الخميس، ديسمبر 11، 2008

حِكايةُ الحمارِ الصّغيرِ جِيو وصلاةُ الحمير!

في قديمِ الزّمان وسالف العصر والأوان عاشَ حمارٌ صغير طيّبُ القلبِ كالخبزِ، قويٌّ كالبغلِ، ذكيٌّ كالثّعلب. كانَ يُدعى جيو أي "أرض". وكانَ جيو ينحدرُ من عائلةِ حميرٍ فلاحين يعملون في حراثةِ الأرضِ، وكانَ محبوباً من الجميع.
.
في أحد الأيّام قرّر جيو أن يتركَ العمل الجماعيّ ويكرّسَ نفسَه من أجلِ خدمة الجميع دون أيّ مقابل، وقال في نفسِه: لن يهملني الإله الصّالح وسيعينني على أن أجدَ قليلاً من التّبنِ والماءِ حيثما ذهبتُ.
.
وهكذا حيّا الحميرَ والأبقارَ والدّجاجَ ومضى مشغولَ البال لكن واثقاً بنفسِه، فأخذَ طريقَ الحقلِ ورحل. في الطّريقِ أوقفهُ كلبٌ وقال: عَو، عَو... أينَ تذهب يا جيو؟! "أذهبُ حيثُ يقودني الرّوحُ" نهقَ جيو مجيباً. لكنَّ الكلبَ هزَّ رأسَه وظنَّ أنَّ جيو قد تعرّض لضربةِ شمس.
.
بعدَ ثلاثة أيّامٍ من مسيرةٍ طويلة بلغَ جيو إحدى الغابات، ومن بعيدٍ رآه حمارُ الوحشِ وقال: هذا هنا منّا، سيكون عضواً مناسباً في فريقي. وأخيراً وصلَ جيو وقدّمَ نفسَه: أنا هنا، المعذرة، لا أريدُ أن أزعجَ أحداً. في المزرعة لم أكن مقتنعاً بما أقومُ به، أودُّ أن أفيد الآخرين أيضاً، لا يُمكنني أن أحيا من أجلِ ذاتي فقط! أُعجبَ الجميعُ بحديثِه واستقبلوه بحفاوةٍ بالغة، بأناشيدِ الطّيورِ من كلّ صنفٍ وبرقص الغزلان. "عزيزي جيو، أنتَ واحدٌ منّا"، قالَ أحدُهم بصوتٍ ثخينٍ منخفضٍ، "أهلاً بك!". ورأى جيو أوّلَ مرّةٍ وجه الخنزير موف، وكانَ هذا رئيس الجماعة.
.
ولأنَّ الوقتَ تأخّر واقتربَ الليلُ، استأذنَ جيو في الذّهابِ إلى النّوم، واستلقى تحت سنديانةٍ عملاقة، تثاءبَ بعمق وغطّ في النّوم. حطّت على شجرةٍ قريبة جماعةٌ من الأبوامِ تخرجُ في الليل، وراحت تراقبُ بفضولٍ القادمَ الجديد. تكلّمَ أحدهم وقال: نموذجٌ جديد! يا للعجب، يا لهذه القامة! عشتُ يوماً في إحدى المزارع ولم أرَ مثل هذا قطّ. قال الثّاني: نعم، هذا صحيح، لكن ما يهمّني هو ما يحمله المرءُ في قلبِه. ضحك الثّالث مطلقاً لحيته من بين يديه وقال: له أذنان طويلتان تكفينا نحن الثّلاثة، ها ها ها...
.
وهكذا طلعَ الصّباحُ وامتلأتِ الغابةُ بالأناشيد والألوانِ. يا لهذا الجمال! فعلاً كانَ يستحقُّ مثل هذا العناء، قالَ جيو في نفسِه. إلا أنّ الفرحة لم تكتمل، ففي الغابة كانَت هناك مشكلةٌ: مرضٌ غير معروف، ربّما الجذام، أعاقَ خنّوصَين عن السّير. بعضُ الغزلان التي كانت تذهبُ عندَ المساء لتشربَ من النّهر كانت تتحدّثُ عن مياهٍ عجيبة أو عن طبيبٍ قندسٍ كان يشفي من الأمراض والعلل في تلك الناحية. إلا أنَّ بلوغَ النهر كان يحتّمُ المرورَ بمرجٍ تسكنه جيادٌ غريبة عنيفة... فكيفَ السّبيلُ إلى ذلك؟!
.
جمعَ الخنزيرُ موفَ الجميعَ حتّى جيو واستشارهم في الأمر، وبعد أن طرحَ المشكلة لم يتمكّن أحد من إيجادِ حلّ. عندئذٍ تدخّل جيو وقال: يُمكنني أنا أن أحملهم إلى هناك، أعرفُ الجيادَ جيّداً. وكيفَ ذلك؟ قالَ الكبيرُ موف بنظرةٍ برّاقة مملوءة بالرّجاء. دع الأمرَ لي... أعدّوا سَرْجاً خاصّاً بخَرْجَين، أجابَ جيو. عندئذٍ طلبَ موف من التّمساح أن ينشرَ قليلاً من اللـيّانة من تحت الماء، ومن السّناجب أن تصنعَ سلّتين كبيرتين لوضعهما فوق ظهر جيو. إضافةً إلى ذلك طلبَ منهم جيو أن يصنعوا قطعاً من حلوى العسلِ، فدعا موفُ القاقُمَ الذي قامَ بإعداد الحلوى بمساعدة النّحلات.
.
في اليوم التّالي كان كلُّ شيءٌ معداً فانطلقَ جيو حاملاً الخنّوصين وكيسَ الحلوى باتّجاه النّهر. كان الخنّوصان حزينَين وفوق الخدود الحمر تساقطت بضع دمعات من الألم. وعلى حينِ غرّة لاحَ عجاجٌ من بعيد: خيولٌ تعدو باتّجاه جيو الذي وقفَ بالقربِ من صخرةٍ ضخمة تشبه بيتاً يرتديَ طحالبَ وأدغالاً خضراء. كانت الخيولُ تقتربُ أكثرَ فأكثر، وفي اللحظةِ الأخيرة وثبَ جيو بعيداً فارتطمتْ رؤوس الخيل بالصّخرة وتسمّرتْ في مكانِها مصعوقة.
.
أكملَ جيو طريقَه وبلغ النّهرَ. كانَ القندسُ هناك قد أضرمَ ناراً وراحَ يشوي فوقها قليلاً من السّمك. "طابَ يومُك" قالَ جيو بأفضل نهيقٍ ممكن. "طابَ يومُك" غمغمَ القندسُ بفمٍ مليءٍ بالطّعام. مكثَ الحمارُ الصّبورُ بانتظارِه. وكانَ الطبيبُ يجرعُ مع كلّ سمكةٍ يزدردها قليلاً من عصير التّوت. وأخيراً مسّدَ كرشَه، وتجشّأَ، ثمَّ مسحَ شاربيه بالعشبِ وصاح: ماذا تريدون؟! في تلك الأثناء كان جيو قد اضطجعَ ليسمحَ للخنّوصين بالخروج من السلّتين. فركَ الطبيبُ عينيه وتطلّع إلى أقدامهم وقال: عندي لكم دواءٌ ناجع. أخذَ قليلاً من الأعشاب وبلّلها ثمَّ دقّها بذنبِه على جذعٍ صغير وأخذَ من دقيقها الأخضر ووضعه فوق أقدامهما ثمَّ لفّها بأوراقِ شجرٍ عريضة. دفعَ جيو لقاءَ هذه الخدمة قطعَ الحلوى المَصنوعة من العسل، وكانَ الطبيبُ القندسُ قد أصبحَ لطيفاً معهم وشكرهم منحنياً وقال: إذا ما احتجتم إلى أيّ شيء، فأنا هنا بانتظارِكم.
.
كانَ الخنّوصان يفكّران في طريق العودة وكيف ستكون! لكنّ جيو كانَ يشعرُ بأنَّ كلّ شيء سيكون على خير ما يُرام. وهكذا عبروا مرجَ الخيول التي احترمتْ مرورهم، وبلغوا الغابةَ وقصَّ جيو على موف كلَّ ما حدث.
.
في غضونِ أيّامٍ قليلة شُفيَ الخنّوصان تماماً. ومنذ ذلك اليوم دُعي جيو "السامريّ" وفهمَ أنَّ حياته الحقّة وسعادته تكمنان في تكريسِ نفسِه لخدمة الصّغار والمرضى.
.
صلاةُ الحمير
عزيزي الربّ... نحنُ الحمير نحملُ ثقلَ كذبةٍ كبيرة أطلقها البشرُ علينا بغير حقّ، نحملها بآذاننا حمايتنا المتينة ورادارنا الحقيقيّ. فأمّا نحن فنشكرك على ما وهبتنا من ذكاءٍ وصبرٍ وروحِ بذلٍ وليونة وبساطة. رائع! أيّ حيوان نال مثل هذه المكانة الكبيرة في حياتك؟! نحن فخورون بتقديمِ المساعدة عندَ ولادتك، بحملك معافىً إلى مصرَ، منتصراً إلى أورشليم، شافياً المُعنَّى على طريقِ أريحا. كم هو حلوٌ العملُ بالمجّانِ يا ربّ، وإتمام الأعمال من أجلِ الحبّ ومع الحبّ، بتواضعٍ وذكاءٍ. كم هو حلوٌ أن نجسّدَ التّضامنَ وأن نبذرَ الرّجاء. اجعل يا ربّ الإنسانَ يفهم الرّسالة التي نحملها في هذا الكون.
.
من الإيطاليّة:
L’albero delle favole, Francesco zambotti, terza edizione, Gribaudi, Milano 2000, PP. 9- 14

ليست هناك تعليقات: