الخميس، ديسمبر 04، 2008

خمسة أيّام في العراق تحت الحرب (1/1)

كانت البداية عندما كنّا مدعوّين إلى العشاءِ في منزلِ أختي مع قريبٍ لنا من العراق يُدعى أبا بشّار. بعدَ الطّعام وفي جلسةٍ حول القهوة التركيّة حدّثنا أبو بشّار وقال إنَّ عليه العودة يومَ السّبتِ القادم إلى العراق لأشغالٍ مستعجلة، ولن يمكثَ هناك طويلاً بل سيعود إلى عائلته التي اكترتْ منزلاً في بلدتنا، وأكملَ مازحاً يسأل: من يودّ مرافقتي؟! كسرتُ الصّمتَ الذي سادَ لثوانٍ وقلتُ: ها أنذا! سآتي معكَ فمنذ زمنٍ بعيد وأنا أشتهيَ رؤيةَ العراق أرض الحضارة البائدة. علتِ الأصواتُ تندّد بي وبهذا القرار، وغضبَ والداي ونعتني الجميعُ بالجنون، ووقفتْ أختي التي تصغرني بعام في وسط الصّالة بذهول وخوفٍ وقالت: ماما لا تتركيه يذهب! وفي ذلك الضوضاء الذي استمرَّ يحيط بي من كلِّ جانب جلسَ أبو بشّار صامتاً شاعراً بالنّدم على مثل هذه الدّعوة إلى بلدٍ سقطتْ عاصمته قبل مدّةٍ يسيرة والحربُ تعملُ فيه على قدمٍ وساق! بينما رحتُ أنا أبتسمُ هازئاً بالمخاوفِ مترقّباً مغامرةً من نوعٍ فريد لا تصحّ لكلِّ راغبٍ أو مريد. كانت والدتي أكثرَ الذين أعادوا على مسمعي النهيَ، وحاولتْ مراراً وتكراراً طوالَ الأيّام التي تلتْ ذاكَ المساء أن تثنيَني عن عزمي دون فائدةٍ تذكر، فقد منحني اللهُ رأساً عنيداً عنادَ البغلِ وقلباً شجاعاً كالأسدِ حرماني العودة عن أيّ قرار!
.
السّبت 12 حزيران 2004 (اليومُ الأوّل)
وفي هذا اليوم أفقتُ مبكّراً مع ديوك الفجرِ مفعماً بالحماسةِ والترقّب لرحلةٍ جديدة أقضيها في بلدٍ وعالمٍ جديد تحت وقع حربٍ لا تعرفُ الرحمةَ والرأفة بل الموت الذي نشرته في كلِّ مكان. وصلَ أبو بشّار بسيّارة ألمانيّة الصّنع من نوع الأوبل لعام 2000. كانت السيّارة صغيرة إلا أنّها كانت متينةً بما فيه الكفاية للقيامِ بمثل هذه الرّحلة الطويلة. كنتُ مستعداً فانطلقنا مباشرةً دون تأخير ومررنا في طريقِنا داخل البلدة بإحدى العائلات العراقيّة المهاجرة التي سألته منذ أيّام أن يقلّهم معه إلى الموصل. عندَ الباب وقفتْ امرأةٌ في الخمسينات من العمرِ بثيابِ النّوم، ودارَ بينها وبين أبي بشّار حديثٌ انتهى بمغادرتنا دون اصطحابهم لكثرة حاجاتهم وضيق المكان.
.
في حوالي الثّامنة أخذنا الأوتوستراد نحوَ مدينة القامشلي وقبلَ بلوغِها انعطفنا إلى الشّرق باتّجاه اليعربيّة وهو الاسم العربيّ الذي أطلقتُه دولةُ البعث على "تل كوجك" حيث يقعُ المركز الحدوديّ الفاصل بين سورية والعراق. في التاسعة والنّصف نزلنا من السيّارة وراحَ كلٌّ منا لينهي معاملات العبور. عندَ رؤية جواز سفري السوريّ أرسلني ضابطُ الأختام إلى معاونِ رئيس المركز وهو من رتبة ملازم ويُدعى سِراج عبد الله، وهذا استقبلني بلطفٍ وطلبَ كأساً من الشّاي لأجلي، وأخبرني أنَّ التعليمات الصّادرة عن إدارة الهجرة والجوازات في دمشق تقتضي بعبورِ من هم فوق الأربعين سناً فقط لدواعٍ أمنيّة! سألتُه إن كانَ ثمّةَ من يستطيع مساعدتي فأرسلني مباشرةً إلى رئيس المركز وهو برتبة نقيب ويُدعى زكريّا. كانَ حاداً وفظاً ولم يقبل حتى الكلامَ في الأمرِ فخرجتُ غاضباً وهاتفتُ صديقاً لي أفاقَ من نومِه على صوتِ صراخي وهرع إلى فرع إدارة الهجرة وطلبَ من العميد مساعدتي وهذا اتّصلَ بدورِه بالنقيبِ زكريّا وبعدَ أن علّمه درساً في أصولِ الأدبِ والاحترام أوعزَ إليه أن يسيّرَ معاملتي. بعدَ قليلٍ خرجَ عنصرٌ برتبة مساعد يبحثُ عني وقامَ بيده بكلِّ شيء بناءً على أوامرِ النقيب مباشرةً. وهناك دفعتُ ستّمئة ليرة سورية ثمناً لخروجي من وطني!
.
على الحدودِ العراقيّة المدعوّة "ربيعة" أنهينا المعاملة سريعاً، ومنها عبرنا إلى أرضِ النّهرين التي ما زالَ عبقُ الآراميّة يتردّد في أجزائها، وما زالت صروح النينويين تحدّثُ بأمجادٍ غيّبتها الحروب والنزعات الجشعة! بعدَ اجتيازِ الحدودِ وقفنا لملء السيّارةِ بالوقود، وكانَ ثمنُ التنكة الواحدة، أي عشرين ليتراً، ألفَ دينارٍ ما يُعادلُ ثلثي الدولار الأميركيّ، وكانَ البائعُ طفلاً لا يتجاوز العاشرة من العمر.
كانت المنطقة التي اجتزناها تخضعُ لعشائر الشمّر العربيّة وهي ممتلئة بقطّاع الطّرق وعصابات النهب والسرقة والقتل. إلا أنَّ رئيسَ العراق المُقبل على استلامِ الحُكم وهو من عائلة الياور ينتمي إلى أحد الأفخاذ الشمريّة، ولهذا فرضَ على بني قومِه حماية المنطقة إكراماً لانتماء رئيس العراق الجديد!
.
عندَ اقترابِنا من السكّة الحديديّة كنتُ وأبو بشّار في حديث شائق حول العراق ولم ينتبه إلى مفرقٍ بزاويةٍ حادّة، فلم يتمكّن من الانعطاف برغم محاولته عبثاً، فداسَ على الفرامل واستمرّت السيّارةُ في تقدّمها حتى خرجنا عن الطريق وطرنا وسقطنا من ارتفاعٍ يتجاوز المتر. الحماية الحديديّة في أسفل السيّارة درأت عنها شدّة الاصطدام وحمتنا من أيّ ضرر، فشكرنا الله المنّان على هذه النعمة. اقتربَ البعضُ يسألُ عن سلامتنا إلا أنَّ أبا بشّار أدارَ المحرّكَ وعادَ من جديد يأكل الطّريق الصّحراويّ قاصداً الموصل الحدباء.
على اليمين انتشرتْ معاملُ الإسمنتِ في منطقةٍ سهلة تبشّر باقترابِ الوصول، وعلى بعد عشرات الكيلومترات ارتفعت الجبالُ ساحقةً بأنفتها تواضعَ السّهول.
.
بلغَ النهارُ منتصفه وبلغنا نحنُ بوّابةَ الموصل أمّ الربيعَين كما سمّاها العربُ، ونواردشير أي المدينة الجديدة كما سمّاها الفرس. وأول شيءٍ استرعى انتباهي كانَ الجامعُ الموصلّي بمئذنته القصيرة وقبّته العريضة المتميّزة. ثمَّ أشارَ أبو بشّار إلى فندق الموصل الشّامخ البادي بوضوحٍ عندَ مدخلها. كنتُ أمتّعُ ناظريَّ بأرضٍ جديدةٍ وطرازٍ من العمارة جديد يتميّز بنكهةٍ خاصّة تختلفُ عن الفنّ السوريّ بجمالِ الواحةِ في قلبِ الصّحراء. أكملنا الطّريقَ وارتقينا الجسرَ فأصبحَ فندق الموصل أمامنا مباشرةً بالإضافة إلى جامعٍ بقبّة صفراء بلون الصحراء، وعلى الجانب الأيمن اضطجعَ مشفى سينا التعليميّ. وبعدَ أن عبرنا جسرَ الشّهداء النائمِ فوقَ نهر الدجلة الذي تزيّنه الجزرُ الملأى بالأشجار، وتملأُ سماءَه مروحيّات الدوريّات العسكريّة الأميركيّة، دخلنا في دغلٍ كثيفٍ يُدعى "غابات الموصل" تكثرُ فيه أشجارُ الكينا التي تبعثُ من أوراقها أريجاً خاصّاً يطهّرُ الهواءَ من كلِّ شيءٍ ما خلا الغبار الذي لا بُدَّ منه لاكتمال المشهد الصحراويّ.
.
في أثناءِ توجّهنا إلى مركزِ المدينة مررنا بجامعِ طالب العثمان، وهو مبنيٌّ بحسب النمط السّائد الذي وصفتُه قبلَ قليل: قبّة ضخمة عريضة صفراء ومئذنة قصيرة يتوّجها هلالٌ صغير. إلى يسارِنا برزتْ جامعةُ الموصل فأمّا إلى اليمين فالأسوار الأثريّة أعادتني إلى زمن الامبراطوريّة الآشوريّة وسمعتُ صوتَ جبابرة آشور يقولون لي بالآراميّة: ܒܫܝܢܐ ܘܒܫܠܡܐ ܒܐܬܪܐ ܕܐܬܘܪ أهلاً وسهلاً في أرضِ آثورَ. وفي مقابل الأسوار الأثريّة ارتفعَ سياجٌ يُحيطُ بقصرِ الرئيس السابق صدّام حسين أخفاهُ الأميركيّونَ خلفَ ترسانات إسمنتيّة مدعّمة وأسوارٍ حديديّة شائكة تتشكّل من شرائط دائريّة الشّكل. وبعدَ قليلٍ شاهدتُ مدرَّجاً قال لي عنه أبو بشّار "هنا كانَ يخطبُ عزّة إبراهيم الدوري" وهذا أصله من الموصل كان رئيساً للوزراء على عهد النظام السّابق وهو من لائحة المطلوبين الذين ما زال يبحثُ عنهم الجيش الأميركيّ. أنهينا أوصافنا ومشاهداتنا تحت صراخ معدة كلّ منا فحثثنا السّير إلى مكانٍ نسدُّ فيه ثغرات جوعنا وتعبنا.
.
في حيِّ الزّهور جلسنا في مطعم "القبطان" وطلبنا "لحم بعجين" على الطريقة الموصليّة، طلبنا ثلاثاً إحداها "بالبيض نصف استواء" أي رغيفاً من اللحم يفترشُ الطبّاخُ فوقَه بيضةً نصف مقليّة. ذهبَ أبو بشّار خلال إعداد الطعام واغتسلَ من غبارِ وتعبِ الطريقِ، بينما رحتُ أنا جالساً أغسلُ عينيَّ بمشاهدة الجوار وأتلذّذ بالمرّة الأولى التي أزورُ فيها أرضاً تنتهكها الحربُ انتهاكاً صارخاً! على لافتة المطعم كُتبت كلمتان "كاهي بورك" سألتُ أبا بشّار عنهما فأجابني "هذيك" رافعاً إصبعه مُشيراً إلى نوعٍ من المعجّنات المحلّى. كانَ الذبابُ قطعاناً يتكاثرُ علينا كأنّنا قطعةٌ من الحلوى يريدُ التهامها بأدرانه وسنانه ذكّرني بذاك القاضي العراقيّ الذي كسرَ وقارَه وهدوءَه بسبب ذبابة. كانَ الطّعامُ شهيّاً جداً مُعداً على الصّاج لم يأخذ معنا وقتاً طويلاً، وبعدَ معركةٍ قصيرة معه، ملأ رفيقُ دربي رأسَه بسيجارةٍ ثمَّ قامَ ودفعَ الحسابَ وأشارِ لي إلى السيّارة وفيها أعلمني أنّنا سنزور خالته السوريّة في حيّ القادسيّة الثاني.
.
كانت الأزقّة في هذا الحيّ مملوءة بالنفايات والمياه العطنة تنسابُ في وسطها وأسلاك الكهرباء تملأ سماءَها كشبكة عنكبوت تنتظر الفريسة! دخلنا البيت وشاهد أبو بشّار أخته التي تسكن في بغداد وفرحَ جداً بها وتبادل معها الأحاديث وسألها عن زوجِها فأخبرته أنّه في الموصل وهو قادم بعد قليل. استرحنا قليلاً وشربنا الماءَ واللبنَ والشّاي، ثمَّ وضعت خالته الدولما (المحشيّ)، ودعونا إلى مشاركتهما إلا أنّنا اعتذرنا فقد سبقَ السّيفُ العَذَل في مطعم القبطان. وصل صهرُه وأكملنا تعارفنا، وعلمنا منه أنّهما، أي أخته وزوجها، مزمعان على الذهاب إلى شقلاوة بعد المرور بدهوك.

هناك 4 تعليقات:

Sam يقول...

دائما ما تشدني رحلاتك
تارة تغنيني عن السفر بدقة الوصف وجمال السرد وطورا تغريني بالسفر للمرور بأماكن مررت بها انت

سيمون جرجي يقول...

أهلاً بك يا عزيزي سام بين صفحاتي ورحلاتي، وأشكرُ لطفَك على تلك الكلمات الرّقيقة التي أغدقتها على وصف أسفاري الفقيرة.

هل أنتَ صديقنا I am Sam في الأخويّة أم شخص آخر؟!

مودّتي.

Sam يقول...

هو بلحمه ودمه .
وتجوالاتي أوصلتني اليك هنا .
أعتبرها ساعات حظ فقد أوصلتني اليك وعرفتني الى صديق مشترك أرجو أن يكون أوصل سلامي اليك

سيمون جرجي يقول...

أهلاً أهلاً يا ابنَ سورية البارّ...
وكانَ جميلاً ومُفرحاً أن تعثرَ عليَّ، فأجدك بين دفّتيَّ تقلّب في صفحات قلبي.
هو صديقُنا بعينِه، وقد أوصلَ السّلام، لا بل حدّثني عنك دون إسهاب.

نلتقي قريباً يا عزيزي سام، وأهلاً بك من جديد (وردة).