الثلاثاء، ديسمبر 09، 2008

خمسة أيّام في العراق تحتَ الحرب (1/2)

من حيّ القادسيّة الثاني توجّهنا إلى أحد أقدم أحياء الموصل "حوش البيعة" حيث تنتشر الكاتدرائيّات في منطقة مرتفعة بأزقّة ضيّقة تشابه الأحياء الدمشقيّة والحلبيّة، وهكذا عبرنا جسرَ نينوى العتيق الذي صنعه الإنجليز في الثلاثينيّات من القرن المنصرم وعنده التقطنا صورتين! توغّلنا في الشّارع المقابل المزدحم حتّى وصلنا ساحية خالية قد تحوّلتْ إلى موقفٍ للسيّارات وفيها وضعنا سيّارتنا مقابل 500 دينار.
.
أكملنا راجلين في تلك الحارات التي لا تسع إلا المشاة صعوداً وأخيراً بلغنا الكاتدرائيّة السريانيّة، وفي هذه الأثناء هتفَ المؤذّن يعلن الصّلاةَ لكلّ راغبٍ في الإله ولكلّ عابدٍ يشتهي العبادة! قرعنا البابَ فخرجَ شابٌّ رحّبَ بنا وأهّل وسألناه أن نسلّمَ على صاحب عرش الكاثدرا فسألنا الانتظار في مكتبه الصّغير، وبعدَ عدّة دقائق نزل أحد الآباء الكهنة وأخبرنا أنَّ المطران في الانتظار! جلسنا في حضرة جزيل الاحترام هذا وعرّجنا على كثيرٍ من الأحاديث كانَ أهمّها تلك الكنائس البروتستانتيّة التي أدخلها الجيشُ الأميركيّ معه إلى العراق، وصارتْ معاناة حقيقيّة وتحدّياً أمام الكنائس الشرقيّة القديمة، وخاصّة مع المعونات الماديّة التي قدّمتها فجذبتْ إلى أحضانها الكثيرين، لا بل أعادت العماذَ ضاربةً بعرض الحائط أحد أركان العقائد المسيحيّة الشرقيّة. وأخبرنا أنَّ عدد تلك الكنائس في هذه الأيّام بلغ حوالي 13 كنيسةً متجدّدة، واشتهرتْ إحداها باسم "اللاطائفيّة"! من مكتبِه عرّجنا قبلَ الرّحيل على مدافن الكهنة، وهناك شاهدتُ أسماءً خدمتْ في منطقة الجزيرة السوريّة في النّصف الأوّل من القرنِ الماضي.
.
ومن حوش البيعة أخذنا السيّارة متّجهين إلى الكاتدرائيّة الكلدانيّة "الطاهرة" (بعدَ حوالي ستّة أشهر، وبالضّبط في يوم الثّلاثاء الواقع في السّابع من شهر كانون الأوّل في هذا العام، قامَ أكثر من عشرة مسلّحين بإخلائها ثمَّ تفجيرها وإحالتها إلى ركام). بعدَ أن تركناها بشموخِها المنهار قريباً، عبرنا الجسرَ الحديث الكبير فبدتْ قلعة "باشطابيا" ونهر دجلة يمرُّ رافعاً أنفَه بزهوّ الآشوريّين وأبناء آثور فيضحي مشهدُ الطّبيعة والبناء قطعةً من فنٍّ إلهيٍّ قديم!
.
أكملنا مسيرنا واجتزنا جامعاً يُعدُّ من أضخم جوامع الموصل حتّى وصلنا قصرَ الموصل الخاصّ بالرّئيس التكريتيّ السّابق غفرَ اللهُ له سيّئاته وأجزاه خيراً بدل الحسنات إن وُجِدَتْ. أوقفَ أبو بشّار عربتنا في "البنزيخانة" وهي لفظة عراقيّة تحلّ محلّ محطّة الوقود، وبعد أن تناولت السيّارة وجبةً سريعة، انطلقتْ خارجةً من الحدباء مودّعةً البناءَ متّجهةً نحو مثوى الشّهيد بهنام في مقامه المشهور. كانت الشّمسُ في هذه الأثناء تحتضرُ في مغربِها، وإليها تحنُّ قببُ الكنائس بصلبانها ومآذن المساجدِ بأهلّتها مُحمرّةً بنزاع الموت المتواتر في كلّ يوم، وقبلَ انتهاء السّاعة الأخيرة، لوّحتني وأسبغتْ عليَّ قبساً من سحرِها مكفّنةً سحنتي بسمرة الموصل العراقيّة.
.
وصلنا ديرَ الشّهيد وقد أنهى النّورُ العظيمُ احتضارَه وماتَ بعيداً عن العيون، لكنّ الأفقَ ما زالَ مضاءً غيرَ مُصدّقٍ هذا الرّحيل! وبمرافقة بقايا أشلاء النّور زرتُ الضّريحَ وحيداً ووقفتُ فوقَ سطحه أنظرُ إلى بيادر القمحِ المصفرّة تنتظرُ الحصاد! نزلتُ إلى المكتبةِ وأفرغتُ فيها شرهي الأبديّ إلى شراءِ الكلمة، وعندَ ذلك وصلَ رئيسُ المقام مرحّباً مؤهلاً بنا. وأعادَ عليَّ زيارة الضّريح مع شرحٍ تاريخيٍّ مُسهَب وأخبرني أنّه يُعدُّ كتاباً جديداً عنهُ يشرحُ فيه كلَّ كتابةٍ موجودة على الجدران والأبواب والمدافن الأثريّة.
.
أعادني وصفُه وشروحاته الدّقيقة إلى قرون المسيحيّة الأولى، فامتطيتُ الفرسَ مع مار بهنام وأخته سارة هارباً من وجه أبيه الوثنيّ، ووضعتُ أخيراً عنقيَ معه تحت سيف الاستبداد، واستمعتُ قبلَ استشهادي إلى آلاف من الشهادات قُدّمتْ ثمناً للإيمانِ بالمسيح.
.
وفي التّاسعة من مساء هذا اليوم ولجتُ تحت أستار الليلِ مقترباً بخفرٍ وحياء من ضريحي بهنام وسارة وهناك صلّيتُ راكعاً ودعيتُ إله الأزل والأبد وربّ الأكوان من أجلِ صديقٍ وصديقة يحملان اسمَي الشّهيدَين. وبعدَ ذلكَ اجتمعنا حولَ طاولةٍ صُفّت عليها ضروب الطّعام الشرقيّ، وكانتْ شهيّةً بما فيه الكفاية لأنزعَ حزامي وأفكّ عروة البنطال وأكتسح بجوعي الأطباقَ والأقداح! أنهينا واجبَ الحاجة والغريزة وقمنا جميعاً لنطّلعَ على أرشيفٍ ضخمٍ منوّع يعدّه ويحفظه الرّئيس ويثبت فيه كلَّ ما ذكرَ عن شهيدنا ومقامه في الإعلام المرئيّ والمسموع.
.
كنتُ قد أنهيتُ ما اختزنتُ فيَّ من طاقاتٍ، فهجعتُ إلى غرفتي واستلقيتُ على السّرير ونمتُ من فرط التّعبِ، وهكذا كانت ليلتي الأولى في أرضِ الحضارة الماضية بين جدرانٍ تُحدّث بكلِّ قديمٍ وبالقرب من شهداء القرن الرّابع.

ليست هناك تعليقات: