او عائلته لتوصل له هذه الرسالة الاثرية!! مجرد اقتراح.

سيمون جرجي يقول...

عزيزي لؤي
تحيّة وبعد...
شكراً للطفِك ورقّة كلماتك وتشجيعك. في الحقيقة ما حرمني من شراء جميع النسخ التي عثرتُ عليها هو عدم وجود أيّة واسطة تساعدني على حملها، حتّى الكيس الذي استعلمتُه كانَ ممزّقاً. لستُ الآنَ في سورية وأعدك بأنّي سأحاول ما بوسعي العثور على صاحب الرّسالتين عن طريق الأصدقاء، وحتّى ذلك الحين أتركُ لك سلامي وشكري من جديد.