الاثنين، نوفمبر 10، 2008

في جنوب بلاد الغال!

الجُمعة 29 آب 2003 (على الطّريق بين فرنسا وألمانيا)
.
كانَ ذلكَ منذُ شهرٍ تقريباً، فالزّمن لا ينتظرُ أحداً، أمضى أيّامَه مسرعةً تلقي مخلّفاتها في حاويات الماضي والذّاكرة... غادرتُ بلدتي الحبيبة صباحَ الأربعاء في الثلاثين من الشّهرِ الماضي تمّوز لتناول الغداءَ في حلب والاستعداد للرّحيل. وعندَ المساء حملتني سيّارةُ الأجرة لتضعني بعدّتي وعتادي في المطار ومنه حلّقنا في التاسعةِ باتّجاه مطار دمشق الدّولي. مكثتُ في الترانزيت ولسوءِ حظّي أكثر من أربعِ ساعاتٍ لتنطلق بي طائرةٌ أخرى في الثّالثة من صباح اليوم التّالي. ولظروفٍ يعلمُها اللهُ وإدارة الشّركة السوريّة للطيران، تغيّر اتّجاهُ الرّحلة في الجوّ، كما يحدثُ في أفلام هوليوود؛ فعدّلتْ مسارَها باتّجاه العاصمة الإسبانيّة مدريد بدلاً من الهبوط في مرسيليا الواقعة في جنوب فرنسا. مكثنا هناك أكثر من ساعةٍ بقليل بعد أن هبطنا في الثّامنة صباحاً، وحصلتْ الطّائرة على كفايتها من الوقود لتحلّق بنا نحو المدينة المنشودة! تمَّ كلُّ شيء في غضون ساعتين، فحملتُ المتاعَ وخرجتُ لأجدَ دومينيك والدة صديقي بانتظاري يرافقُها كارلوس الأرجنتينيّ وآخر لا أعرفُ عنه شيئاً. خلال الطّريق، وبرغم التّعبِ الذي ملأني حتّى الثّمالة، زرنا مدينة مريمات البحرِ القدّيسات Les Saintes Maris de la mer.
.

.

ويروي التقليدُ الفرنسيُّ أنَّ مريمَ المجدليّة تلك المرأة التي أخرجَ منها يسوع سبعة شياطين (كنايةً عن الخطايا) ومريم أخت ألعازر وصلتا هذا المكان البحريّ قادمتين من أورشليم (فلسطين)، وهنا أُقيمت كنيسةٌ تذكاراً لهما، فيها أطلقنا الصّلوات، ودفعنا أرجلَنا تجولُ في أزقّة وساحات هذه المدينة الغارقة في جمالٍ فريد.

.

انتهى هذا اليوم المتعب عندما وضعتُ رأسي على المخدَّة في الخامسة عصراً وغبتُ في نومٍ عميق. كانَ الظّلامُ يعمُّ المكانَ عندما استيقظتُ من كثرةِ العطشِ الذي ألمَّ بي، كالحمَّى، دون استئذان. مكثتُ لحظات على هذه الحال، ثمَّ تابعتُ السّيرَ في رقادي دون تردُّد!

.

في اليوم التّالي، أي الجمعة، زرتُ مدينتي الجديدة مونبلييه Montpellier الواقعة في وسط جنوب فرنسا

.

.

وتعرّفتُ سريعاً على وسطها السياحيّ بجولةٍ قمتُ بها مع الأرجنتينيّ النّحيف كارلوس. وبعدَ عدّة أيّام، ولعدم رغبتي في قضاء الوقت عبثاً، ذهبتُ إلى أحد معاهد البلدة لتعلّم الفرنسيّة، وهناك قامتْ ناتالي سكرتيرة الطلبة باصطحابِ الطلاب الجدد للتعرّف على أهمّ آثار المدينة الثقافيّة والدينيّة، حيث حدّثتنا بلهجةٍ فرنسيّةٍ جنوبيّة، لم أفهم منها إلا الإشارات، عن كاتدرائيّة القدّيس بطرس التي سلبتْ أنظارَ الجميع. ثمَّ أسرعتْ بعدها لتقف بنا أمام أقدم جامعات الطبّ في العالم.

.

كانَ هذا الشّهرُ سياحيّاً ثقافيّاً بطرازٍ رفيع نقلتني أيّامُه بين مدنٍ مختلفة مثل نيم Nîmes

.

.

تجوّلنا فيها ليومٍ كامل ومررنا على المسرح الرومانيّ المدوَّر، المُشابه للكولوسِّيوم الرّابض في وسط روما القديمة. لم نتمكّن من الدّخول بسبب خضوعه للترميم والإصلاح، فعدّلنا المسير متّجهين نحوَ مكانٍ آخر.

.

.
التقينا بأثرٍ رومانيّ آخر هو المعبدُ المسمَّى بـ "المربَّع"، وهناك فاحت روائح جثث الآلهة التي ماتت منذ تلك الأيّام!
.

.

ولم نغادر المدينة دون العبور في محطّة الجسر الضّخم العتيق المدعوّ Pont Du Gard Aqueduct، وهناك بقينا صامتين مدهوشين كراهبٍ راكعٍ أمام المصلوب.

.

.

تشابهت الزّيارة في مدينة آرل Arles حيث تباركنا من الفنّ الرّومانيّ في مسرح المدينة ومتّعنا النّظر من جديد بهيبة الكولوسِّيوم الآرليّ، وبقربِه اخترنا مطعماً صغيراً ذقتُ فيه الكريبْ الفرنسيّ للمرّة الأولى.

.

.

هكذا كانت أسفارُنا بين مدن الجنوب فمن إكس آن بروفانس aix- en- provence حتّى مرسيليا التي قضينا فيها ليالٍ لا تُنسى، ومن شاطئها أشاروا لنا إلى جزيرةٍ بعيدة قائلين: تلك هي جزيرة مونت كريستو! ومرّةً كنّا نجتازُ حيّاً فقيراً بالياً من أحياء المدينة، فقال صديقي الفرنسيّ مشيراً إلى مجموعة البنايات المليئة بثياب الغسيل كلوحةٍ تشكيليّة، هنا وُلد زينُ الدّين زيدان. ولم نفوّت البحرَ إذ قضينا نهاراً كاملاً على شاطئ كَسّيس cassis الصّخريّ وهناك قفزتُ كالمجنون في بحرٍ تملأه الصّخور الضّخمة القريبة من سطح المياه من ارتفاعٍ يزيد عن ثمانية أمتار. ومن شدّة الهلع شعرتُ أنَّ الصّخرة التي هبطتُ عليها وقعتْ فوقَ رأسي، والماءُ يجعلُك مقلوباً فلا تعلم رجليك من رأسك. كنتُ مفعماً بحماسة الشّباب وحماقتهم!!!

.

تميّزت مدينة آفينيون Avignon بقصرٍ ماردٍ راسخ بالقرب من نهر الرّون Rhon يصله ممتدّاً بأجنحته وساحاته وجدرانه فيبلغ قلبَه عبر جسرٍ يروي عنه التقليد أسطورةً مقدّسة. فأمّا القصرُ فيدعى قصرَ البابوات، أقامُه البابا إقليمندوس الخامس الذي جاءَ فرنسا ليسكن هذه المدينة، وبقي من بعده تسعٌ من رؤساء الكنيسة الرّومانيّة يقطنون فيه، حتّى استطاعت قدّيسةٌ سويديّة تُدعى بريجيديا، بتقواها وقداستها، إقناع البابا بالعودة إلى روما كرسيّ الخلافة البطرسيّة سنة 1377. مكثنا في القصر مدّةً لم تكفِ للتعرّف عليه كما يليق بهذا الصّرح التاريخيّ، ومنه ارتجلنا الطّريقَ نحو جسر القديس بينيزيه الشّهير.لهذا أيضاً أسطورة دينيّة تروي أنَّ أهلَ البلدة كانوا يذوقون المرَّ في عبورِ النّهر العريض، فقامَ قدّيسٌ يدعى بينيزيه ببنائه بمعونة الملائكة. لطالَما أدهشتني تقوى المؤمنين!!! حكايات وغرائب يتمسّكون بها ويرصفونها بين أحجار التقليد لتصبحَ في ما بعد مدماكاً رمليّاً عليه يُقيمون الإيمان... هراء! فالأخير لا يقوم إلا على الاختبار والمعرفة ولا يبدو جليّاً إلا بالأعمال.

.

.

نعودُ إلى الصّفرِ والعودُ أحمدُ، ففي هذا اليوم بالذّات أي التاسع والعشرين من آب غادرتُ البلدة التي عشقتُها وقضيت بين ربوعِها شهراً من الزّمنِ راكباً الحافلة. في الحقيقة خُيّرتُ بين الطّائرة والقطار وتلك، وفضّلتُ الأخيرة لرغبتي في قضاءِ وقتٍ طويلٍ وحيداً مسافراً ألقي بما بقي عندي من نظرات على البلاد التي تنتشر على طول الطّريق! وهكذا أقلّتني السيّدة دومينيك بسيّارتها السيتروان إلى المحطة وفيها ركبتُ حافلةً ألمانيّة يقودُها رجلٌ بشاربٍ أحمرَ عريض غاضبٌ على الدّوام. دخلتُها وجلستُ في المقعد الأوّل خلفَ السّائق، وما أن وضعتُ نفسي في مكانِها ورآني النازيُّ الواقف خارجاً حتّى هبَّ حانقاً يصيحُ في غضبٍ Nein... Nein... محرّكاً سَبَّابته يميناً شمالاً وهو يتّجه نحوي. في الحقيقة لم أفهم ماذا يريد لأنّي وللمرّة الأولى أسمعُ هذه الكلمة الألمانيّة. دخل وبدأ يصيحُ فيّ بلغته المملوءة خاءً، وشاربه يهتزُّ وقد جحظتْ عيناه فقلتُ في نفسي: اللهُ يعلمُ كم شربَ هذا السكّيرُ قبل الرّحيل! أجبتُه بإنجليزيّة ركيكة وقلتُ: لا أفهم الألمانيّة حدّثني بالإنجليزيّة. لكنّه بعرقِه الآريّ أبى عليّ ذلك واستكبر ومضى قدماً بلغة الفلسفة واللاهوت والاستشراق. تأفّفتُ مراراً وتكراراً حتّى أمدّني اللهُ بمعاونه اللطيف الذي لحقنا وقال لي بهدوء: يسألك ألا تجلس خلفه فهو يريدُ وضعَ حاجاته!!! لعنتُ هتلرَ سبع مرّات. وحملتُ حملي وأخذتُ مكاني في الطّرف الآخر.

.

بعدَ قليلٍ بلغنا آفينيون وكان علينا البقاءُ فيها ساعةً فنزلتُ وجلتُ في السّوقِ القديم متوقّفاً أمامَ مكتبةٍ لبيع الكتبِ القديمة. تأمّلتُ الواجهةَ وكتبَها المطبوعة بثقافةٍ فرانكفونيّة بيّنة. لم أجرؤ على الدّخول لأسبابٍ جلّها يتعلّق بفرنسيّتي "الفايتة بالحيط" وجيبي "المبخوش" كأبنية برج حمّود في بيروت!عندَ مشارف مدينة ليون الجميلة بدأ الرّذاذ ينهمرُ ضافياً على مشهدنا عذوبة ما بعدها شيء آخر. في محطّة المدينة الرّئيسيّة حيث استرحنا لنصفِ ساعة تكرّر غضبُ النازيّ الذي رفضَ أن يحدّثَ شابّاً أميركيّاً إلا بلغة قومِه وبلدِه... أوفّ منك يا أحمرَ الشّارب! أسعفه المعاونُ مرّةً أخرى. مررنا أيضاً بستراسبورج ومدن أخرى كثيرة وأنا أرقبُ الطّريقَ وأذيّل الخارطة المفروشة أمامي بهوامشَ وإشارات متطلّعاً بين الفينة والأخرى على تلك اللافتة فوسفوريّة اللونِ Sortie حتّى لمحتُها من بعيد بلغةٍ أخرى تقول Ausfahrt وتشير إلى أنّنا وطئنا عتبة القبائل الجرمانيّة.

هناك تعليقان (2):

رئـــــيسـة حزب الأحلام يقول...

جميل اسم المدونه
واهدافها نبيله
وافكار مسترسلة
تحياتى

سيمون جرجي يقول...

العزيزة رئيسة حزب الأحلام
تحية وبعد

شكراً لمرورِك العابق بعبير زهرِ الربيع. لك مني أطيب التحيات، ودمتِ.